الشتاء آداب وعظات

محمد ابراهيم السبر
1441/04/03 - 2019/11/30 16:50PM

خطبة : " الشتاء آداب وعظات  "

الجمعة 2 /4 /1441 هــ  بجامع الأميرة موضي السديري بالرياض

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.   

عباد الله : إن ربَّكم، الذي لا إله إلا هو، ولا ربَّ سِواه، له الحكمةُ البالِغةُ، والقدرةُ النافذةُ، يقلِّبُ الليلَ والنهارَ إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار، يولجُ الليلَ في النهارِ، ويولجُ النهارَ في الليلِ: ﴿وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾ .

وفِي كلِّ شيءٍ لَهُ آية ٌ*** تَدُلّ على أنّهُ الواحِدُ

ومن بديعِ حكمة الله الباهرةِ، وعظيمِ منته على خلقه، ورحمتِه بهِم، أن نوَّعَ لهم الفصولَ في العامِ الواحدِ، بين صَيْفٍ وشتاءٍ، وبين ربيعٍ وخريفٍ، لِتَتِمَّ بذلك مصالحُهُم، ويستقِيمَ معاشُهم، ويُستِويَ أمرُهُم.

فالحمدُ للهِ على بِرِّه وإِحسانِه، ولُطْفِه ورحمتِهِ وامتنانِهِ.

عباد الله، لقد أظلَّكُم فصْلُ الشتاءِ، وهو فَصْلٌ كانَ يَكتُبُ فيه عمرُ الفاروق رضي الله عنه لعُمَّالِه:" إنَّ الشِّتاءَ قد حضَرَ، فتأهَّبُوا له أُهْبَتَه، من الصُّوفِ والخِفافِ والجَوارِبِ، واتَّخِذُوا الصوفَ شِعاراً ودِثاراً "، وهذا من حسن رعايته ورأفته برعيته رضي الله عنه.

وإن من مِنَّة اللهِ تبارك وتعالى عليكم أنْ جَعَلَ لَكُم سَرابيلَ تقِيكُم الحَرَّ، وسَرابيلَ تقِيكم البرْدَ، فخَلَقَ لكم من أصوافِ بهيمةِ الأنعامِ وأوبارِها وأشعارِها، ما فيه دِفءٌ ووقايَةٌ، قال تعالى: ﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ . وقال تعالى : ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ .

فاشكُروا اللهَ تعالى، فإن الشُّكْرَ سببٌ في المزيدِ، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ 

عبادَ الله إنَّ من نعمةِ اللهِ عَلَيْكم بتنويعِ الفصولِ أن يحصلَ بذلك تَذَكُّرُ جَهنمَ، - أعاذنا الله منها - فإن شِدَّةَ الحرِّ وشِدَّةَ البردِ يُذكِّرانِ الناسَ بما في جهنمَ، من الحرِّ والزَّمْهريرِ، وسائر أنواع الذاب والنكال ؛ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: (اشتكتْ النارُ إلى ربِّها فقالت: يا ربِّ أَكَلَ بعضي بعضاً، فأذِن لها بِنَفَسَيْنِ، نفسٌ في الشتاءِ، ونفسٌ في الصَّيْفِ، فهُوَ أشدُّ ما تجِدُون من الحرِّ، وأشدُّ ما تجدُون من الزَّمهرير).

وقال اللهُ تعالى مخبِراً عن أهلِ النار -نعوذُ باللهِ منها-: ﴿لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً * جَزَاءً وِفَاقاً﴾ ، فجهنمُ يعذَّبُ أهلُها بالحرِّ والزَّمْهرِير والحميم والغساق. قال ابن عباس رضي الله عنهما:" الغسَّاقُ الزمهريرُ الباردُ الذي يَحرِقُ من بردِهِ" وقال الحسن رحمه الله:"كلُّ بردٍ أهلَكَ شيئاً فهو من نَفَسِ جهنمَ".

فَيَا مَنْ آذاهُ حَرُّ الصَّيْفِ، ويا مَن أزْعَجَهُ بَرْدُ الشِّتاءِ، اتَّقِ عذابَ جهنمَ، {إن عذابَها كان غراماً، إنها ساءت مستقراً ومقاماً} فإن ما تجدُه في هذه الدنيا من شدةِ البردِ، أو شدةِ الحرِّ إنما هو شيءٌ يسيرٌ من حرِّ جهنمَ وزمهريرِها.

فكيفَ بِكَ يا من أسرَفْتَ على نفسِكَ بالذُّنُوبِ والمعاصي، يومَ يُؤْتَى بجهنم  تُقادُ بسبعينَ ألفَ زمامٍ، ثم يقال:﴿ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ .

تَفِرُّ مِنَ الهَجيرِ وَتَتَّقيهِ *** فَهَلّا عَن جَهَنَّمَ قَد فَرَرتا

وَلَستَ تُطيقُ أَهوَنَها عَذاباً *** وَلَو كُنتَ الحَديدَ بِها لَذُبتا

فَلا تُكذَب فَإِنَّ الأَمرَ جِدٌّ *** وَلَيسَ كَما اِحتَسَبتَ وَلا ظَنَنتا

أيها المؤمنون: إنَّنا نعِيشُ هذا الفصْلَ، ويَعيشُ معنا إخوانٌ لنا في الدين، قُدِرَتْ عَلَيهِم أرزاقُهم، وقَصُرَت بهم النَّفَقةُ، وهم بأمسِّ الحاجةِ إلى العوْنِ والمساعدةِ خاصة في فصل الشتاء ، فقَدِّموا لأَنفُسِكم، وَتَفَقَّدُوا إخوانَكم المحتاجين، وابدؤُوا بأقارِبِكم، وذوي أرحامِكُم، ثم جِيرانِكم، وأهلِ بلدِكُم، ثم الأقرب منكُم فالأقرب، ولا يحقِرَنْ أحدُكم من المعرُوفِ شيئاً، فقد قال النبيُّ  صلى الله عليه وسلم : ( اتقِ النَّارَ، ولو بِشِقِّ تمرةٍ) . 

عباد الله : صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : " الشتاء غنيمة العابدين " ، وقال الحافظ ابنُ رجب رحمه الله : " إنما كان الشتاءُ ربيعَ المؤمنِ؛ لأنه يَرتَعُ فيه في بساتينِ الطاعاتِ، ويسرحُ في ميادينِ العباداتِ، ويُنـزِّه قلبَه في رياضِ الأعمالِ الميسَّرةِ فيه فالمؤمِنُ يَقْدِرُ في الشِّتاءِ على صِيامِ نهارِهِ، من غير مشقَّةٍ ولا كُلفةٍ، تحصل له من جوع ولا عطش، فإن نهارَه قصيرٌ باردٌ، فلا يُحَسُّ فيه بمشقةِ الصيامِ. ويروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: مرحبًا بالشتاء؛ تنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام. وعن عبيد بن عمير أنه كان إذا جاء الشتاء قال: يا أهل القرآن! طال ليلكم لقراءتكم فاقرؤوا، وقصر النهار لصيامكم فصوموا.

فاغتنموا هذه الفرصةَ وهذه الغنيمة الباردة فإنَّ للصيامِ فضائلَ عظيمةً عديدةً، ولو لم يكن فِيه إلا ما قالَه اللهُ تعالى في الحديثِ القدسي: ( الصِّيامُ لي وأنا أجْزِي به ) لكان كافيا ً.

أيها المؤمنون. إن من أبوابِ الخيرِ في هذا الفصلِ طولَ الليلِ، الذي يتمكَّنُ العبدُ فيه من القِيامِ، فلِطُولِه يمكنُ أن تأخُذَ النفسَ حظَّها من النَّومِ، ثم تقومُ بعد ذلك إلى صلاةِ الليلِ، التي قال اللهُ فيها: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ﴾  ، وقال سبحانه : ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ﴾  ، فصلاة الليلِ شعارُ المتقين، ودِثارُ أولياءِ اللهِ المفلحين، الذين قال الله تعالى في وصفهم : ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ .

فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، فلَيْلُ الشتاءِ طويلٌ، فلا تقصِّرُوه بمنامِكم، ولا تضيِّعُوه بسهرِكُم على المعاصي والملذَّاتِ، واجعلوا ليْلَكم ليلَ المتَّقِين الذاكِرين، لا ليلَ الغافِلين المستهتِرين.

قال ابنُ القيمِ رحمه الله: "فيا عَجَباً من سفيهٍ في صورةِ حليمٍ، ومعتوهٍ في صورةِ عاقلٍ، آثَرَ الحظَّ الفانيَ الرخيصَ على الحظِّ الباقي النفيسِ، باعَ جَنَّةً عرضُها الأرضُ والسماواتُ بسِجْنٍ ضَيِّقٍ بينَ أصحابِ البليةِ والشهواتِ"

اللهم أعِنَّا على ذكرِك وشكرِك وحُسْنِ عبادتِك.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم ، أحكم الحاكِمين، وبعد ، فاتقوا اللهَ عباد اللهِ حق التقوى، وسابقوا إلى مغفرةٍ من ربِّكُم وجنةٍ، عرضُها السماءُ والأرضُ، أُعدَّتْ للمتقين.

معاشر المؤمنين والمؤمنات. إن من أبوابِ الخيرِ في فصْلِ الشِّتاءِ إِسباغَ الوضوءِ، فإن ذلك من أفضلِ الأعمالِ، ففِي صحيح مسلمٍ عن النبيِّ  صلى الله عليه وسلم :« ألا أدُلُّكم على ما يمحُو اللهُ به الخطايا، ويرفعُ به الدرجاتِ؟ قالوا: بلى، يا رسولَ اللهِ، قال: إسباغُ الوضوءِ على المكارِهِ، وكثرةُ الخُطا إلى المساجدِ، وانتظارُ الصلاةِ بَعدَ الصلاةِ، فذَلِكُم الرِّباطُ، فذَلِكُم الرِّباطُ» واسباغ الوضوء تمامه . وإسباغُ الوضوءِ تمامه ويكونُ بتعميمِ الماءِ على جميعِ أعضاءِ الطهارةِ، فقد أَمَرَ صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال في حديث لقيطِ بنِ صبرةَ رضي الله عنه:« أسبِغْ الوضوءَ، وخلِّلْ بَيْنَ الأصابعِ، وبالِغْ في الاستنشاقِ ما لم تكُن صائِماً»

أيها المؤمنون. إن ربَّكُم الكريمَ الحليمَ لم يجعل عليكُم في الدِّينِ من حَرَجٍ، بل جَعَلَه يَسِيراً سَهلاً، قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ 

فمن تيسِيرِه: أن أجازَ لَكُم المسحَ على الخُفَّينِ، بدلاً من غسلِ الرِّجْلَين، إذا كانتا مستورتين بخُفٍّ أو جَوْرَبٍ ونحوهما.

وذلك بشرطِ أن يكونا قد لُبِسَا على طهارةٍ، وقد رَخَّصَ صلى الله عليه وسلم في ذلك للمُقِيم يوْماً ولَيلةً، وللمُسافرِ ثلاثةَ أيام بليالِيها ، وتَبتدِىءُ المدَّةُ منْ أوَّلِ مسحةٍ بعدَ الحَدَثِ، فإذا لبس الإنسانُ الجوربَ مثلاً وقتَ صلاةِ الفجرِ، ولم يمسحْ علَيْهِما أوَّلَ مرةٍ إلا لصلاةِ الجُمُعة، فيَكُونُ ابتدَأَ مُدَّةَ مسحِهِ من صلاةِ الجُمُعةِ إلى مثلِ هذا الوقتِ من الغَدِ، فإذا تمَّتْ المدةُ وجبَ عليه غَسْلُ رِجْلَيْهِ إذا توضأ.

 ثم اعلموا أن الله أمرَكم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: ( إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا ) [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن بقية العشرة وأصحاب الشجرة وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين.

اللهم أحيِنا مُسلمين، وتوفَّنا مُسلمين، وألحِقنا بالصالِحين غيرَ خزايا ولا مفتُونين.

اللهم إنا نسألُك الجنةَ وما قرَّبَ إليها من قولٍ أو عملٍ، ونعوذُ بك اللهم من النار وما قرَّب إليها من قولٍ أو عملٍ.

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)  [النحل: 90].

فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون .

المشاهدات 1729 | التعليقات 0