الشكر وحالنا بعد رمضان

عنان عنان
1438/10/05 - 2017/06/29 18:39PM
بسم الله الرحمن الرحيم
" الخطبة الأولى"
العنصر الأول: حالنا بعد رمضان

عباد الله: كيف حالنا بعد رمضان؟
بعد رمضانَ هدأت المساجد وقلت المصفوف وعادت المصاحف إلى الرفوف وانشغل النَّاس بالأفراحِ والدُّفوف ويا ليتها دفوف وانكب على الخمرِ كلُّ سكيرٍ ملهوف
وحال هؤلاء كما قال البائس عن الخمر:
رمضانُ ولَّى هاتِها يا ساقي***مشتاقةً تسعى إلى مُشتاقِ.
اعلم أخي المصلي أن المكان الذي كنت تصلي فيه في رمضان ينادي عليك والصلاةُ نفسُها في أوقاتها تفتقدك وتلعنك
يا تاركاً لصلاته إنَّ الصلاةَ تشتكي***وتقول في أوقاتها الله يلعن تاركي.
قيل لبشر الحافي: إنَّ قوماً يتعبدون ويتهجدون في رمضان
فقال: بئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان إنَّ الصالح الذي يتعبد ويجتهد السَّنةَ كلَّها.
وسُئل الشبلي: أيهما أفضل رجب أو شعبان أو رمضان؟ فقال: كن ربانياً ولا تكن رمضانياً.

العنصر الثاني: علامات قبول الطاعة

عباد الله: كيف نعلم أن عباداتِنا في رمضان قد قبلت؟
هناك عدة علامات:
أولاً: عدم الرجوع إلى المعاصي التي كنا نفعلها قبل رمضان
فاعلم أن رجوعك إلى المعصية مرةً أخرى دليل على أنَّ عملَك مردودٌ عليك
قال يحيى بن معاذ-رحمه الله-: " من صام رمضان وقلبه على المعصية معقود وعزمه أن يرجع إلى الذنب ويعود فصومه عليه مردود وباب القبول في وجهه مسدود".
فهذه مصيبة كبيرة أن يعود شراب الخمر إلى خمورهم ومتعاطي المخدرات إلى مخدراتهم وأهل الزنا إلى أوكارهم وأهل الربا إلى الربا وأهل اللغو والفسوق إلى الفسوق فهؤلاء دخلوا على رمضان بالمعاصي وخرجوا بالمعاصي فما استفادوا شيئاً أبداً
قال الحسن البصري: "إنَّ من جزاء الحسنة الحسنةَ بعدها ومن عقوبة السيئة السيئةُ بعدها فإذا قبل الله العبد فإنه يوفقه إلى الطاعة ويصرفه عن المعصية".
وقال الحسن: "يا ابن آدم إن لم تكن في زيادة فأنت في نقصان".

ثانياً: من علامات قبول الطاعة: الخوف والوجل من عدم قبول الطاعة
فعن عائشة-رضي الله عنها- قالت: سألت رسول الله-صلى الله عليه وسلم- عن هذه الأية: "والذين يؤتون ما أتوْا وقلوبُهم وجلة" أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟
قال:" لا يا ابنة الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك يسارعون في الخيرات" [رواه الترمذي والحاكم وصححه].
قال أبو الدرداء-رضي الله عنه-: " لأن أستيقن أن الله تقبل مني صلاةً واحدةً أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها إنَّ الله يقول: "إنما يتقبل الله من المتقين".
ورُوِي أنه دخل سائل على ابن عمر-رضي الله عنهما- فقال لابنه: أعطه ديناراً فأعطاه فلما انصرف قال ابنه: تقبل الله منك يا أبتاه
فقال:إنما يتقبل الله من المتقين".
وقال عبد العزيز بن أبي رواد: "أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوه وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم لا؟".
وكان بعض السلف ينادي في آخر ليلة من رمضان: من هذا المقبول منها فنهنيه ومن هذا المردود منا فنعزيه أيها المقبول هنيئاً لك أيها المردود جبَّر الله مصيبتَك.
وكان بعض السلف يظهر عليه الحزن يومَ عيد الفطر فيقال له: إنه يوم فرحٍ وسرور
فيقول: صدقتم لكني عبد أمرني مولاي أن أعمل عملاً فلا أدري أيقبله مني أم لا؟.
وقد مر وهيب بن الورد على أقوامٍ يلهون ويلعبون في يوم العيد
فقال لهم: عجباً لكم إن كان الله تقبل صيامكم فما هذا فعل الشاكرين وإن كان الله لم يتقبل هذا فما هذا فعل الخائفين.

ثالثاً: من علامات قبول الطاعة: استصغار العمل وعدم العجب والغرور فيه
بمعنى أن تنظر إلى المعصية كأنها جبل تخشى أن يقع عليك وتنظر إلى الطاعة كأنها شيء صغير
والذي يحدث الآن العكس يرى العبد الذنبَ أنه صغير ويستكثر عبادته ويستعظمها وكأنه يمن على الله
فالواحد منا لو صلى ركعتين أو صام يوماً أو قرأ جزءاً من القرآن يعد نفسه من أولياء الله
وهذا في حدِّ ذاته: دليلٌ على عدم قبول الطاعة
قال الإمام الغزالي-رحمه الله-: "إنّّ العبد يسجد سجدةً لله يظنُّ أنه تقرب بها إلى الله والذي نفسي بيده لو وُزِّعَ ذنب هذه السجدة على البلدة كلِها لكفتهم
قيل له: لماذا؟ قال: لأنه يسجد برأسه لمولاه وقلبه منشغلٌ بدنياه".

العنصر الثالث: منزلة الشكر في الإسلام

عباد الله: علينا أن نشكر الله-عز وجل أن بلغنا شهر رمضان
واعلموا أن للشكر منزلةً عظيمةً في الإسلام بل هو نصف الإيمان ونصف الآخر هو الصبر لأن العبدَ لا يخلو منهما
قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "عجباً لأمر المؤمن إنَّ أمرَه كلَّه خير وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء شكر فكان خيراً" [رواه مسلم].
قال ابن القيم-رحمه الله-: "الإيمان يُبنى على الصبر والشكر فنصفه صبر ونصفه شكر فعلى حسب صبر العبد وشكره تكون قوة إيمانه" [الفوائد].
وقد جمع الأنبياء بين مقام الصبر والشكر ليكونوا في أعلى درجات الإيمان وفي مقدمتهم رسول الله-صلى الله عليه وسلم-
فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "عرض عليَّ ربي عز وجل ليجعلَ لي بطحاءَ مكة ذهباً فقلت: لا رب ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً أو نحوَ ذلك فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك وإذا شبعت حمدتك وشكرتك" [رواه أحمد والترمذي].
وقد أثنى الله على نبيه نوح-عليه السلام- بالشكر فقال: "ذريةَ من حملنا من نوح إنه كان عبداً شكوراً"
وأثنى على نبيه إبراهيم-عليه السلام- بالشكر فقال: "إنَّ إبراهيم كان أمةً قانتاً لله ولم يكُ من المشركين*شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراطٍ مستقيم".

الخطبة الثانية"

عباد الله: قال ابن قدامة-رحمه الله-: "الشكر يكون بالقلب: واللسان والجوارح أما بالقلب فهو أن يقصد الخير ويضمره للخلق كافةً
وأما باللسان: فهو إظهار الشكر لله بالتحميد وإظهار الرضى عن الله تعالى
وأما الجوارح: فهو استعمال نعم الله في طاعته والتوقي من الاستعانة بها على معصيته
فمن شكر العينين أن تستر كُلَّ عيبٍ تراه للمسلم ومن شكر الأذنين أن تستر كل عيب تسمعه" [مختصر منهاج القاصدين].

أولاً: الاعتراف بالنعمة
ومعنى الاعتراف بالنعمة: أي تقر وتعترف وتوقن وتجزم أن الذي أسداك تلك النعمة هو الله وما العبد إلا وسيلةٌ فقط للحصول عليها فلا تنسب النعمة للعبد وتنسَ الربَّ لأن هذا فعل الجهال الذين في عقيدتهم زيف وضلال فهم ينسبون النعم لغير بارئها
قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال: مُطرِنا بفضلِ الله وبرحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب
وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب" [متفق عليه].
وعن أبي عمر الشيباني قال: "قال موسى-عليه السلام- يومَ الطور: يارب إن أنا صليت من قبلك وإن أنا تصدقت فمن قبلك وإن أنا بلغت رسالتك فمن قبلك فكيف أشكرك؟!
قال: يا موسى الآن شكرتني".

ثانياً: الثناءُ على المنعم
فلقد كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم- إذا أصبح يقول: "اللهم ما أصبح بي من نعمةٍ فمن وحدك لا شريك لك" [رواه أبو داود]. وكذلك كان يقول إذا أمسى.

ثالثاً: العمل بالجوارح
قال الإمام الغزالي-رحمه الله-: "إنَّ النَّاس يظنون أن الشكرَ أن يقول بلسانه: الحمدلله الشكرلله ولم يعرفوا أن معنى الشكر أن يستعمل النعمة في إتمام الحكمة التي أريدت بها وهي طاعة الله عز وجل".
ولهذا قال لداود-عليه السلام-: "اعملوا آل داود شكراً وقليلٌ من عباديَ الشكور" قال ثابت البنُاني: "بلغنا أن داود نبيَ الله جزَّأ الصلاة في بيوته على نسائه وولده فلم تكن تأتي ساعة من الليل ولا النهار إلا وإنسان قائم من آل داود يصلي فعمتهم هذه الأية "اعملوا آل داود شكراً" [رواه ابن أبي شيبة].
فشكر القول باللسان يسمى حمداً وبالعمل يسمى شكراً ولهذا قال: اعملوا ولم يقل قولوا لأن الشاكرين بالعمل قِلة.
وقد مر عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- ذاتَ يومٍ برجلٍ في السوق فإذا بالرجل يدعو ويقول: اللهم اجعلني من عبادك القليل
فقال له عمر: من أين أتيت بهذا الدعاء؟ فقال الرجل: إن الله يقول في كتابه العزيز: "وقليل من عبادي الشكور" وقال: "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم"
فأسأل الله أن يجعلني من هؤلاء القليل فبكى عمر وقال: كلُّ النَّاسِ افقهُ منك يا عمر.
وقد روي أن أبا حازم جاءه رجل فقال له:
ما شكر العينين؟ قال: إن رأيت بهما خيراً أعلنته وإن رأيت بهما شراً سترته
قال: فما شكر الأذنين؟ قال: إن سمعت خيراً وعيته وإن سمعت بهما شراً أخفيته
قال: فما شكر اليدين؟ قال: لا تأخذ بهما ما ليس لهما ولا تمنع حقاً لله عز وجل فيهما
قال: فما شكر البطن؟ قال: أن يكون أسفلاه طعاماً وأعلاه علماً
قال: فما شكر الفرج؟ قال: كما قال الله عز وجل: "والذين هم لفروجهم حافظون*إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين*فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون"
قال: فما شكر الرجلين؟ قال: إن رأيت بهما حياً غبطتَه بهما عمله وإن رأيت بهما ميتاً مقته وكففتها عن عمله وأن شاكر لله عز وجل
فأما من شكر بلسانه ولم يشكر بجميع أعضائه فمثله كمثل رجل له كساء فأخذ بطرفه ولم يلبسه فلم ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر" [عدة الصابرين].

العنصر الرابع: درجات الشكر

عباد الله: اعملوا أنَّ للشكر درجات فحاله كحال الإيمان له درجات
أولاً: فأول هذه الدرجات: شكر الله على نعمه الظاهرة المحسوسة التي يدركها جميع الناس كنعمة البصر والسمع والماء والهواء وتسخير جميع ما في الكون للإنسان
وأعظم النعم التي نشكر الله بها: نعمة الإسلام
فلله الحمد والمنة أن هدانا لهذا الدين الحنيف وورد في تفسير قول الله تعالى: "وقالوا الحمدلله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله"
أنَّ هذا هو شكر أهل الجنة على دخولها.

ثانياً: الشكر على نعمة الأمن والأمان فإنها من أعظم النعم التي تستوجب الشكر والمحافظة عليها
قيل لأحد الحكماء: ما النعيم فقال: الأمن فإني رأيت الخائف لا عيشَ له.

ثالثاً: شكر المسلم لربه في جميع أحواله وظروفه في السراء والضراء وفي العافية والمرض فإنَّ كُلَّ منحةٍ في داخلها منحة وفي كُلِّ عسر يسران
قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "ما يصيب المسلم من من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكةِ يشاكها إلا كفرَّ الله بها من خطاياه" [رواه الترمذي].
وقال بعض الصالحين: "ما منعك إلا ليعطيك ولا ابتلاك إلا ليعافيك ولا أمرضك إلا ليشفيك وما أماتك إلا ليحييك فإياك أن تفارق الرضى عنه طرفةَ عينٍ فتسقطَ من عينه".

عباد الله: اعلموا أن للشكر فوائدَ وثمراتٍ عدة
اقتصر على ثمرة واحدة وهي: المزيد وحفظ النعم
قال تعالى: "وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم"
وقال علي-رضي الله عنه-: "إن النعمة موصولة بالشكر والشكر متعلق بالمزيد فإذا انقطع الشكر من العبد انقطع المزيد من الله".
قال أهل العلم: "من أعُطِيَ أربعاً لم يمنع أربعاً: من أعطي الشكر لم يمنع المزيد ومن أعطي التوبة لم يمنع القبول ومن أعطي الاستخارة لم يمنع الخيرة ومن أعطي المشورة لم يمنع الصواب" [إحياء علوم الدين].

[وصلِّ اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين].



المرفقات

1342.doc

1343.doc

المشاهدات 2689 | التعليقات 0