الشــــتاء 6-6-1444
محمد آل مداوي
الشتــــــــــــــــــــــــــــاء
الحمدُ لله، الحمدُ للهِ مُصَرِّف الأحوَال، ومُقدِّرِ الآجَال، لا إلهَ إلا هو الكبيرُ المُتعَال، تُسبِّحُ له السماواتُ والأرضُ ومَنْ فيهنَّ بالغُدوِّ والآصال، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المُتفرِّدُ بالكمَالِ والجَمالِ والجَلال، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، عَظيمُ المَقامِ شَرِيفُ الخِصَال، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ الطيبين الطاهرين، وأصحابِه الغُرِّ الميامين، خَيرِ صَحْبٍ وأكرَمِ آل، والتابعينَ ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعد: فأُوصِيكُم ونفسِي بتقوَى الله، فاتَّقوا اللهَ -رَحِمَكُمُ الله-؛ فربُّكمْ يَزِيدُ مَنْ شَكَرَه، ويَذْكُرُ مَنْ ذَكَرَه، ولا يُخَيِّبُ مَنْ قَصَدَه، يَجزِي بالإحسَانِ إحسانًا، وبالسيِّئاتِ عَفوًا وغُفرانًا، (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ).
أيُّها المسلمون: لقد جَعَلَ اللهُ لكُمْ مِنْ دُنيَاكُمْ عِبَرًا، ومِنْ تَقَلُّباتِ دَهْرِكُم عِظَاتٍ وفِكَرًا، فلا تَكَادُ تَمُرُّ بالعَبدِ آيةٌ؛ إلا وفيها مُنَاسَبةٌ لمُحاسَبَةِ النَّفس، وفُرْصَةٌ للمُبادَرةِ للطَّاعة، والاستِعدَادِ لِيَومِ الحِسَاب.
ومِنْ مَوَاطِنِ الاعتِبار والمُحاسَبة: ما كان يُذكِّرُ بهِ نبيُّنا r أصحابَهُ حينَ يَشْتَدُّ الحَرُّ أو يَشتدُّ البَرْدُ؛ ففي الصحيحينِ مِنْ حديثِ أبي هُريرة t أنَّ النبيَّ r قال: (اشْتَكَتِ النارُ إلى ربِّها فقالت: يا رب، أَكَلَ بعضي بعضًا، فأَذِنَ لها بِنَفَسَين: نَفَسٍ في الشتاء، ونَفَسٍ في الصيف، فأَشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ مِنْ سَمُومِ جهنَّم، وأشدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ البَرْدِ مِنْ زَمْهَرِيرِ جَهنَّم).
فَشِدَّةُ بَرْدِ الدُّنيا يُذكِّرُ بزَمهَريرِ جهنَّم، ممَّا يُوجِبُ الخوفَ والحذَرَ والاستِعدَاد، يقولُ -عزَّ شأنُه- في نَعيمِ أَهلِ الجنة: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا).
وقالَ في أَهْلِ النَّار: (هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ)، وقالَ سُبحَانه: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا* إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا).
والحَمِيمُ: شِدَّةُ الحرِّ. والغَسَّاقُ: شِدَّةُ البَردِ. أعاذَنا اللهُ وإيَّاكُمْ مِنْ ذلك.
عبادَ الله: ولقَدْ كانَ سَلَفُنا الصَّالِحُ -رِضْوَانُ اللهِ عَليهِم- يَفْرَحُونَ بِدُخُولِ الشِّتاء؛ يُروَى عنِ ابنِ مَسْعُودٍ t أنَّه قال: "مَرحَبًا بالشتاء؛ تَنْزِلُ فيهِ البركة، ويَطُولُ فيهِ الليلُ للقِيَام، ويَقْصُرُ فيهِ النَّهارُ للصيام".
وعن عُبيدِ بنِ عُميرٍ أنَّهُ كانَ إذا جاءَ الشتاءُ قال: "يا أهلَ القُرآن! طالَ لَيْلُكُم لِقِرَاءتِكُم فاقرؤوا، وقَصُرَ النهارُ لِصِيَامِكُم فصُوموا".
وإنَّ مما يَعْظُمُ أَجْرُه ويُجْزَلُ ثوَابُه في هذا المَوسِم: إسْبَاغُ الوُضوء، ولو كَرِهَتِ النَّفْسُ ذلك، ففي صحيحِ مسلم مِنْ حَديثِ أبي هريرةَ t أنَّ النبيَّ r قال: (ألَا أَدُلُّكُم على ما يَمْحُو اللهُ بهِ الخَطَايا ويَرفَعُ بهِ الدَّرَجات؟) قالوا: بلَى يا رسولَ الله، فقال: (إسْبَاغُ الوُضُوءِ علَى المَكَارِه، وكَثْرَةُ الخُطَى إلى المسَاجِد، وانتِظَارُ الصَّلاةِ بعدَ الصَّلاة، فذَلِكُمُ الرِّباط، فذَلِكُمُ الرِّباط).
ولا مَانِعَ مِنَ الوُضوءِ بالماءِ الدَّافِئ، وتَسْخِينِ الماء، وتَنْشِيفِ الأعضَاءِ بعدَ الفَراغِ مِنَ الوُضوء؛ بل يُبَاحُ التيمُّمُ إذَا خَافَ على نَفْسِهِ شِدَّةَ البرد، فَضْلاً مِنَ اللهِ ورحمة، وتَيسِيرًا ونِعْمَة.
وفي مِثلِ هذا جاءَتْ مُكَاتَبَةُ عُمر t ووَصَاياهُ لِعُمَّالِهِ ووُلاتِه إذا حَضَرَ الشتاء، يَقولُ لهم: "إنَّ الشِّتاءَ قد حَضَرَ وهو عَدوٌّ لكم، فتأهَّبُوا له أُهْبَتَهُ مِنَ الصُّوفِ والخِفَافِ والجوَارِب، واتَّخِذوا الصُّوفَ شِعارًا" أي: ممَّا يَلِي الأجسَاد، "ودِثَارًا" أي: فوقَ الملابِس، "فإنَّ البردَ عَدُوٌّ سَرِيعٌ دُخُولُه، بَعِيدٌ خُرُوجُه".
أقول قولي هذا.. وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على إحسَانِه، والشُّكر لهُ على تَوفيقِهِ وامتنَانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانِه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: فإنَّ مِنْ أحكامِ الشِّتَاءِ أنْ نتَذكَّرَ يُسْرَ الشَّريعَةِ بالمَسْحِ على الخُفَّينِ.. ولَهَا أَحْكَامٌ؛ مِنْها: أنْ يَكُونا طَاهِرَيْن، وأَنْ تُلْبَسَ على طَهَارة؛ فعن عُرْوَةَ بنِ المُغِيرَةِ عن أَبيهِ رضي اللهُ عنهما قال: كنتُ معَ النبيِّ r في سَفَرٍ، فَأَهْوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْه، فقال: (دَعْهُمَا، فإنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْن، فَمَسَحَ عَليْهِما).
ومِنْ أحكَامِها: أنْ يَكُونَ المَسْحُ فِي الحَدَثِ الأصْغَرِ دُونَ الأكبَرِ، وأنْ يَكُونَ في الوَقتِ وهُوَ: يَوْمٌ ولَيْلَةٌ لِلْمُقِيم، وثَلاثَةُ أيَّامٍ بِلَيَالِيهَا لِلْمُسَافِر.
ويَبْدَأُ حِسَابُ المُدَّةِ مِنْ أوِّلِ مَسْحٍ بعدَ الحَدَث، وليسَ مِنْ لُبْسِ الخُفِّ أوِ الشُّرَّاب.
وكَيفِيَّةُ المَسْح: أنْ تَبُلَّ يَدَيْكَ ثمَّ تُمِرَّهَا علَى القَدَمَيْنِ مِنْ أطْرَافِ الأصَابِعِ إلى أنْ تُشْرِعَ في السَّاقِ، مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَط، ولا يُشْرَعُ أنْ تَمْسَحَ أَسْفَلَ الشُّرَّابِ ولا جَوَانِبَهُ؛ لأنَّ النبيَّ r كانَ يَمْسَحُ علَى ظَاهِرِ خُفَّيْه.
فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واشْكُرُوهُ على نِعَمِه؛ لِبَاسٌ دَافئ، ومَسْكَنٌ آمِنْ، وفِرَاشٌ وَثِير.. فاشكرُوا المُنْعِمَ سبحانه، تَعَهَّدوا الضُّعَفَاء، وأَعِينُوهُمْ علَى بَرْدِ الشِّتاء، تَعَهَّدوهُمْ في الطَّعامِ والِّلباسِ والغِطَاء، واحتَسِبوا أَجْرَهُم عِندَ اللهِ يومَ الِّلقاء؛ فإنَّ الصَّدَقةَ تَرُدُّ البَلاءَ، وصَنَائعُ المَعرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ).
هذا وصلُّوا وسلِّمُوا -رحمكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم اللهُ بذلك في كتابِه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين: أبى بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم أيِّد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفق خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لهُداك، واجعل أعمالهما في رضاك، اللهم أعزَّ بهم دينَك، وأعل بهم كلمتك، واجمع بهم كلمة المسلمينَ يا رب العالمين... اللهم ووفق جميع ولاة أمور المسلمين لما فيه صلاحُ الإسلام والمسلمين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصر جنودَنا، اللهم اِرْبِطْ على قُلُوبِـهم، وثَبِّتْ أقدامَهُم، وانصُرهم على القومِ المعتدين، واخْلُفْهُم في أهليهِم بخيرٍ يا رب العالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.. اللهم اسق عبادَك وبلادَك وبهائمَك، وانشُر رحمتك، وأحي بلدَك الميت.. اللهم أنبِتْ لنا الزرع، وأدرّ لنا الضرع، واجعل ما أنزلتَه قوةً لنا على طاعتك، وبلاغًا إلى حين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين
المرفقات
1672298561_الشتاء 6-6-1444.docx
1672298563_6-6-1444 الشتاء.pdf
1672298564_الشتاء نسخة جوال 6-6-1444.pdf