الشمس آيةٌ مبصرةٌ وحجةٌ ظاهرةٌ

محمد بن عبدالله التميمي
1444/04/08 - 2022/11/02 10:10AM

الشمس آيةٌ مبصرةٌ وحجةٌ ظاهرةٌ

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعتبروا بآيات ومخلوقات الله، ولا تكونوا عنها غافلين، بل فيها متفكرين، ولربكم معظِّمين، فذلك وصف أولي الألباب المؤمنين، بخلاف حال المكذبين.

عباد الله.. آيةٌ مبصرةٌ وحجةٌ ظاهرةٌ ومعجزة باقية وحاضرة، تتجلى في كل وقت وحين، تشهد للحق وتبينه وتبدد سحائب الباطل وغيوم الضلال، إنها نجم مضيء في السماء يشع لنا حرارة وضياء، أقسم الله بها وقت تألقها، وساعة شروقها، إذ تبدو في أبهى حللها وفي أجمل أحوالها، فقال تعالى: {والشمس وضحاها} أقسم بها مع عشرة أقسام بعدها على أن الفلاح لمن زكى نفسه فطهرها وارتقى بها وحملها على طاعة الرحمن، والخيبة والخذلان على من ضيعها وأطلق لها العنان، وحملها على معصية الملك الديان. وفي سياق إقامة الأدلة الحسية على إمكان البعث يقول تعالى في سورة النبأ: {وجعلنا سراجا وهاجا}، واستشهد بها نوح عليه السلام على قومه مبيًنا لهم قدرة الله وعظيم إنعامه وجميل ألطافه والذي يرون مظاهره وآثاره بأعينهم: { أَلَمۡ تَرَوۡا۟ كَیۡفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبۡعَ سَماواتࣲ طِبَاقࣰا (15) وَجَعَلَ ٱلۡقَمَرَ فِیهِنَّ نُورࣰا وَجَعَلَ ٱلشَّمۡسَ سِرَاجࣰا} ولما ذكر الله نفور الكفار عن السجود له سبحانه بين ما إن تفكروا فيه بعثهم ذلك على الاستجابة والاستسلام فقال: { تَبَارَكَ ٱلَّذِي جَعَلَ فِی ٱلسَّمَاۤءِ بُرُوجࣰا وَجَعَلَ فِیهَا سِرَاجࣰا وَقَمَرࣰا مُّنِیرࣰا﴾

عباد الله.. لقد سخر الله جل جلاله الشمسَ لمنافع الخلق دائمة الحركة لا تتوقف إلى أن يأذن الله لهذا النظام بالزوال {والشمس تجري لمستقر لها} روى البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: «أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟»، قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: " فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنُ لَهَا وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ، فَلاَ يُقْبَلَ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِنَ فَلاَ يُؤْذَنَ لَهَا يُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} العزيز: الذي بعزته دبَّر هذه المخلوقات العظيمة. العليم: الذي بعلمه، جعلها مصالحَ لعباده، ومنافعَ في دينهم ودنياهم.

عباد الله.. إن الشمسَ آيةٌ من آيات الله وشاهدٌ يدل على قدرته ووحدانيته وتدبيره لملكه، تمدنا بالدفء والطاقة والضوء، ولها دورٌ أساسيٌ في عملية الإنبات والإثمار وإنضاجها، وبها نعرف الأوقاتِ والأيامَ والشهورَ والسنين، وغير ذلك من منافعها التي لا يحصيها إلا خالقها ومسخرها جل وعلا. قال تعالى: {هُوَ ٱلَّذِی جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِیَاۤءࣰ وَٱلۡقَمَرَ نُورࣰا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُوا۟ عَدَدَ ٱلسِّنِینَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَ ⁠لِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ یُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لِقَوۡمࣲ یَعۡلَمُونَ}.

والليل والنهار له ارتباطٌ بالشمس، فهي آية النهار، الظلام يَحِلُّ بغروب الشمس، ويُسْفِر الصبح بشروق الشمس، وقد اقترن ذكر الشمس بالقمر في أكثر المواضع لِـمَا بينهما من ترابط وتكامل {وَهُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلَّیۡلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلࣱّ فِی فَلَكࣲ یَسۡبَحُونَ}، وغالبًا ما يتقدم ذكر الشمس على القمر، لكونها آية أعظم، ونورها ذاتي، بخلاف القمر، فإن نوره قبسٌ من نورها وانعكاس له، { وَجَعَلۡنَا ٱلَّیۡلَ وَٱلنَّهَارَ ءَایَتَیۡنِۖ فَمَحَوۡنَاۤ ءَایَةَ ٱلَّیۡلِ وَجَعَلۡنَاۤ ءَایَةَ ٱلنَّهَارِ مُبۡصِرَةࣰ لِّتَبۡتَغُوا۟ فَضۡلࣰا مِّن رَّبِّكُمۡ وَلِتَعۡلَمُوا۟ عَدَدَ ٱلسِّنِینَ وَٱلۡحِسَابَۚ وَكُلَّ شَیۡءࣲ فَصَّلۡنَـٰهُ تَفۡصِیلࣰا} فجاء اقترانهما لبيان انتظام حركتهما ودوامها فلا تتوقف، بل تسير بحساب دقيق ونظام محكم لا يختل، وصدق الله تعالى: { ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ بِحُسۡبَانࣲ} يجريان متعاقبَين بحساب متقن، لا يختلف ولا يضطرب كما أمرهما الله عز وجل، {لَا ٱلشَّمۡسُ یَنۢبَغِی لَهَاۤ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا ٱلَّیۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ وَكُلࣱّ فِی فَلَكࣲ یَسۡبَحُونَ}، ولم تتغير الشمسُ والقمرُ منذ خلقهما الله عز وجل إلى أن يُفْنِيهِما، وهذا دليلٌ على كمال قدرة الله تبارك وتعالى، وكمالِ سلطانه وعلمه، وذلك -كما يقول ابن القيم- مما يدل من له أدنى عقل على أنه بتسخير مسخِّر، وأَمْرِ آمر، وتدبير مدبِّر، بهرت حكمته العقول، وأحاط علمه بكل دقيق وجليل.

عباد الله.. تفكروا في طلوع الشمس وغروبها، فالمنفعة في طلوع الشمس ظاهرة، على الإنسان والحيوان والنبات والأرض والحرث والعمل والنشاط والفلاح والربح والنجاح والبركة، وتفكروا في عظيم النفع في غروبها، فلولا غروبها لم يكن للناس هدوء ولا قرار مع احتياجهم لذلك، لكانت الأرض تَحمى بشروق الشمس حتى يحترق ما عليها، ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾. ويُحدث الله في الشمس تغيُّرًا ويُري عِبَرًا، فتَنكِسِفُ الشمس؛ تخويفا لعباده، بما يُحدث الله في خلقه، وما يَصْرِف من نعم، وما يُحِلُّ من نقم {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}.

ويُرشِدُ الله تعالى ويندب عباده إلى رؤية قدرته وحكمته ورحمته في فرد من عجائب مخلوقاته الدالة عليه فيقول جل ذكره: {أَلَمۡ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَیۡفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ وَلَوۡ شَاۤءَ لَجَعَلَهُۥ سَاكِنࣰا ثُمَّ جَعَلۡنَا ٱلشَّمۡسَ عَلَیۡهِ دَلِیلࣰا (45) ثُمَّ قَبَضۡنَـٰهُ إِلَیۡنَا قَبۡضࣰا یَسِیرࣰا}، وذلك شيئا فشيئا، في التغشية والتجلية، {والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى} ولو قُدِّر أن الشمس تخرج بغتة بعد ظلام دامس لأثَّر النور الساطع على الإنسان والحيوان والشجر والزرع، ومن ذلك نظر العين فإن فجأة النور القوي تضره، بخلاف ما إذا كان الشيء يأتي تدريجيًّا، وكذلك لو كان الليل والنهار دائمًا لا يزيد أحدهما ولا ينقص، لم يكن في ذلك اختلافٌ في الفصول الذي به تَصِحُّ الأجسام، وتصلح الأشجار والزروع والأنعام. فتفكروا في تمام قدرة الملك العلام، وتمام رحمته بالأنام. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين أجمعين، فاستغفروه إنه غفور رحيم.

 

 

الخطبة الثانية

أما بعد: فإن الله إذا قضى نهاية العالم لَـحِقَ بالشمس ما يلحق غيرها من الفناء ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِی رَفَعَ ٱلسَّمَـاٰوَاتِ بِغَیۡرِ عَمَدࣲ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلࣱّ یَجۡرِی لِأَجَلࣲ مُّسَمࣰّىۚ یُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ یُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاۤءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ﴾ قال الطبري رحمه الله: "يقول جل ثناؤه: كل ذلك يجري في السماء لأجلٍ مسمًى، أي: لوقت معلومٍ، وذلك إلى فناء الدنيا وقيام القيامة التي عندها تكور الشمس، ويخسف القمر، وتنكدر النجوم".

عباد الله.. ومن علامات الساعة الكبرى: طلوع الشمس من مغربها، في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمن من عليها، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها، لم تكن آمنت من قبل" وتُلفُّ الشمس ويذهب ضوْءُها {إذا الشمس كُوِّرت} ومنذ خلق الله الشمس والقمر لم يجتمعا، فإذا كان يوم القيامة: ﴿جُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ فيخسف القمر، وتُكوَّر الشمس، يجمع الله بينهما ويعزلهما عن سلطانهما ويرى عابديهما أنهم عبدوا الباطل من دونه وأن سلطان معبودهم قد بطل واضمحل وأن سلطان الحق والملك الحق لله الواحد القهار، ثم يقذفان في النار، ليَرَى العباد أنهما عبدان مسخران، وليَرى من عبدهما أنهم كانوا كاذبين.

عباد الله.. أهل الدنيا للشمس محتاجون، ومن الحر يتضجرون، ومن البرد الشديد يتألمون، وفي موقف القيامة تُدنى الشمس من الخلائق على قدر ميل، فيبلغ العرق منهم على قدر أعمالهم، وأصفياء من عباد الله في ظل عرش الله، أما في الجنة فنعيم مقيم لا يعاني أهلها حر شمسٍ ولا يكابدون قسوة بردٍ، قال الله تعالى: {لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا} قال ابن كثير: "ليس عندهم حرٌ مزعجٌ ولا بردٌ مؤلمٌ، بل هي مزاجٌ واحدٌ دائمٌ سرمديٌ لا يبغون عنها حولًا"-جعلنا الله منهم بمنه وكرمه-.

المرفقات

1667373049_الشمس..pdf

المشاهدات 404 | التعليقات 0