الشتاء الحقيل+الأحمد+القاضي في خطبة واحدة

د. ماجد بلال
1434/01/16 - 2012/11/30 06:54AM
الشتاء
مهذبه من خطب ابراهيم الحقيل ويوسف الاحمد وعبد المحسن القاضي
أيها المسلمون: وقد ينزعج بعض الناس من برودة الشتاء كما يتضايق البعض من حر الصيف، وفي كلٍ منهما وفي تقلب الأحوال عموماً مصالح وحكم. قال العلامة ابن القيم رحمه الله -بتصرف- : ثم تأمل بعد ذلك أحوال هذه الشمس في انخفاضها وارتفاعها لإقامة هذه الأزمنة والفصول وما فيها من المصالح والحكم، إذ لو كان الزمان كله فصلا واحدا لفاتت مصالح الفصول الباقية فيه، ..... ففي الشتاء تغور الحرارة في الأجواف وبطون الأرض والجبال، فتتولد ثمار الشتاء، وتبرد الظواهر ويستكثف الهواء، فيحصل السحاب والمطر والثلج والبرَد تشتد أبدان الحيوان ، وتزداد القوى ، وفي الربيع تتحرك الطبائع ويظهر النبات ويتنور الشجر بالزهر، ويتحرك الحيوان للتناسل، وفي الصيف يحتد الهواء ويسخن جدا فتنضج الثمار وتنحل فضلات الأبدان والاخلاط التي انعقدت في الشتاء، وتغور البرودة وتهرب إلى الأجواف، ولهذا تبرد العيون والآبار ولا تهضم المعدة الطعام التي كانت تهضمه في الشتاء من الأطعمة الغليظة لأنها كانت تهضمها بالحرارة التي سكنت في البطون، فلما جاء الصيف خرجت الحرارة إلى ظاهر الجسد وغارت البرودة فيه، فإذا جاء الخريف اعتدل الزمان وصفا الهواء وبرد فانكسر ذلك السموم، وجعله الله بحكمته برزخا بين سموم الصيف وبرد الشتاء. فسبحان الله رب العلمين.

وشدة البرد، وشدة الحر نَفَسَان من جهنم؛ لتذكير العباد في الدنيا بنار الآخرة؛ ليتقوا ما يوردهم إياها، ويأخذوا بأسباب النجاة منها، روى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشْتَكَتْ النَّارُ إلى رَبِّهَا فقالت: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لها بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ في الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ في الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ ما تَجِدُونَ من الْحَرِّ وَأَشَدُّ ما تَجِدُونَ من الزَّمْهَرِيرِ" متفق عليه.

ولقد عذّب الله أقواماً بالريح الباردة في الشتاء كقوم عاد كما قد ذكر ذلك أهل التفسير {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) } [الحاقة: 6 - 8]

والزمهرير وهو: البرد القاطع، عذابهم في الآخرة ، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "هو لونٌ من العذاب".
عن ابنِ عباسٍ، قال: يستغيثُ أهلُ النارِ من الحرِّ فيغوثونَ بريح بارده يصدعُ العظامَ بردُها فيسألون الحر." تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 530"

وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة وهو السحاب الذى يخال فيه المطر أقبل وأدبر وتغير وجهه فقالت له عائشة إن الناس إذا رأوا مخيلة استبشروا فقال: ((يا عائشة وما يؤمننى، قد رأى قوم عاد العذاب عارضا مستقبل أوديتهم فقالوا هذا عارض ممطرنا قال الله تعالى: بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم )).

أيها المسلمون: بوب الامام الترمذي رحمه الله في سننه فقال: باب ما جاء في الصوم في الشتاء. ثم أخرج بسنده عَنْ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ)). حديث صحيح. وكانت غنيمةً باردةً لحصول المؤمن على الثواب بلا تعب كثير، فالصوم في الشتاء البارد لا يحس فيه الصائم بالعطش لبرودة الجو ولا بألم الجوع لقصر النهار، فحقاً إنها لغنيمة باردة، فأين أصحابها؟
أخرج الإمام أحمد في حديثٍ حسنٍ عن أبي سعيد الخدري عن النبي  أنه قال: ((الشتاء ربيع المؤمن)) أخرجه البيهقي، وزاد فيه: ((طال ليله فقامه وقصر نهاره فصامه)) وإنما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه، فإن المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة، ولا كلفة تحل به من جوع أو عطش، فلا يحس بمشقة الصيام.
ففي المسند والترمذي عن النبي  : ((الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة))، وكان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: (ألا أدلكم على الغنيمة الباردة) قالوا: بلى, فيقول: (الصيام في الشتاء وقيام ليل الشتاء) يكون يسيراً لطول الليل فيه, يمكن أن تأخذ النفس حظها من النوم ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة.
وروي عن ابن مسعود قال: (مرحبا بالشتاء تنزل فيه البركة, ويطول فيه الليل للقيام ويقصر فيه النهار للصيام)، وعن الحسن قال: "ونعم زمان المؤمن الشتاء ليله طويل يقومه ونهاره قصير يصومه".
قال ابن رجب رحمه الله : "قيام ليل الشتاء يعدل صيام نهار الصيف ولهذا بكى معاذ عند موته، وقال: إنما أبكي على ظمأ الهواجر وقيام ليل الشتاء ومزاحمة العلماء بالركاب عند حلق الذكر". انتهي كلامه رحمه الله، ومن فضائل الشتاء أنه يُذكِّر بزمهرير جهنم، ويوجب الاستعاذة منها, ذكر ابن رجب في حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما عن النبي  قال: ((إذا كان يوم شديد البرد فإذا قال العبد لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم، اللهم أجرني من زمهرير جهنم، قال الله تعالى لجهنم إن عبداً من عبادي استجار بي من زمهريرك وإني أشهدك أني قد أجرته)) قالوا وما زمهرير جهنم. قال: ((بيت يلقى فيه الكفار فيتميز من شدة برده))، ... الله قنا حر جهنم وزمهريرها يارب العلمين... بارك الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية:
وعن الأصمعي رحمه الله تعالى قال: "كانت العرب تسمي الشتاء الفاضح-وكأنه والله أعلم يفضح الفقير، فلا صبرَ له عليه،

ويُذكر عن عمر رضي الله عنه أنه كان يتعاهد رعيته إذا حضر الشتاء، ويكتب لهم قائلا: "إنّ الشتاء قد حضر، وهو عدو فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصوف شعارًا ودثارًا؛ فإنّ البرد عدو سريعٌ دخوله، بعيدٌ خروجه".

تذكروا في هذا البرد القارس أحوال الفقراء والمعدمين من إخوانكم؛ فإنهم لا يجدون كساء يحمي أجسادهم، ولا فراشا يقيهم صقيع الأرض، ولا طعاما يُقوِّي عودهم على البرد، ولا يملكون وسائل للتدفئة، ومنهم مَنْ بيوتهم مداخلُ ومخارج للهواء البارد من قلة ذات اليد، ومنهم من يسكنون صفيحا يجمدهم وأسرهم وأولادهم..فارحموهم رحمكم الله تعالى؛ فإنهم محتاجون إلى عونكم..

تلمسوا حاجاتهم، وأعينوهم في نوائبهم.. دفئهوهم وأسرهم وأولادهم، وبُلُّوا بالطعام أكبادهم..تلمسوهم بأنفسكم أو وكلاء عنكم في الأحياء الفقيرة، والبلاد البعيدة؛ فإن ذلك من شكر نعمة الله تعالى عليكم، ومن معونة إخوانكم (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ الله إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة:110].

تذكروا يا عباد الله وأنتم تنعمون وأسركم وأولادكم بالدفء والشبع والاستقرار.. تذكروا إخوانا لكم شردتهم القوى الظالمة الغاشمة فهم ونساؤهم وأطفالهم في ملاجئ ومخيمات لا تقيهم من الهواء، ولا تحميهم من الصقيع،

تذكروا أولئك كلَّهم فإنهم إخوانكم.. يا ترى ما هو حالهم وقد ضاقت عليهم الحيلة؟! وما هو حال نسائهم وأطفالهم في هذا البرد القارس مع شح الطعام وقلة اللباس، وانعدام وسائل التدفئة، سلوا الله تعالى لهم المعونة؛ فهم في حال لا يعلمها إلا الله تعالى، وأكثروا لهم من الدعاء؛ فإن إحساسكم بهم من إيمانكم، وهو دالٌ على حياة قلوبكم تجاه إخوانكم "وإِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا" "وتَرَى الْمُؤْمِنِينَ في تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إذا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى له سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" كما ثبتت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أتـدري كيـف قابلنـي الشتاء وكيف تكون فيه القرفصاء
وكيـف البـرد يفعل بالثنايـا إذا اصطكت، وجاوبها الفضـاء
وكيف نبيت فيـه على فـراش يجور عليه في الليل الغطــاء
فـإن حل الشـتاء فأدفئونـي فـإن الشـيخ آفتـه الشـتـاء
أتدري كيف جارك يا ابن أمي يهــدده مـن الفقـر العنـاء
وكيـف يـداه ترتجفان بؤساً وتصدمـه المذلـة والشـقـاء
يصب الزمهريـر عليـه ثلجاً فتجمد فـي الشـرايين الدمـاء
خراف الأرض يكسوهن عِهنٌ وتـرفل تحتـه نعـمٌ وشـاء
وللنمل المساكن حيـن يأتـي عليـه البرد أو جـُنّ المسـاء
وهـذا الآدمـي بغـيـر دار فهل يرضيك يزعجه الشتاء
يجوب الأرض من حي لحي ولا أرض تـقيـه ولا سمـاء
معاذ الله أن ترضـى بهـذا وطفـل الجيـل يصرعه الشتاء
أتلقاني وبي عـوز وضـيق ولا تحـنو، فمـا هذا الجفـاء؟
أخي بالله لا تجـرح شعوري ألا يكفيـك مـا جـرح الشـتاء
وصلوا وسلموا على نبيكم....
المشاهدات 3229 | التعليقات 0