الشتاء حكمٌ وأحكامُ-7-3-1437ه-إبراهيم الحقيل-بتصرف
محمد بن سامر
1437/03/06 - 2015/12/17 17:18PM
[align=justify]أمابعد:فهذا هو الشتاءُ قد دخلَ علينا وله حِكمٌ وأحكامٌ منها: أن شِدَّةَ البَرْدِ، وَشِدَّةَ الحَرِّ نَفَسَانِ مِنْ جَهَنَّمَ؛ لِتَذْكِيرِ العِبَادِ فِي الدُّنْيَا بِنَارِ الآخِرَةِ؛ لِيَتَّقُوا مَا يُورِدُهُمْ إِيَّاهَا، وَيَأْخُذُوا بِأَسْبَابِ النَّجَاةِ مِنْهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ-: "اشْتَكَتِ النَّارُ إلى رَبِّهَا فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ".
وَالبَرْدُ مُهْلِكٌ، والحَرُّ مُؤْذٍ ولَا يُهْلِكُ فِي الغَالِبِ؛ وَلِذَا فَالنَّاسُ يَخَافُونَ البَرْدَ وَيَتَّقُونَهُ أَكْثَرَ مِنَ الحَرِّ.
وَمِنْ كَمَالِ نَعِيمِ أَهْلِ الجَنَّةِ أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ فِيهَا حَرًّا وَلَا بَرْدًا، قَالَ قَتَادَةُ-رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "عَلِمَ اللهُ-تَعَالَى-أَنَّ شِدَّةَ الحَرِّ تُؤْذِي وَشِدَّةَ البَرْدِ تُؤْذِي فَوَقَاهُمْ أَذَاهُمَا جَمِيعًا: [مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا]، وَالزَّمْهَرِيرُ: هُوَ البَرْدُ القَاطِعُ-يعني: الشديدَ"، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن البردِ الشديدِ: "هُوَ لَوْنٌ مِنَ العَذَابِ".
وَيُذْكَرُ عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ كَانَ يَتَعَاهَدُ رَعِيَّتَهُ إِذَا حَضَرَ الشِّتَاءُ، وَيَكْتُبُ لَهُمْ قَائِلًا: "إِنَّ الشِّتَاءَ قَدْ حَضَرَ، وَهُوَ عَدُوٌّ فَتَأَهَّبُوا لَهُ أُهْبَتَهُ مِنَ الصُّوفِ وَالخِفَافِ وَالجَوَارِبِ، وَاتَّخِذُوا الصُّوفَ شِعَارًا وَدِثَارًا؛ فَإِنَّ البَرْدَ عَدُوٌّ سَرِيعٌ دُخُولُهُ، بَعِيدٌ خُرُوجُهُ".
أَيُّهَا الأحبابُ: وَلِأَنَّ شِدَّةَ البَرْدِ تُؤْذِي النَّاسَ وَقَدْ تُهْلِكُهُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ-تَعَالَى-قَدْ خَفَّفَ عَنْهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ؛ فَأَبَاحَ-عَزَّ وَجَلَّ-لَهُمُ التَّيَمُّمَ فِي شِدَّةِ البَرْدِ، وَعَدَمِ وُجُودِ وَسَائِلَ لِتَسْخِينِ المَاءِ؛ مِمَّا يُظَنُّ مَعَهُ الهَلَاكُ أَوِ الضَّرَرُ، وَفِي ذَلِكَ أَقَرَّ النَّبِيُّ-عَلَيْهِ وآلهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-عَمْرَو بْنَ العَاصِ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-لَمَّا أصابتهُ الجنابةُ فِي غَزَاةٍ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى بِالنَّاسِ.
وَلَكِنْ مُجَرَّدُ المَشَقَّةِ لَيْسَتْ عُذْرًا فِي تَرْكِ الوُضُوءِ أَوِ الِاغْتِسَالِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ-لَمْ يُرَخِّصْ فِي ذَلِكَ لِأَجْلِ المَشَقَّةِ فَقَطْ؛ وَلِأَنَّ الوُضُوءَ فِي البَرْدِ شَاقٌّ عَلَى كُلِّ النَّاسِ، رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ-رحمه الله-عَنْ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ قَالَ: "سَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ- ثَلاَثًا فَلَمْ يُرَخِّصْ لَنَا فَقُلْنَا: إِنَّ أَرْضَنَا أَرْضٌ بَارِدَةٌ فَسَأَلْنَاهُ أَنْ يُرَخِّصَ لَنَا فِي الطُّهُورِ فَلَمْ يُرَخِّصْ لَنَا".
وَمِنْ تَخْفِيفِ اللهِ-تَعَالَى-عَلَى عِبَادِهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ: أَنْ شَرَعَ لَهُمُ المَسْحَ عَلَى الخُفَّيْنِ.
وَأَبَاحَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فِي رِحَالِهِمْ-يعني: في بيوتِهم-إِذَا كَانَ البَرْدُ شَدِيدًا، أو مَصْحُوبًا بِأَمْطَارٍ أَوْ رِيحٍ تَضُرُّ النَّاسَ وَتُؤْذِيهِمْ؛ كَمَا رَوَى نَافِعٌ-رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ-رضي اللهُ عنهما-أَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ فَقَالَ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ-في البيوتِ-، ثُمَّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ- يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ ذَاتُ مَطَرٍ يَقُول: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ".
وَيُبَاحُ لِلْمُؤْمِنِ ذَكَرًا كَانَ أَمْ أُنْثَى لُبْسُ القُفَّازَيْنِ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ؛ إِذْ لَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ.
وَتَغْطِيةُ الوَجْهِ أَوْ بَعْضُهُ بِلِثَامٍ أَوْ غَيْرِهِ مَكْرُوهٌ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنِ احْتَاجَ لَهُ المُصَلِّي لِاتِّقَاءِ هَوَاءٍ بَارِدٍ، كَمَا لَوْ صَلَّى فِي الخَلَاءِ؛ جَازَ لَهُ ذَلِكَ.
وَمَعَ هَذِهِ التَّرَاخِيصِ العَظِيمَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ فَإِنَّهُ-سُبْحَانَهُ-يُعْظِمُ لَهُمُ المَثُوبَةَ عَلَى تَحَمُّلِ المَكَارِهِ فِي طَاعَتِهِ؛ فَمِنْ أَسْبَابِ مَحْوِ الخَطَايَا وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ: إِسْبَاغُ الوُضُوءِ عَلَى المَكْرُوهَاتِ، كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الأَحَادِيثُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِسْبَاغَ الوُضُوءِ فِي شِدَّةِ البَرْدِ، وَكَثْرَةِ المَلَابِسِ عَلَى المُتَوَضِّئِ مِمَّا يَكْرُهُهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ قُرْبَةً للهِ-تَعَالَى-، فَاسْتَحَقَّ مَا رُتِّبَ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ عَظِيمٍ.
وَلْيَحْذَرِ المُسْلِمُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي إِسْبَاغِ الوُضُوءِ، وَتَرْكِ غَسْلِ أَجْزَاءٍ مِنْ بَعْضِ الأَعْضَاءِ، كَالوَجْهِ وَالكَعْبَيْنِ، وَلَا سِيَّمَا المِرْفَقَيْنِ، مَعَ كَثْرَةِ اللِّبَاسِ، وَعُسْرِ حَسْرِ الأَكْمَامِ عَنْهُمَا.
وَلْيَحْذَرِ العَبْدُ مِنْ سَبِّ الرِّيحِ وَإِنْ آذَتْهُ بِبَرْدِهَا وَشِدَّتِهَا؛ فَإِنَّهَا مِنَ اللهِ-تَعَالَى-، وَقَدْ يُصَابُ بِالحُمَّى مِنْ جَرَّاءِ البَرْدِ فَلَا يَسُبُّها أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا مِنَ اللهِ-تَعَالَى-؛ وَلِأَنَّهَا تَحْرِقُ ذُنُوبَ العَبْدِ، وَتُخَفِّفُ عَنْهُ، فَكَانَ فِيهَا خَيْرٌ لَهُ وَلَوْ أَقْعَدَتْهُ وَأَسْهَرَتْهُ وَآذَتْهُ.
وَيَكْثُرُ فِي البَرْدِ إِيقَادُ النَّارِ وَوَسَائِلُ التَّدْفِئَةِ؛ فَلْيَحْذَرِ المُسْلِمُ مِنْهَا؛ فَإِنَّ النَّارَ عَدُوٌّ لَهُ، وَكَمْ مِنْ حَوَادِثَ هَلَكَ فِيهَا أَفْرَادٌ وَأُسَرٌ بِسَبَبِ التَّسَاهُلِ فِي ذَلِكَ، قالَ النَّبِيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ"، وَعَنْ أَبِي مُوسَى-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-قَالَ: "احْتَرَقَ بَيْتٌ عَلَى أَهْلِهِ بِالْمَدِينَةِ مِنَ اللَّيْلِ فَلَمَّا حُدِّثَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-بِشَأْنِهِمْ قَالَ: "إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ".
إخواني الرحماء: تذكروا إخوانًا لكم هنا وهناك، أهلكهمْ البردُ والجوعُ، فجودوا عليهم بما تجودُ به أنفسُكم، وواسوهمْ بما تستطيعونَ مما تحبونَ وترغبونَ، [لنْ تنالوا البِرَّ حتى تنفقوا مما تحبونَ]، والمرءُ في ظلِّ صدقتهِ يومَ القيامةِ، والصدقةُ تُطفئ غضبَ الربِّ وتَدفعَ مِيتَةَ السوءِ، تقبلَ اللهُ من الجميعِ.
ومن تخفيفِ اللهِ-سبحانه-على عبادِه، ورحمتِه بهم: أنْ شرعَ لهم المسحَ على الخفينِ.
ويدخلُ في حكمِ الخفينِ الجوربُ أو الشُرَّابُ، وقد أجمعَ أهلُ السنةِ على جوازِ المسحِ، ووردَ فيه أربعون حديثًا عن النبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-رواها سبعةٌ وثلاثونَ صحابيًا.
والخُفّ: هو ما يُلبس على الرِّجل من الجلدِ ونحوِه.
والجوربُ: هو ما يُلبس على الرِّجل من القطنِ والصوفِ ونحوِهما-لتسخينِها وتدفئتِها-ويغطي الكعبَ، ولهذا بعث النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-سريةً وأمرَهم أن يمسحوا على التساخين، أي: الخِفاف أو الجوارب، وسُمِيتْ تساخينَ لأنها تُسَخِّنُ الرِّجْلَ.
والمسح على الخفِ أو الجوربِ أو الشُرَّابِ جائزٌ بأربعةِ شروطٍ:
الشرط الأول: أنْ تُلبس على طهارة ودليل ذلك قوله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-للمغيرةَ بنِ شُعبةَ-لما أرادَ نزعَ خُفيهِ من رجليه: "دعْهما فإنِّي أدخَلتُهما طاهرتَيْن".
الشرط الثاني: أنْ يكون الخُفُّ أو الجورب أو الشُرَّابُ مباحًا طاهرًا ساترًا للكعبين-ودليلُ وجوبِ طهارةِ الخفِ أو الجوربِ أو الشُرَّابِ أنَّ رسولَ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-صلَّى ذاتَ يومٍ بأصحابهِ، وعليه نعلانِ فخلعَهما في الصلاةِ وأَخبَر أنَّ جبريل-عليه السلام-أخبره بأنَّ فيهما أذىً أو قذَرًا.
الشرطُ الثالثُ: أنْ يكونَ المسحُ في الطهارةِ من الحَدَث الأصغرِ-وهو النومُ والبولُ والغائطُ-لا في الحدثِ الأكبرِ-وهو الجنابةُ أو ما يُوجب الغُسلَ، ودليلُ ذلك حديثُ صفوانِ بنِ عسَّالٍ-رضي اللهُ عنه-قال: "أَمَرَنا رسولُ الله إذا كنَّا سَفرا ألا نَنْـزِع خِفافنا ثلاثةَ أيامٍ ولياليَهُنَّ إلاَّ مِن جَنابة، ولكنْ مِن غائطٍ وبولٍ ونومٍ".
الشرط الرابع: أنْ يكون المسحُ في الوقتِ المحدَّدِ شرعًا وهو يومٌ وليلةٌ للمُقيم، وثلاثةٌ أيامٍ بلياليها للمسافرِ، لحديث عليِّ بن أبي طالب-رضي اللهُ عنه-قال: "جعلَ النبيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-للمُقيم يومًا وليلةً وللمسافرِ ثلاثةَ أيامٍ ولياليَهُن، يعني في المسح على الخُفَّين".
أما عنِ كيفيةِ المسحِ: فهي أنْ يُبللَ المسلمَ يديه بالماءِ، ثم يمسحُ بيدِه اليمنى على أعلى قدِمه اليمنى من أصابعِه إلى بدايةِ ساقِه، وبيدِه اليسرى على قدمِ اليسرى كذلك مرةً واحدةً، عندَ كلِّ وضوءٍ، ويقدمُ اليمنى على اليسرى، ولا حرجَ في مسحِهما معًا.
وأما مدةُ المسحِ: فتبدأُ من أولِ مسحٍ بعد اللُبس، فلو لبستَ الجوربينِ على طهارةٍ بعدَ صلاةِ العشاءِ-مثلًا-ثم لما استيقظتَ لصلاةِ الفجرِ، توضأتَ ومسحتَ عليهما، فاعلمْ أنَّ بدايةَ المسحِ تكونُ من هذه المسحةِ، ولكَ أنْ تمسحَ إلى مثلِ هذا الوقتِ منَ الفجرِ لليومِ التالي إنْ كنتَ مُقيمًا، وإنْ كنتَ مُسافرًا فلك أنْ تمسحَ إلى ثلاثةِ أفجرٍ.
وإذا تمتِ المدةُ وهو على طهارةٍ فطهارتُه باقيةٌ حتى تُنْتَقَضَ، فإذا انتقضتْ بعدَ تمامِ المدةِ وجبَ عليه غَسلُ رجليه إذا توضأَ، ثم يلبسُ من جديدٍ، ومن تمتْ مدتُه فنسى ومسحَ بعدَ تمامِ المدةِ، فعليه أن يعيدَ الصلاةَ التي صلاها بالمسحِ الذي بعدَ تمامِ المدةِ.
[/align]
وَالبَرْدُ مُهْلِكٌ، والحَرُّ مُؤْذٍ ولَا يُهْلِكُ فِي الغَالِبِ؛ وَلِذَا فَالنَّاسُ يَخَافُونَ البَرْدَ وَيَتَّقُونَهُ أَكْثَرَ مِنَ الحَرِّ.
وَمِنْ كَمَالِ نَعِيمِ أَهْلِ الجَنَّةِ أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ فِيهَا حَرًّا وَلَا بَرْدًا، قَالَ قَتَادَةُ-رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "عَلِمَ اللهُ-تَعَالَى-أَنَّ شِدَّةَ الحَرِّ تُؤْذِي وَشِدَّةَ البَرْدِ تُؤْذِي فَوَقَاهُمْ أَذَاهُمَا جَمِيعًا: [مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا]، وَالزَّمْهَرِيرُ: هُوَ البَرْدُ القَاطِعُ-يعني: الشديدَ"، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن البردِ الشديدِ: "هُوَ لَوْنٌ مِنَ العَذَابِ".
وَيُذْكَرُ عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ كَانَ يَتَعَاهَدُ رَعِيَّتَهُ إِذَا حَضَرَ الشِّتَاءُ، وَيَكْتُبُ لَهُمْ قَائِلًا: "إِنَّ الشِّتَاءَ قَدْ حَضَرَ، وَهُوَ عَدُوٌّ فَتَأَهَّبُوا لَهُ أُهْبَتَهُ مِنَ الصُّوفِ وَالخِفَافِ وَالجَوَارِبِ، وَاتَّخِذُوا الصُّوفَ شِعَارًا وَدِثَارًا؛ فَإِنَّ البَرْدَ عَدُوٌّ سَرِيعٌ دُخُولُهُ، بَعِيدٌ خُرُوجُهُ".
أَيُّهَا الأحبابُ: وَلِأَنَّ شِدَّةَ البَرْدِ تُؤْذِي النَّاسَ وَقَدْ تُهْلِكُهُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ-تَعَالَى-قَدْ خَفَّفَ عَنْهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ؛ فَأَبَاحَ-عَزَّ وَجَلَّ-لَهُمُ التَّيَمُّمَ فِي شِدَّةِ البَرْدِ، وَعَدَمِ وُجُودِ وَسَائِلَ لِتَسْخِينِ المَاءِ؛ مِمَّا يُظَنُّ مَعَهُ الهَلَاكُ أَوِ الضَّرَرُ، وَفِي ذَلِكَ أَقَرَّ النَّبِيُّ-عَلَيْهِ وآلهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-عَمْرَو بْنَ العَاصِ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-لَمَّا أصابتهُ الجنابةُ فِي غَزَاةٍ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى بِالنَّاسِ.
وَلَكِنْ مُجَرَّدُ المَشَقَّةِ لَيْسَتْ عُذْرًا فِي تَرْكِ الوُضُوءِ أَوِ الِاغْتِسَالِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ-لَمْ يُرَخِّصْ فِي ذَلِكَ لِأَجْلِ المَشَقَّةِ فَقَطْ؛ وَلِأَنَّ الوُضُوءَ فِي البَرْدِ شَاقٌّ عَلَى كُلِّ النَّاسِ، رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ-رحمه الله-عَنْ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ قَالَ: "سَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ- ثَلاَثًا فَلَمْ يُرَخِّصْ لَنَا فَقُلْنَا: إِنَّ أَرْضَنَا أَرْضٌ بَارِدَةٌ فَسَأَلْنَاهُ أَنْ يُرَخِّصَ لَنَا فِي الطُّهُورِ فَلَمْ يُرَخِّصْ لَنَا".
وَمِنْ تَخْفِيفِ اللهِ-تَعَالَى-عَلَى عِبَادِهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ: أَنْ شَرَعَ لَهُمُ المَسْحَ عَلَى الخُفَّيْنِ.
وَأَبَاحَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فِي رِحَالِهِمْ-يعني: في بيوتِهم-إِذَا كَانَ البَرْدُ شَدِيدًا، أو مَصْحُوبًا بِأَمْطَارٍ أَوْ رِيحٍ تَضُرُّ النَّاسَ وَتُؤْذِيهِمْ؛ كَمَا رَوَى نَافِعٌ-رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ-رضي اللهُ عنهما-أَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ فَقَالَ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ-في البيوتِ-، ثُمَّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ- يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ ذَاتُ مَطَرٍ يَقُول: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ".
وَيُبَاحُ لِلْمُؤْمِنِ ذَكَرًا كَانَ أَمْ أُنْثَى لُبْسُ القُفَّازَيْنِ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ؛ إِذْ لَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ.
وَتَغْطِيةُ الوَجْهِ أَوْ بَعْضُهُ بِلِثَامٍ أَوْ غَيْرِهِ مَكْرُوهٌ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنِ احْتَاجَ لَهُ المُصَلِّي لِاتِّقَاءِ هَوَاءٍ بَارِدٍ، كَمَا لَوْ صَلَّى فِي الخَلَاءِ؛ جَازَ لَهُ ذَلِكَ.
وَمَعَ هَذِهِ التَّرَاخِيصِ العَظِيمَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ فَإِنَّهُ-سُبْحَانَهُ-يُعْظِمُ لَهُمُ المَثُوبَةَ عَلَى تَحَمُّلِ المَكَارِهِ فِي طَاعَتِهِ؛ فَمِنْ أَسْبَابِ مَحْوِ الخَطَايَا وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ: إِسْبَاغُ الوُضُوءِ عَلَى المَكْرُوهَاتِ، كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الأَحَادِيثُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِسْبَاغَ الوُضُوءِ فِي شِدَّةِ البَرْدِ، وَكَثْرَةِ المَلَابِسِ عَلَى المُتَوَضِّئِ مِمَّا يَكْرُهُهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ قُرْبَةً للهِ-تَعَالَى-، فَاسْتَحَقَّ مَا رُتِّبَ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ عَظِيمٍ.
وَلْيَحْذَرِ المُسْلِمُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي إِسْبَاغِ الوُضُوءِ، وَتَرْكِ غَسْلِ أَجْزَاءٍ مِنْ بَعْضِ الأَعْضَاءِ، كَالوَجْهِ وَالكَعْبَيْنِ، وَلَا سِيَّمَا المِرْفَقَيْنِ، مَعَ كَثْرَةِ اللِّبَاسِ، وَعُسْرِ حَسْرِ الأَكْمَامِ عَنْهُمَا.
وَلْيَحْذَرِ العَبْدُ مِنْ سَبِّ الرِّيحِ وَإِنْ آذَتْهُ بِبَرْدِهَا وَشِدَّتِهَا؛ فَإِنَّهَا مِنَ اللهِ-تَعَالَى-، وَقَدْ يُصَابُ بِالحُمَّى مِنْ جَرَّاءِ البَرْدِ فَلَا يَسُبُّها أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا مِنَ اللهِ-تَعَالَى-؛ وَلِأَنَّهَا تَحْرِقُ ذُنُوبَ العَبْدِ، وَتُخَفِّفُ عَنْهُ، فَكَانَ فِيهَا خَيْرٌ لَهُ وَلَوْ أَقْعَدَتْهُ وَأَسْهَرَتْهُ وَآذَتْهُ.
وَيَكْثُرُ فِي البَرْدِ إِيقَادُ النَّارِ وَوَسَائِلُ التَّدْفِئَةِ؛ فَلْيَحْذَرِ المُسْلِمُ مِنْهَا؛ فَإِنَّ النَّارَ عَدُوٌّ لَهُ، وَكَمْ مِنْ حَوَادِثَ هَلَكَ فِيهَا أَفْرَادٌ وَأُسَرٌ بِسَبَبِ التَّسَاهُلِ فِي ذَلِكَ، قالَ النَّبِيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ"، وَعَنْ أَبِي مُوسَى-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-قَالَ: "احْتَرَقَ بَيْتٌ عَلَى أَهْلِهِ بِالْمَدِينَةِ مِنَ اللَّيْلِ فَلَمَّا حُدِّثَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-بِشَأْنِهِمْ قَالَ: "إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ".
الخطبة الثانية
ومن تخفيفِ اللهِ-سبحانه-على عبادِه، ورحمتِه بهم: أنْ شرعَ لهم المسحَ على الخفينِ.
ويدخلُ في حكمِ الخفينِ الجوربُ أو الشُرَّابُ، وقد أجمعَ أهلُ السنةِ على جوازِ المسحِ، ووردَ فيه أربعون حديثًا عن النبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-رواها سبعةٌ وثلاثونَ صحابيًا.
والخُفّ: هو ما يُلبس على الرِّجل من الجلدِ ونحوِه.
والجوربُ: هو ما يُلبس على الرِّجل من القطنِ والصوفِ ونحوِهما-لتسخينِها وتدفئتِها-ويغطي الكعبَ، ولهذا بعث النبي-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-سريةً وأمرَهم أن يمسحوا على التساخين، أي: الخِفاف أو الجوارب، وسُمِيتْ تساخينَ لأنها تُسَخِّنُ الرِّجْلَ.
والمسح على الخفِ أو الجوربِ أو الشُرَّابِ جائزٌ بأربعةِ شروطٍ:
الشرط الأول: أنْ تُلبس على طهارة ودليل ذلك قوله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-للمغيرةَ بنِ شُعبةَ-لما أرادَ نزعَ خُفيهِ من رجليه: "دعْهما فإنِّي أدخَلتُهما طاهرتَيْن".
الشرط الثاني: أنْ يكون الخُفُّ أو الجورب أو الشُرَّابُ مباحًا طاهرًا ساترًا للكعبين-ودليلُ وجوبِ طهارةِ الخفِ أو الجوربِ أو الشُرَّابِ أنَّ رسولَ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-صلَّى ذاتَ يومٍ بأصحابهِ، وعليه نعلانِ فخلعَهما في الصلاةِ وأَخبَر أنَّ جبريل-عليه السلام-أخبره بأنَّ فيهما أذىً أو قذَرًا.
الشرطُ الثالثُ: أنْ يكونَ المسحُ في الطهارةِ من الحَدَث الأصغرِ-وهو النومُ والبولُ والغائطُ-لا في الحدثِ الأكبرِ-وهو الجنابةُ أو ما يُوجب الغُسلَ، ودليلُ ذلك حديثُ صفوانِ بنِ عسَّالٍ-رضي اللهُ عنه-قال: "أَمَرَنا رسولُ الله إذا كنَّا سَفرا ألا نَنْـزِع خِفافنا ثلاثةَ أيامٍ ولياليَهُنَّ إلاَّ مِن جَنابة، ولكنْ مِن غائطٍ وبولٍ ونومٍ".
الشرط الرابع: أنْ يكون المسحُ في الوقتِ المحدَّدِ شرعًا وهو يومٌ وليلةٌ للمُقيم، وثلاثةٌ أيامٍ بلياليها للمسافرِ، لحديث عليِّ بن أبي طالب-رضي اللهُ عنه-قال: "جعلَ النبيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ-للمُقيم يومًا وليلةً وللمسافرِ ثلاثةَ أيامٍ ولياليَهُن، يعني في المسح على الخُفَّين".
أما عنِ كيفيةِ المسحِ: فهي أنْ يُبللَ المسلمَ يديه بالماءِ، ثم يمسحُ بيدِه اليمنى على أعلى قدِمه اليمنى من أصابعِه إلى بدايةِ ساقِه، وبيدِه اليسرى على قدمِ اليسرى كذلك مرةً واحدةً، عندَ كلِّ وضوءٍ، ويقدمُ اليمنى على اليسرى، ولا حرجَ في مسحِهما معًا.
وأما مدةُ المسحِ: فتبدأُ من أولِ مسحٍ بعد اللُبس، فلو لبستَ الجوربينِ على طهارةٍ بعدَ صلاةِ العشاءِ-مثلًا-ثم لما استيقظتَ لصلاةِ الفجرِ، توضأتَ ومسحتَ عليهما، فاعلمْ أنَّ بدايةَ المسحِ تكونُ من هذه المسحةِ، ولكَ أنْ تمسحَ إلى مثلِ هذا الوقتِ منَ الفجرِ لليومِ التالي إنْ كنتَ مُقيمًا، وإنْ كنتَ مُسافرًا فلك أنْ تمسحَ إلى ثلاثةِ أفجرٍ.
وإذا تمتِ المدةُ وهو على طهارةٍ فطهارتُه باقيةٌ حتى تُنْتَقَضَ، فإذا انتقضتْ بعدَ تمامِ المدةِ وجبَ عليه غَسلُ رجليه إذا توضأَ، ثم يلبسُ من جديدٍ، ومن تمتْ مدتُه فنسى ومسحَ بعدَ تمامِ المدةِ، فعليه أن يعيدَ الصلاةَ التي صلاها بالمسحِ الذي بعدَ تمامِ المدةِ.
[/align]
المرفقات
الشتاء حكمٌ وأحكامُ-7-3-1437ه-إبراهيم الحقيل-بتصرف.docx
الشتاء حكمٌ وأحكامُ-7-3-1437ه-إبراهيم الحقيل-بتصرف.docx