الشَبَهُ والعِبرَةْ بين المؤمنِ والنخلةْ

خالد علي أبا الخيل
1438/11/28 - 2017/08/20 18:31PM

الشَبَهُ والعِبرَةْ بين المؤمنِ والنخلةْ

التاريخ: الجمعة:26 ذو القعدة 1438 هـ

الحمد لله، الحمد لله الذي جمَّل المؤمن بأجمل الأوصاف، وجعل بينه وبين النخلةِ المباركة نوعُ من الاتصاف، وأشهد أن لا إله إلا الله بارك في المؤمن بالهدايةِ والألطاف، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ضرب مثلُ المؤمن بالنخلةِ لما فيها من المنافع والإتحاف، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه أهل البرِ والائتلاف.

صلى عليك يا خير الورى

***

ما سبح الزهاد والعباد

صلوا عليه فبالصلاة ذنوبكم

***

تمحى وتنقى الأنكاد

أما بعد...

فاتقوا الله، فالتقوى سلاح وأعظم برٍ وصلاح، وأقوى كفاح.

عباد الله، مضى معنا في جمعتنا الماضية، منافع النخلة والتمور، وما فيها من الفوائد والحضور، ومن منافعها المذكورة؛ تشبيه نبي الأمة المؤمن بالنخلة لما بينهما من القواسم المشتركة والمنافع المتوافقة، وأشرنا إلى ذلك إشارة، ووعدنا بأن الموضوع يستحق الإفراد والإشادة.

أيها المسلمون،،،

 كان من عادة المصطفى أن يوانس أصحابه باللقاء، ويقرب لهم العلوم بالأمثال، والمثال نوعٌ من أسلوب القرآن والسُنةِ وحسن المقال، كان مجلسٌ ما أجمله وهو يضم أفضل الأمة وأصحابه الأئمة، كان في المجلس عشرةٌ من المعروفين أبو بكرٍ وعمر وابنه عليهم رضوان الله أجمعين.

فاسمع إلى هذه المحاضرة، وفي هذه المجالسةِ والمبادرة ومنه نأخذ درس الاستفادة من مجالسة أهل العلمِ وطلبته بالقرآنِ والمناقشةِ والكلمة.

فروى البخاري ومسلم وأحمد في مسنده، (فبينما هم جلوسٌ عند رسول الله أوتي النبي بجمُّار نخلٍ) والجمُّار: هو قلب النخلة، فجعل النبي ﷺ يأكل منه وقال لهم رسول الله ﷺ: (مثل المؤمن كمثل شجرةٍ لا يسقط ورقها ولا يتحات صيفًا ولا شتاءً).

 وفي رواية: (إن من الشجر شجرة كالرجل المؤمن).

 وفي رواية: (وإنها مثَّل المسلم فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي)، قال عبد الله بن عمر: ووقع في نفسه أنها النخلة فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: (هي النخلة).

وفي رواية: (فأردت أن أقولُ هي النخلة فإذا أنا أصغر القوم فسكتُ، فقال النبي : هي النخلة).

وفي رواية: (إن من الشجرِ لما بركتهُ كبركة المسلم، وإذا أنا عاشر عشرة) وقد خرجه البخاري في عشرة مواضع، وإليكم إليها لما فيها من التبويبات المفيدة والنكت الفريدة.

فقال رحمه الله: باب قول المحدث حدثنا أو أخبرنا وأنبأنا واحد، وباب طرح الإمام المسألةَ على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم، باب الفهم في العلم، باب الحياء في العلم، باب بيع الجمار وأكله، باب قوله:( كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ)(إبراهيم:24)، (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ)(إبراهيم:25)، باب أكل الجمار، باب بركة النخلة، باب ما لا يستحيا من الحق للتفقه في الدين، باب إكرام الكبير.

ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال: هذه تراجم أبي عبد الله البخاري اللطيفة على حديث النخلة الشريفة، إن هذه المجالسة العلمية والمساجلة الودية فيها من الفوائد واللطائف، والفرائضِ والمتاحف ما لا يسع له كتابٌ وارف، ويتحمله مجلد.

وحسبنا ما أردناه؛ هو تشبيه المؤمن المبارك لهذه النخلة المباركة، وهذا جزءٌ من فوائد النخلة المباركة.

والمقصود: أن النبي ﷺ شبه المؤمن بالنخلة، فالنخلة مباركة في جميعها ورطبها، يابسها، صيفها وشتائها، وتمرها، وكذا المؤمن مبارك كله ظاهره وباطنه، مدخله ومخرجه، علمه وعمله، دعوته ونفعه، صلاحه وإصلاحه، بره وصلته.

قال ابن حجر في الفتح: "ووجه الشبه بين النخلةِ والمسلم من جهة عدم سقوط الورق".

ففي رواية: (إن مثل المؤمن كمثل شجرةٍ لا تسقط لها أنملة أتدرون ما هي؟ قالوا: لا. قال: هي النخلة لا تسقط لها أنملةٍ ولا تسقط لمؤمنٍ دعوة).

والصحيح: أن المؤمن عامٌ نفعه كما في رواية البخاري: (إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم).

وبركة النخلةِ موجودة في جميع أجزائها، مستمرة في جميع أحوالها، فمن حين تطلع إلى أن تيبس تؤكل أنواعًا، ثم بعد ذلك ينتفع بجميع أجزائها؛ حتى النوى في علف الدواب، والليف في الحبال وغير ذلك مما لا يخفى، وكذا بركة المسلم عامةٌ في جميع الأحوال، ونفعه مستمرٌ له ولغيره؛ حتى بعد موته.

وعند البخاري: (أخبروني بشجرةٍ كالرجل المسلم لا يتحات ورقها ولا... ولا...ولا... قيل في تفسيره ولا ينقطع ثمرها، ولا يعدم فيئها، ولا يبطل نفعها) وفيه دليل على بركة النخلة وما تثمره.

ومن أوجه الشبه: ما قاله القرطبي فوقع التشبيه بينهما من جهة؛ أن أصل دين المسلم ثابتٌ، وأن ما يصدر عنه من العلومِ والخيرِ قوتٌ للأرواح ومستطاب، وأنه لا يزال مستورًا بدينه، وأنه ينتفع بكل ما يصدر عنه حيًا وميتًا.

ومن أوجه الشبه: ما في رواية للبزاري مرفوعًا: (مثل المؤمن مثل النخلة ما أتاك منها نفعك)، قال: ابن حجر وقد أفصح بالمقصود بأوجز عبارة.

ومن أوجه الشبه: ما قاله النووي في شرحهِ لمسلم قال العلماء: وشبَّه النخلةِ بالمسلم في كثرة خيرها، ودوام ظلها، وطيب ثمرها، ووجودها على الدوام، فإنه من حين يطلع ثمرها لا يزال يؤكل منه؛ حتى ييبس، وبعد أن ييبس تتخذ منه منافع كثيرة، ومن خشبها وورقها وأغصانها فيستعمل جذوعًا وحطبًا وعِصيًا ومخاصر وحصرًا وحبالًا وأواني، وغير ذلك، ثم آخر شيءٍ منها: نواها وينتفع به علفًا للإبل، ثم جمال نباتها، وحُسن هيئة ثمرها فهي منافعٌ كلها، وخيرٌ وجمال.

كما أن المؤمن خيرٌ كله من كثرة طاعاته ومكارم أخلاقه ويواظب على صلاته وصيامه، وقراءته، وذكره، والصدقة، والصلة، وسائر الطاعات.

وكما طرح الله في النخلة من البركة فيها وبها عملًا وتجارة ورزقًا وادخارًا، فكذا المؤمن فيه بركة في حلهِ وإقامته، في نزولهِ وسفره.

ومن أوجه الشبه والاتصاف وجميل المشاركة والإنصاف: ما جعله الله في الاثنين من الثبات، والقوة، والتقعيد، والتأصيل، فالنخلةُ ثابتةٌ في أصلها، وجذورها لا تزيدها الأعوامُ إلا ثباتًا، ولا يحركها الهواءُ والرياح اهتزازًا، ولا تغيرها الأعاصير حراكًا، بل لا تزيدها إلا ثباتًا في أصلها وقوةً في تماسكها: (أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ)(إبراهيم:24).

وكذا المؤمن مهما تراكمت عليه الفتن والشبهات، وانفتحت عليه الشهوات والحضارات، مهما تخلى الناس عن مبادئهم، وقيمهم، ودينهم، ومهما أشتد البلاء وغربة الدين وقلة المعين، وحُب الناس ونريد مثل ما يريد الناس، والعالم الفلاني أفتى بكذا وهذا جائز، والفتن تقصف من حواليه، تحاول زعزعته وتخليته، فالمؤمن ثابتٌ قائمٌ متمسكٌ بدينه، وقيمه وأخلاقه.

الناس يلهثون وراء الشهوات، وتعج بهم الشبهات وهو ثابتٌ بثبوت الجبال الراسيات.

ومن أوجه الشبه بهذه النخلة والشجرة: بقاؤها لا يتحات ورقها، كاملةٌ بلباسها، وزينتها في صيفها وشتائها، فكذا المؤمن فكذا المؤمن زينهُ الله بالإيمان، وجمله بأخلاق أهل القرآن، والمؤمن جميلٌ في نظافته، وطيبه ونزاهته باطنًا بتعامله مع ربه وعبادته، وظاهرًا في لباسه وتعامله مع إخوانه.

ومن القواسم المشتركة بين المؤمن والنخلة:

ثباتها في الصيف والشتاء، والرياح والهواء فكذا المؤمن ثابتٌ في الصراء والضراء، يعبد ربه في سرائه حمدًا وشكرًا، ويعبد ربه في ضرائه صبرًا وحمدًا، فهو يحقق العبودية شدةً ورخاءً في المنشط والمكره، في عسره ويسره، مستقيمٌ على العبادة خالفت نفسه، أو وافقت متمثلًا: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)(هود:112).

ومن الصفات:

 أن قلب النخلة أبيضٌ حلوٌ فكذا قلب المؤمن سليمٌ أبيضُ، أبيضٌ لا غل فيه ولا حقد ولا بغض ولا حسد.

ومن اللطائف في الصفات، والاشتراك في السمات:

 أن طعمها حلوٌ في رطبها وتمرها، فكذا المؤمن طيبٌ في جميع أحواله في جلوسهِ وكلامه، حلوٌ في صمته ونطقه، وفي ردهِ ولفظه، في وساطتهِ وشفاعته، في صلحهِ ودعوته، في أمرهِ وإنكاره، يُعلم الجاهل ويذكر الغافل.

قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو التواب الرحيم

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا حمدًا، والشكر له شكرًا شكرًا.

ومن أوجه الشبه بين المؤمن والنخلة: أن النخلة يستمر نفعها، وكذا المؤمن نفعه متعدي، ويستمر في حياتهِ ومماته يعطي وينفق، يتصدقُ ويبذل، وصدقته جارية وأعماله الخيرية مستمرة دائمًا، وخير الناس من طال عمره وحسن عمله، فهكذا النخلةُ يطول عمرها، ويُنتفع بثمرتها، بل المؤمن كلما طالت نفعت.

ومن الأوجه: أن النخلة تؤكل بلحًا ورطبًا، وتمرًا وحشفًا، يابسًا وبسرى، تؤكل في جميع الأوقات وتدخر في جميع الصفات، وهكذا المؤمن أينما بحثت عنه وجدته في نفعه لنفسه، في نفعه لغيره، همتهُ عالية، وخيراته متصاعدة، قدوةٌ في أدبه وسمته، وعبادته ومظهره.

ومن ذلكم بارك الله فيكم: أن النخلة بعد قلعها يستفاد منها، وبعد موتها يستمر باقيها، وبعد موتها يستمر باقيها، والمؤمن بعد موته له أثرهُ مصحفًا يورثه، وأدبًا يعلمه وعلمًا يبذله، وولدًا صالحًا يؤدبه، وذِكرًا جميلًا يذكر به، وخُلقًا عاليًا يتحدث عنه أفعاله قبل أقواله.

فهو كما قال سبحانه: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ)(الكهف:28)، فهو كما قال سبحانه: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ)(الشعراء:84) هو الثناء الحسن والذكر الجميل.

ومن أوجه المماثلات بين المؤمنِ والنخلات:

 أن فرعها في السماء عالي، وهكذا المؤمن في عزتهِ وقوة إيمانه لا يداهن ولا يتنازل عن دينه صامدًا في ولائه للمؤمنين، وعداوته للكافرين، عزتهُ في دينه، رفعتهُ في قيمه وأخلاقه، أعمالهُ في شموخ، يأخذ الحق بقوة ويعمل به بقوة، لا يتنازل في تمييع دينه كالاختلاط، وسماع الغناء، وفي إسباله، وحلق اللحى، في تركه لصلاة الجماعة، أو مفارقة أولاته والجماعة.

وكذا المرأةُ عزيزةٌ بحجابها، عزيزةٌ بلباسها وعفافها بعيدةٌ عن الاختلاط بالرجال الأجانب في الحدائق، والوظائف، في المنتزهات والمجامع، ومن ذلكم أن تمرها غذاءٌ ودواء.

والمؤمن مجالسته نفعٌ وشفاء، وتمرها طعامٌ وقوت، والمؤمن غذاء قلبه وسعادته ذكر الحي الذي لا يموت.

ومن ذلك: أن النخلة لا تنبت في أي أرض بل طيبة التربة، وكذا المؤمن يبتعد عن رفقاء السوء، وجلساء الشر والخلى، ينتقي بيئته وزوجة وأرضه وعمله، ينتقي رفقاءه كما ينتقي الآكل أطايب تمره ورطبه، يجالس الصالحين ويصاحب المؤمنين.

 (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ)(الكهف:28)، وفي الحديث: (لا تصاحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي).

وكما أن النخلة متفاوتٌ في طلعه، مختلفٌ في ثمره وتمره ونوعهِ وشكلهِ، فليست النخيل على مستوى واحد في الحُسن والجودة، وهكذا الشأن بين المؤمنين فهم متفاوتون في الإيمان، متفاوتون في الأخلاق الحسان، فليسوا على درجةٍ واحدة.

ومن الأوصاف أمة الهدى والألطاف:

 أن النخلة لا تبقى حية إلا إذا سُقيت بالماء، فإذا حبُس عنها الماء ذَبُلت، وإذا قطع عنها ماتت وهكذا المؤمن لا يحيا إلا بالقرآن، حياة قلبه بكلام ربه، حياة قلبه بطاعة رسوله، بدون القرآن والتمسك بسُنة ولد عدنان يمرض أو يموت ويكون في خبر كان.

حتى ولو كان حيًا يأكل ويشرب كسائر الإنسان، ومن ذلك أن المؤمن شأنه التواضع ونبذ الأحقاد والتدافع، بعيدًا عن الفخر والخيلاء، والكبر والاستهزاء كالنخلة في علوها، وارتفاعها، وشموخها، وبعدها يصبر ويحتسب، لا يغضب ولا يعتب.

كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعًا

***

يُرمى بصخرٍ فيلقي بأطيب الثمرِ

 

والنخلة أصغر الشجر والمؤمن أصبر البشر وكلما زاد عمرها زاد نفعها، والمؤمن كلما طال عمره زادت عبادته وعظم نفعه، عبادته ودعوته مستمرة: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)(الحجر:99).

هذه بعض الصور والشبه بين المؤمنِ والنخلة، والمواقف كثيرة، والتوافق كبيرة، وإنما ذلك للتذكير والإشارة.

هذا وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته وأن يجعلني وإياكم من أنصار دينه وشرعه.

 

المشاهدات 1040 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا