الشتاء؛ آيات وأحكام وفضائل 30-4-1441هـ
زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ، وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّ مَنْ جَعَلَ لِكُلِّ زَمَانٍ مَا يُنَاسِبُهُ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَشَرَعَ لِعِبَادِهِ مَا يُنَاسِبُ أَحْوَالَهُمْ وَطَاقَاتِهِمْ زَمَانًا وَمَكَانًا وَقُوَّةً وَضَعْفًا مِنَ الْقُرُبَاتِ؛ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا-، أَمَّا بَعْدُ:
اتَّقُوا اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ، وَقُومُوا بِمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْكُمْ وَانْتَهُوا عَمَّا نَهَاكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ يَوْمًا بَيْنَ يَدَيْهِ مَوْقُوفُونَ، وَعَلَى مَا قَدَّمْتُمُوهُ مَسْؤُولُونَ؛ وَاعْلَمُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، أَنَّ رَبَّكُمْ لَهُ الْحِكَمُ الْبَالِغَةُ، وَالْقُدْرَةُ النَّافِذَةُ، يُقَلِّبُ الدَّهْرَ كَيْفَ يَشَاءُ، وَيُقَدِّرُهُ كَمَا يُرِيدُ.
عِبَادَ اللَّهِ: لَا يَكَادُ يَنْقَضِي فَصْلٌ حَتَّى يَعْقُبَهُ آخَرُ، وَلَا يَنْتَهِي مَوْسِمٌ حَتَّى يَخْلُفَهُ ثَانٍ، كُلُّ ذَلِكَ لُطْفًا مِنَ اللَّهِ بِعِبَادِهِ وَرَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ؛ تَجْدِيدًا لِحَيَاتِهِمْ وَاسْتِقَامَةً لِأَحْوَالِهِمْ وَصَلَاحًا لِمَعَايِشِهِمْ؛ فَسُبْحَانَ الْمُصَرِّفِ الْعَلِيمِ، وَتَبَارَكَ الْمُدَبِّرُ الْخَبِيرُ، وَجَلَّ الْخَلَّاقُ الْعَظِيمُ!؛ (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)[النُّورِ: 44].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ فِي تَصْرِيفِ الْفُصُولِ آيَاتٍ وَمَوَاعِظَ لِكُلِّ مُعْتَبِرٍ، وَفِي اخْتِلَافِهَا مَنَافِعُ وَحِكَمٌ لِكُلِّ مُدَّكِرٍ؛ وَفَصْلُ الشِّتَاءِ مِنْ تِلْكَ الْفُصُولِ الَّتِي أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهَا حِكَمًا جَلِيلَةً وَحَفَّهَا أَسْرَارًا عَظِيمَةً مِنْهَا:
مَا يَسْتَفِيدُهُ الْعَبْدُ فِي تَغَيُّرِ الْفُصُولِ وَتَبَدُّلِهَا مِنْ عِبْرَةٍ وَعِظَةٍ فِي نَفْسِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَتَنَقَّلُ بَيْنَ أَطْوَارِ حَيَاتِهِ طِفْلًا، فَشَبَابًا، ثُمَّ شَيْخًا هَرِمًا إِذْ بِهِ يَوْمًا لَا مَحَالَةَ يَرْحَلُ، وَسَيَنْتَقِلُ مِنْ حَيَاةٍ لِمَوْتٍ؛ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[غَافِرٍ: 67]، وَأَنَّ دُنْيَاهُ الَّتِي يَعِيشُ عَلَيْهَا لَا مَحَالَةَ زَائِلَةٌ؛ وَمِثْلَمَا طَالَهَا التَّغَيُّرُ؛ حَرٌّ فَبَرْدٌ وَمَطَرٌ فَقَحْطٌ وَلَيْلٌ فَنَهَارٌ وَغَيْرَهَاْ، فَيَوْمًا تَتَغَيَّرُ دُنْيَانَا إِلَى آخِرَةٍ.
لِلَّهِ مِنْ تَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ وَتَبَدُّلِهَا حِكَمٌ فِي خَلْقِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ؛ لِيَنْظُرَ مَدَى شُكْرِهِمْ فِي بَقَاءِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، وَمَدَى صَبْرِهِمْ عِنْدَ زَوَالِهَا وَتَحَوُّلِهَا عَنْهُمْ؛ وَقَدْ قِيلَ: دَوَامُ الْحَالِ مِنَ الْمُحَالِ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا حَرَّ دَائِمًا فَكَذَا لَا بَرْدَ مُسْتَمِرٌّ، وَكَمَا أَنَّهُ لَا فَقْرَ دَائِمًا فَإِنَّهُ لَا غِنًى دَائِمًا، وَمِثْلُهُ الصِّحَّةُ وَالْمَالُ وَغَيْرُهَا؛ (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)[آلِ عِمْرَانَ: 140]، وَبِالتَّالِي لَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَنْزَعِجَ مِمَّا يُجْرِيهِ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ بَلَاءِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلْيَحْذَرْ مِنْ فَرَحِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ وَكَأَنَّهُ مُوجِدُهَا، وَأَنَّهَا لَنْ تَبِيدَ عَنْهُ أَبَدًا؛ نَاسِيًا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَالِكُ الْمُنْعِمُ، وَأَيْضًا أَلَّا تَكُونَ نِعَمُهُ شَاغِلًا لَهُ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ، بَلْ عَلَيْهِ تَسْخِيرُهَا فِيمَا يُقَرِّبُهُ إِلَيْهِ وَيَسْتَعِينُ بِهَا فِي تَحْقِيقِ الْغَايَةِ مِنْ وُجُوهٍ.
فَصْلُ الشِّتَاءِ دَعْوَةٌ لِلْعِبَادِ إِلَى شُكْرِ الْمُنْعِمِ بِمَا مَنَحَهُمْ سُبْحَانَهُ مِنْ وَسَائِلِ وِقَايَةٍ، وَسَخَّرَ لَهُمْ مِنْ سُبُلِ حِمَايَةٍ مِنْ بَرْدِهِ الْقَارِسِ وَتَبِعَاتِهِ الْمُؤْلِمَةِ؛ فَالْمُنْعِمُ -سُبْحَانَهُ- فِي كُلِّ فَصْلٍ يُهَيِّئُ لَبِعَادِهِ مِنَ الْوَسَائِلِ مَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ مَا يَكْرَهُونَهُ مَعَهُ، وَيُعْطِيهِمْ مَا يَتَنَاسَبُ فِيهِ مِنْ حَاجَاتِهِمْ فِيهِ؛ (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)[إِبْرَاهِيمَ: 34].
فَصْلُ الشِّتَاءِ دَعْوَةٌ لِلْعِبَادِ لِتَرْجَمَةِ حُقُوقِ الْأُخُوَّةِ وَلَوَازِمِهَا وَتَفْعِيلِهَا إِلَى وَاقِعٍ عَمَلِيٍّ؛ فَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). وَهُنَاكَ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- إِخْوَانٌ لَنَا حَلَّ بِهِمْ صَقِيعُ الشِّتَاءِ وَنَزَلَ بِهِمْ بَرْدُهُ الْقَارِسُ وَهُمْ بَيْنَ مَنْكُوبٍ وَمَكْرُوبٍ وَسَجِينٍ وَشَرِيدٍ، تَأْوِي بَعْضَهُمْ مُخَيَّمَاتٌ لَا تَقِيهِمْ بَرْدًا وَلَا تَدْفَعُ عَنْهُمْ حَرًّا، وَلَا تَمْنَعُهُمْ مَطَرًا وَلَا تُوقِفُ سُيُولًا، وَأَضْعَافُهُمْ أَشَدُّ مِحْنَةً وَأَعْظَمُ بَلَاءً، مُشَرَّدُونَ فِي الصَّحْرَاءِ وَالسُّهُولِ وَالْمَغَارَاتِ، فَمَنْ نَجَا مِنَ الْمَوْتِ قَتْلًا فَلَنْ يَسْلَمَ مِنْ غَيْرِهِ؛ أَعْدَاءٌ آخَرُونَ يَنْتَظِرُونَهُمْ؛ إِنَّهَا حَرْبُ التَّهْجِيرِ وَالنُّزُوحِ، وَحَرْبُ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ، وَحَرْبُ الْهِجْرَةِ عَبْرَ الْحُدُودِ الْبَرِّيَّةِ وَالْبَحْرِيَّةِ وَمَا يَعْتَرِيهِمْ مِنْ مَخَاطِرَ، وَحَرْبُ الْعَطَشِ وَالْجُوعِ، وَحَرْبُ الضَّيَاعِ وَالْمَوْتِ، وَحَرْبُ الْفِتْنَةِ فِي الْعِرْضِ وَالدِّينِ؛ هَذِهِ الْمَآسِي وَغَيْرُهَا كَثِيرٌ تَسَبَّبَ فِيهَا عَدُوٌّ غَاشِمٌ وَبَاغٍ ظَالِمٌ فَمَزَّقَهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَمَا مِنْ حِيلَةٍ لَهُمْ فِي دَفْعِهَا إِلَّا أَنْتُمْ يَا مُسْلِمُونَ بَعْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا لَمْ نَتَمَثَّلْ خُلُقَ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ وَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ فِي ظُرُوفٍ مِثْلَ هَذِهِ وَنَعْمَلُ عَلَى تَخْفِيفِهَا فَبِاللَّهِ عَلَيْكُمْ مَتَى؟!
الشِّتَاءُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْبَرْدِ الشَّدِيدِ الْقَارِسِ يُذَكِّرُنَا بِوَصْفِ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِ أَهْلِهَا، وَكَيْفَ جَنَّبَهُمْ كُلَّ مَا يُنَغِّصُ نَعِيمَهُمْ وَيُفْسِدُ سَعَادَتَهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا زَمْهَرِيرًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُقَاسِيْهِ أَهْلُ النَّارِ؛ قَالَ رَبَّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا)[الْإِنْسَانِ: 13]، وَفِي الْحَدِيثِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهْوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
النَّظْرَةُ الْإِيجَابِيَّةُ لِلتَّعَامُلِ مَعَ كُلِّ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ كَوْنِيًّا أَوْ شَرْعِيًّا؛ وَلَوْ كَانَ فِي ظَوَاهِرِهِ الْمَكْرُوهُ أَوِ الضَّرَرُ، فَفِي بَوَاطِنِهِ أَوْ مِنْ وَرَائِهِ يَكْمُنُ الْخَيْرُ الدُّنْيَوِيُّ أَوِ الْأُخْرَوِيُّ، فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) أَنَّ النَّبِيَّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَقْضِي اللَّهُ لِمُؤْمِنٍ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ".
فَالشِّتَاءُ وَإِنْ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِبَرْدِهِ وَثُلُوجِهِ وَلَوْ خَلَّفَ فِينَا مَكَارِهَ وَأَوْجَدَ أَضْرَارًا وَأَمْرَاضًا، فَلَا نَعْدَمُ فَوَائِدَهُ، وَعَلَيْهِ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُمْعِنَ النَّظَرَ وَيُحْسِنَ الِاسْتِقْرَاءَ فِي أَقْدَارِ اللَّهِ وَأَلْطَافِهِ، وَيُطِيلَ التَّأَمُّلَ فِي حُسْنِ تَصَرُّفِ اللَّهِ فِي كَوْنِهِ وَخَلْقِهِ؛ يُصَرِّفُ أَحْوَالَهُمَا بِمَا يُصْلِحُهُمْ وَيَحْفَظُ مَعَايِشَهُمْ؛ فَلَا يَجُوزُ لِعَبْدٍ التَّسَخُّطُ مِمَّا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَأَرَادَهُ فِي خَلْقِهِ وَكَوْنِهِ، وَأَلَّا يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِالسَّبِّ أَوِ الشَّتِيمَةِ بِمَا يُصِيبُهُ نَتِيجَةَ ذَلِكَ الْقَدَرِ فِي بَدَنِهِ مِنْ أَمْرَاضٍ وَمَشَقَّةٍ أَوْ مَالِهِ مِنْ نَقْصٍ وَتَلَفٍ وَغَيْرِهَا؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: "يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ؛ بِيَدِي الْأَمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
الشِّتَاءُ غَنِيمَةُ الْمُؤْمِنِ الْبَارِدَةُ يَنْبَغِي عَلَى الْمُؤْمِنِ اغْتِنَامُهَا؛ فَلَئِنْ وَجَدَ الْبَعْضُ فِيهِ أُنْسَهُ بِنَوْمِهِ وَسُكُونِهِ بِطُولِ لَيْلِهِ؛ فَإِنَّ ثُلَّةً مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَجَدُوا فِيهِ فُرْصَتَهُمْ أَنْ يَصُومُوا نَهَارَهُ اسْتِغْلَالًا لِقِصَرِهِ، وَيَقُومُونَ لَيْلَهُ اسْتِغْلَالًا لِطُولِهِ، وَمَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْمَكَارِهِ وَالْمَشَاقِّ إِلَّا أَنَّ الصَّابِرَ الْمُحْتَسِبَ يَجِدُ مَعَهَا الْكَفَّارَةَ وَالثَّوَابَ، وَفِي الْحَدِيثِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ). وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: "نِعْمَ زَمَانُ الْمُؤْمِنِ الشِّتَاءُ؛ لَيْلُهُ طَوِيلٌ يَقُومُهُ، وَنَهَارُهُ قَصِيرٌ يَصُومُهُ".
عِبَادَ اللَّهِ: مَعَ فَصْلِ الشِّتَاءِ تَعْتَرِضُ الْمُسْلِمَ أُمُورٌ وَأَحْكَامٌ يَنْبَغِي عَلَيْهِ فِقْهُهَا وَمَعْرِفَةُ حِكَمِ الشَّارِعِ فِيهَا:
الشِّتَاءُ عِنْدَ الْبَعْضِ مَظِنَّةُ الضَّرَرِ؛ لِذَا شَرَعَ الْإِسْلَامُ التَّخْفِيفَ، وَجَاءَ بِرَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ؛ فَمَنْ خَشِيَ ضَرَرًا عَلَى نَفْسِهِ بِاسْتِعْمَالِهِ الْمَاءَ غُسْلًا أَوْ وُضُوءًا فَلَهُ التَّيَمُّمُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُلْحِقَ بِنَفْسِهِ الضَّرَرَ أَوْ يُعَرِّضَهَا لِلْهَلَكَةِ؛ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ)[الْمَائِدَةِ: 6]، وَفِي مُقَابِلِهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَسَاهَلَ فِي ذَلِكَ، بَلْ يَحْتَاطُ لِنَفْسِهِ بِتَوْفِيرِ مَا يُمْكِنُهُ مِنْ وَسَائِلِ الْوِقَايَةِ.
يَسْتَدْعِي الْبَرْدُ -غَالِبًا- أَنْ يَلْبَسَ الشَّخْصُ عَلَى قَدَمَيْهِ جَوَارِبَ أَوْ شَرَابًا، فَيَكُونُ مِنَ الْمَشَقَّةِ نَزْعُهَا فِي كُلِّ وَقْتِ صَلَاةٍ، وَغَسْلُ رِجْلَيْهِ؛ فَرَخَّصَ الْإِسْلَامُ الْمَسْحَ عَلَيْهَا إِذَا كَانَ أَدْخَلَهُمَا عَلَى طِهَارَةٍ، وَلِمُدَّةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِلْمُقِيمِ، وَلِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهِنَّ؛ فَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَمْسَحُ عَلَى خُفَّيْكَ؟ قَالَ: إِنِّي أَدْخَلْتُ رِجْلَيَّ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ".
وَهَكَذَا الْعِمَامَةُ، شَرَعَ الْإِسْلَامُ الْمَسْحَ عَلَيْهَا إِذَا كَانَتْ مِنْ نَفْسِ الْعَمَائِمِ الَّتِي عَهِدَهَا الْعَرَبُ وَكَانُوا يَلْبَسُونَهَا.
الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ (الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ). وَقَدْ رَخَّصَ الشَّرْعُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَطَرِ أَوِ الْوَحْلِ وَمَا يُشَابِهُ ذَلِكَ فِي الْمَشَقَّةِ، وَيُلْحِقُ الضَّرَرَ بِالنَّفْسِ أَوِ الْمَالِ مِنَ الْغُبَارِ الشَّدِيدِ وَالرِّيَاحِ الشَّدِيدَةِ الْعَاتِيَةِ، أَوِ الْبَرْدِ الشَّدِيدِ؛ بِحَيْثُ يَعْجِزُ الشَّخْصُ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ أَوْ يَخْشَى ضَرَرًا يَلْحَقُهُ؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ، مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ، فَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا أَرَادَ إِلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ 705)؛ وَقَوْلُهُ: "مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ أَوْ مَطَرٍ" يُوحِي بِأَنَّ الْجَمْعَ عِنْدَ الْمَطَرِ كَانَ عَلَى عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهُنَا لَفْتَةٌ مُهِمَّةٌ أُحِبُّ أُنَوِّهَ عَلَيْهَا: غَالِبًا مَا يَحْصُلُ فِي مِثْلِ هَذِهِ النَّوَازِلِ وَالْأَحْدَاثِ خِلَافٌ بَيْنِ الْمَأْمُومِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، أَوْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِمَامِهِمْ، تَصِلُ أَحْيَانًا لِلْمُشَاجَرَاتِ وَارْتِفَاعٍ الْأَصْوَاتِ بِشَكْلٍ يَتَنَافَى مَعَ حُرْمَةِ الْمَسَاجِدِ، بِسَبَبِ قَضِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَقْتَ الْمَطَرِ وَالْوَحْلِ وَمَا يُشَابِهُهُ فِي الْمَشَقَّةِ، وَالسُّنَّةُ فِي هَذَا -يَا إِخْوَانُ- أَنَّ الْمُؤَذِّنَ مَتَى مَا رَأَى نَحْوًا مِنَ الْأَعْذَارِ الَّتِي ذَكَرْنَا سَلَفًا فَلْيَقُلْ مَكَانَ: (حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ): (صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ)، وَالسُّنَّةُ لِلنَّاسِ أَنْ يُصَلِّيَ كُلٌّ مِنْهُمْ حَيْثُ كَانَ.
وَمَنْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ الظُّهْرَ أَوِ الْمَغْرِبَ فَإِنْ جَمَعَ الْإِمَامُ مَعَهَا الْأُخْرَى جَمَعَ مَعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَجْمَعْ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ إِحْدَاثُ فَوْضَى وَبَلْبَلَةٍ فِي الْمَسْجِدِ؛ وَعَلَيْهِ انْتِظَارُ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى، فَإِنْ كَانَ الْمَطَرُ بَاقِيًا أَوِ الْوَحْلُ حَاْلَ الْصَّلَاةِ فَإِنْ شَاءَ أَجَابَ الْمُؤَذِّنَ، وَإِنْ رَأَى فِي خُرُوجِهِ مَشَقَّةً فَلْيَأْخُذْ بِالرُّخْصَةِ وَلْيُصَلِّ فِي بَيْتِهِ.
قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَعِصْيَانٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: الشِّتَاءُ فَصْلٌ يَرْغَبُ النَّاسُ فِيهِ فِي التَّنَزُّهِ وَالِارْتِحَالِ لِلْبَرِّيَّةِ خَارِجَ مُدُنِهِمْ، يَتَتَبَّعُونَ سُيُولَهَا الْجَارِيَةَ وَأَشْجَارَهَا النَّابِتَةَ وَأَجْوَاءَهَا الصَّافِيَةَ الْمَاتِعَةَ، وَقَدْ تَسْتَمِرُّ هَذِهِ الطَّلَعَاتُ أَيَّامًا تَمُرُّ عَلَيْهِمْ فِيْهَا صَلَوَاتٌ، مِمَّا يَجْعَلُ بَعْضَهُمْ فِي حَيْرَةٍ مِنَ الْأَخْذِ بِرُخَصِ السَّفَرِ مِنْ قَصْرٍ وَجَمْعٍ وَغَيْرِهِ، وَالسُّنَّةُ مَتَى قَطَعَ الْإِنْسَانُ مَسَافَةً تَزِيدُ عَلَى (83 كِيلُو مِتْرًا) فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِرُخَصِهِ؛ سَوَاءٌ كَانَ سَفَرُهُ فِي طَاعَةٍ أَوْ مُبَاحٍ، وَلَا يُشْرَعُ لَهُ الْقَصْرُ وَالْجَمْعُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ. فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "صَحِبْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ)؛ إِلَّا أَنَّ أَكْبَرَ الْإِثْمِ وَأَعْظَمَ الْجُرْمِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرِّحْلَاتُ مَلْهَاةً لِلْعِبَادِ عَنِ الصَّلَوَاتِ وَمَشْغَلَةً لَهُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّ الْبَرِيَّاتِ، وَمُنْسِيَةً شُكْرِ الْمُنْعِمِ عَنْ هَذِهِ الْمِنَنِ وَالْمُبَاحَاتِ، فَيَغْدُونَ فِي سَخَطِ اللَّهِ وَيَرُوحُونَ فِي غَضَبِهِ.
إِخْوَةَ الْإِسْلَامِ: أَيَّامُ الشِّتَاءِ الْبَارِدَةُ أَيَّامُ مَكَارِهَ، وَأَحْيَانًا يَشُقُّ عَلَى الشَّخْصِ إِسْبَاغُ غُسْلِهِ وَوُضُوئِهِ، وَيَشُقُّ عَلَيْهِ رَفْعُ مَا عَلَى مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ مِنْ لِبَاسٍ خَشْيَةَ الْبَرْدِ، أَوْ مِنْ بُرُودَةِ الْمَاءِ، فَيَحُولُ ذَلِكَ دُونَ وُصُولِهِ لِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي أَمَرَ الْإِسْلَامُ بِتَعْمِيمِهَا بِالْمَاءِ وَشَدَّدَ فِي التَّهَاوُنِ فِيهَا؛ وَلِمَا فِيهَا مِنَ الْمَكَارِهِ عَظَّمَ الشَّارِعُ أَجْرَهَا وَزَادَ فِي فَضْلِهَا، فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ...".
فَصْلُ الشِّتَاءِ يَمْنَحُ النَّاسَ فُرْصَةً لِلْأَسْفَارِ وَيُشَجِّعُهُمْ لِلتَّنَزُّهِ، لَكِنْ مِنَ الْمُؤْسِفِ مَا يُرَافِقُ تِلْكَ الطَّلَعَاتِ وَالتَّنَزُّهَاتِ مِنْ مُخَالَفَاتٍ كَثِيرَةٍ تَتَنَافَى مَعَ الشَّرِيعَةِ وَالْقِيَمِ وَالْأَنْظِمَةِ، مِنْهَا عَلَىْ سَبِيْلِ اْلِمثَالِ؛ الْإِسْرَافُ فِي الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَرَمْيِ مُخَلَّفَاتِ الْأَطْعِمَةِ فِي مُتَنَزَّهِ النَّاسِ وَظِلِّهِمْ وَطُرُقِهِمْ، وَالتَّعَرِّي وَالتَّكَشُّفُ، وَالتَّفَاحِيطُ وَارْتِفَاعُ الْأَصْوَاتِ، وَالِاخْتِلَاطُ وَالتَّحَرُّشُ، وَأَصْوَاتُ الْمُوسِيقَى وَالْأَغَانِي، أَوْ نُزُولُ الشَّبَابِ بِجِوَارِ بَعْضِ الْعَوَائِلِ؛ مِمَّا يَتَسَبَّبُ فِي حَرَجِهِمْ وَأَذِيَّتِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُنَافِي الْأَخْلَاقَ الْفَاضِلَةَ وَالْأَعْرَافَ النَّبِيلَةَ.
فَصْلُ الشِّتَاءِ يُبَرْهِنُ عَلَى مَدَى إِيمَانِ الْعَبْدِ وَتَقْوَاهُ؛ حَيْثُ يَشْتَدُّ الْبَرْدُ لَيْلًا؛ مِمَّا يَجْعَلُ الصَّلَاةَ ثَقِيلَةً، وَشُهُودُهَا فِيْ الْمَسَاجِدِ أَثْقَلَ، وَالْمُؤْمِنُ يَجْعَلُ مِنْ هَذِهِ الْمَكَارِهِ فُرْصَةً لِنَيْلِ الدَّرَجَاتِ وَتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ، بَيْنَمَا غَيْرُهُ جَعَلَ مِنْ تِلْكَ الْمَكَارِهِ فُرْصَةً لِنَوْمِهِ أَوْ لِلصَّلَاةِ فِي بَيْتِهِ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ رِضَاكَ وَالْجَنَّةَ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ سَخَطِكَ وَالنَّارِ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِفِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبِّ الْمَسَاكِينِ.
الدُّعَاءُ ...
الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ وَالسَّلَامُ ...
أَقِمِ الصَّلَاةَ...
المرفقات
آيات-وأحكام-وفضل-30-4-1441هـ
آيات-وأحكام-وفضل-30-4-1441هـ
آيات-وأحكام-وفضل-30-4-1441هـ
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق