الشام وغزوة الأحزاب
عبدالله حمود الحبيشي
1436/12/25 - 2015/10/08 17:49PM
خطبة عن أحداث الشام وربطها بغزوة الأحزاب مأخوذة من خطبة للشيخ أحمد الطيار بعنوان أبشروا بنصر أهل الشام مع بعض التعديلات والإضافات
نسأل الله أن ينفع بها قائلها وسامعها
إنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ...
أَمَّا بَعْدُ .. عباد الله .. إن من سنن الله في الأرض والتي لا تتحول ولا تتبدل .. أن شدة الكرب يعقبها الفرج وأن تكالب الأعداء على أهل الإسلام وعلى أهل الحق هو علامة للنصر والتمكين .. ومصداق ذلك في كتاب الله قوله تعالى {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} وذكر تعالى عمّن قبلنا أنهم أُوذُوا واضْطُهِدُوا وَزُلْزِلُوا, {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} .
وما أشبه الليلة بالبارحة فما يمر به أخواننا في أرض الشام من تكالب قوى الشرق والغرب وشن الحرب عليهم بأعذار كاذبه وحجج واهية تكذبها وتثبت عكسها عملياتهم العسكرية ، وضرباتهم التدميرية للمدنيين والآمنين .
لا يُعلم تكالبٌ على المسلمين على مرّ الدهور والأعصار, وإجماعُهم ومكرُهمُ الكُبّار, كما حصل لإخوانِنا المسلمين في بلاد الشام, الذين اجتمع عليهم الصفويون من العراق ولبنان وإيران, والخوارجُ الْمارقون, والمشركون والنصارى في الشرق والغرب, والصهاينةُ اليهود .. لا نعلم شعبًا مُنْذُ خلق الله آدم إلى يومنا هذا, اجتمع عليه جميع طوائفِ الكفر والشرك ، وحُورِبُوا بأقوى أسلحةٍ عرفَتْها البشريّة كهذا الشعب ..
فهل هناك أملٌ أنْ ينتصر هذا الشعب المظلوم؟ وأنْ ينتصر أهل الحق على ما هم فيه من محنة؟
نعم والله .. نقولها يقينا , إنّ النصر أقرب ما يكون اليوم, وإنّ الله تعالى قضى بألا تزال هناك طائفةٌ منصورة, ولن يخذلهم على قلّة عتادهم وحيلتهم, قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللهِ، قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ» قَالَ مُعَاذٌ رضي الله عنه: وَهُمْ بِالشَّامِ. ونسأل الله أن يكونوا ممن عناهم النبي عليه الصلاة والسلام .
إن في أهل الشام الآن من استقبلوا نبأ قدومِ جُيوشِ النصارى والروس والمجوس الصفويين ، بريًّا وجويًّا, استقبلوهم بالثبات والتوكل والإيمان, ولسان حالهم ومقالهم: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .. فمثل هؤلاء لا يُخذلون, والنصر ينزل من حيث لا يعلمون.
ضاقت فلمَّا استحكمتْ حلقاتها... فرجت وكنتُ أظنُّها لا تُفرجُ {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ, فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}. هذه مقولة الصحابة الكرام مع النبي عليه الصلاة والسلام في غزة الأحزاب .. تلك الغزوة التي ظهر فيها الصمود والثبات ، والتوكل واليقين بالله ، والتي عاشها الصحابة ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد قررت قريش أن تقضي على المسلمين قضاءا كاملا .. ولكنها تعلم علم يقين عجزها عن ذلك ، فسعت جاهدة لإقامة تحالف مع غيرها لحرب المسلمين ظانةً أنها ستُطفئ نور الله، وجاءت الفرصة مواتية عندما أجلى الرسول صلى الله عليه وسلم يهود بني النضير من المدينة، فذهب عدد من زعمائهم وبدؤوا باتصالاتٍ مع قريش وقبائل أخرى للثأر لأنفسهم ، ومحاولة العودة إلى أرضهم وأموالهم في المدينة .
فلما سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, بقدوم أحزاب الكفر إلى المدينة, وَمَا أَجْمَعُوا لَهُ مِنَ الْمكر، ضَرَبَ الْخَنْدَقَ عَلَى الْمَدِينَةِ.
وَتَخَلَّفَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَعْتَذِرُونَ بِالضَّعْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْسَلُّ خُفْيَةً بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَلَا عِلْمِهِ, فازدادت الْمصائب عليهم, واشتد الأمر عليهم.
فأَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ أَحَابِيشِهِمْ, وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَأَهْلِ تِهَامَةَ، وَأَقْبَلَتْ غَطَفَانُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، حَتَّى نَزَلُوا إِلَى جَانِبِ أُحُدٍ, وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، حَتَّى جَعَلُوا ظُهُورَهُمْ إِلَى الجبل, فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَضَرَبَ هُنَالِكَ عَسْكَرَهُ، وَالْخَنْدَقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْمِ.
وَأَحَاطَ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ, حَتَّى جَعَلُوهُمْ فِي مِثْلِ الْحِصْنِ بَيْنَ كَتَائِبِهِمْ، فَحَاصَرُوهُمْ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَأَخَذُوا بِكُلِّ نَاحِيَةٍ، وضيّقوا الخناق عليهم, حَتَّى لَا يَدْرِي الرَّجُلُ أَتَمَّ صَلَاتَهُ أَمْ لَا.
وَعَظُمَ عِنْدَ ذَلِكَ الْبَلَاءُ، وَاشْتَدَّ الْخَوْفُ وقلّ الرجاء، وَأَتَاهُمْ عَدُوُّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، حَتَّى ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ كُلَّ ظَنٍّ، وَنَجَمَ النِّفَاقُ، حَتَّى قَالَ (بعض المنافقين) : كَانَ مُحَمَّدٌ يَعِدُنَا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَأَحَدُنَا الْيَوْمَ لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْغَائِطِ. وَقَالَ (بعضهم): يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ مِنَ الْعَدُوِّ, فَأْذَنْ لَنَا أَنْ نَرْجِعَ إِلَى دَارِنَا؛ وهي في خارجِ مِنَ الْمَدِينَةِ.
هكذا هم المنافقون في كل شدة ونازلة تحل بديار الإسلام، موقفهم المتسم بالجبن والإرجاف وتخذيل المؤمنين .. وها هم اليوم ففي الوقت الذي تخوض في دولتُنا المباركة, الجهد المبارك في إعادة إعمار اليمن الشقيق, ودحرِ الحوثيين وأعوانِ الخائن المخلوع, وفي الوقت الذي تشهد الأمة أشدَّ أزماتها في الشام وفلسطين: نرى نشاط المنافقين في زعزعة صفوفنا, وتحريضِ الناسِ على علمائنا ودعاتنا, وشنِّ حربٍ على حلقات تحفيظ القرآن .
فيتركون ويتجاهلون كلّ ما يحل بالمسلمين, ويتفرغون لإثارة المجتمع والتحريش والتشويش .. يبثون ذلك عبر قنوات وصحف خبيثة فاسدة.. والتي لو بحث الأعداء عن أفضل وسيلة لنصرتهم والدفاع عنهم لن يجدوا غيرها ولكانت مجمعهم وملتقاهم .. نسأل الله أن يكفي المسلمين شرهم .
عباد الله .. وفي غزوة الأحزاب لم يقف الكرب والشدة عند تجمع الكفار ومن حالفهم فلقد كان أشدُّ الكرب على المسلمين ، وهم محصورون بالمشركين داخل الخندق ، ذلك الخبر الذي نزل عليهم كالصاعقة, نقضُ بني قريظة العهد, وهم خلف المسلمين داخل الحصن, فلم يكونوا يأمنون في أية لحظة, أنْ ينقض عليهم المشركون من الخندق ، وأن تميل عليهم يهود ، وهم قلة بين هذه الجموع ، التي جاءت بنية استئصالهم في معركة حاسمة أخيرة.
قال تَعَالَى واصفًا حال المسلمين حينها (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) .
أيُّ تصويرٍ للحالة العصيبة التي مروا بها, أعظمُ من هذا التصوير, فالأبصار مِن الترقب والهول زاغت, والقلوب من الخوف والوجل كادت تبلُغ الحناجر... في هذه الظروف التي بنظر البشر الهلاك المؤكد والموت الحتمي والهزيمة المدمرة.. كان في سنة الله الأمور مختلف ففي مثل هذه الظروف والأوضاع ومع الإيمان والصدق واليقين ينزل الفرج من السماء، يأتي النصر من عند من يملكه ، وبيده ملكوت السماوات والأرض ، وله جنودٌ لا يعلمها إلا هو سبحانه، فما كان من النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أنْ دعا ربه وألَحَّ عليه بالنصر والتمكين, ورفع يديه إلى السماء قائلا «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ, وَمُجْرِىَ السَّحَابِ, وَهَازِمَ الأَحْزَابِ, اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ» .
فاسْتِجَابَ الله لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الشَّدِيدَةَ فَزَلْزَلَتْ أَبْدَانَهُمْ.
نعم, لقد نصرهم الله بريحٍ يراها الناس حقيرة, وَبِجُنُودٍلَمْ يَرَوْهَا ولم يعلموا بها, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}.
وهكذا هزم الله تعالى الأحزاب الكافرين, بجندٍ من جنود ربّ العالمين, {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا}.
اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ, وَمُجْرِىَ السَّحَابِ, وَهَازِمَ الأَحْزَابِ, اهْزِمْ أحزاب الكفر وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ يا رب العالمين.. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية ..
الحمد لله رب العالمين ..
أما بعد عباد الله .. إن المسلمين ليسوا طلاب حروب وقتال ولكنهم طلاب أمن وأمان واستقرار وهذا لا يأتي إلا بالقوة فالتاريخ شاهد والواقع أثبت أن الاستقرار والتمكين في الأرض لا يكون بالمفاوضات ولا بالمنظمات الأممية ولا بالقوانين الدولية .. فشعب مصر يتغنى ببطولاته في مواجهة الاستعمار بالسيوف والسكاكين، والشام يفاخر بمعارك الأبطال ضد فرنسا، والجزائر تتباهى بالمليون شهيد، والتاريخ الليبي يتوج بالوفاء بطولات عمر المختار الذي واجه طائرات إيطاليا بخيلٍ وبندقية .
طريق لا يعرف التاريخ غيره، لم يحفظ لنا حادثة واحدة رُفع فيها الظلم بالمفاوضات .. لم يسجل لنا ولا خبرا شاذا عن محتل أو مجرم دُفع شره دون قتال وتضحيات، الأمم كلها تفاخر بالمقاومين الذين يصنعون لها النصر، تباهي ببطولاتهم، تحتفل بانتصاراتهم .. إلا أن معركة التضليل والنفاق والخيانة وعلى رأسها قنوات تدعي أنها عربية ملأت رؤوسنا بالأوهام، جعلتنا نصفق للاستسلام، صدّق الناس أن الضعف سياسة، وأن الهزيمة واقعية، وأن الجهاد في سبيل الله إرهاب، وأن المقاومة تهور .. حتى أنعم الله علينا ورأينا نتائج الحزم حين هبت عاصفته في جنوب البلاد والتي نسأل الله أن يتم علينا فضله بالنصر والتمكين ورد الظالمين .
إنه مثال واضح بأن الحق لا يكون إلا مع القوة والأمن لا يتحقق إلا بالحزم .
فالله الله بالدعاء لبلادنا ولبلاد المسلمين بأن ينصرها .. ولا نستهين بأمر الدعاء فهو سبب عظيم من أسباب النصر (وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) النصر ليس بكثرة عدد، ولا بكثرة عُدد (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ) .
وهذا ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام فقد أخذ بالأسباب وأعد المستطاع من القوة وبعدها لجأ إلى ربه ودعاه وألَحَّ عليه بالنصر والتمكين, ورفع يديه إلى السماء «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ, وَمُجْرِىَ السَّحَابِ, وَهَازِمَ الأَحْزَابِ, اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ» .
ارفع أكفك بالدعاء تضرعاً *** ما خاب من يرجو الكريم ويطلبُ
اسأله ذلاً للذين تجبروا *** فالله يقصم من يشاء ويُعْطِبُ
فنسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين ويرفع الظلم عن المظلومين
نسأل الله أن ينفع بها قائلها وسامعها
إنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ...
أَمَّا بَعْدُ .. عباد الله .. إن من سنن الله في الأرض والتي لا تتحول ولا تتبدل .. أن شدة الكرب يعقبها الفرج وأن تكالب الأعداء على أهل الإسلام وعلى أهل الحق هو علامة للنصر والتمكين .. ومصداق ذلك في كتاب الله قوله تعالى {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} وذكر تعالى عمّن قبلنا أنهم أُوذُوا واضْطُهِدُوا وَزُلْزِلُوا, {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} .
وما أشبه الليلة بالبارحة فما يمر به أخواننا في أرض الشام من تكالب قوى الشرق والغرب وشن الحرب عليهم بأعذار كاذبه وحجج واهية تكذبها وتثبت عكسها عملياتهم العسكرية ، وضرباتهم التدميرية للمدنيين والآمنين .
لا يُعلم تكالبٌ على المسلمين على مرّ الدهور والأعصار, وإجماعُهم ومكرُهمُ الكُبّار, كما حصل لإخوانِنا المسلمين في بلاد الشام, الذين اجتمع عليهم الصفويون من العراق ولبنان وإيران, والخوارجُ الْمارقون, والمشركون والنصارى في الشرق والغرب, والصهاينةُ اليهود .. لا نعلم شعبًا مُنْذُ خلق الله آدم إلى يومنا هذا, اجتمع عليه جميع طوائفِ الكفر والشرك ، وحُورِبُوا بأقوى أسلحةٍ عرفَتْها البشريّة كهذا الشعب ..
فهل هناك أملٌ أنْ ينتصر هذا الشعب المظلوم؟ وأنْ ينتصر أهل الحق على ما هم فيه من محنة؟
نعم والله .. نقولها يقينا , إنّ النصر أقرب ما يكون اليوم, وإنّ الله تعالى قضى بألا تزال هناك طائفةٌ منصورة, ولن يخذلهم على قلّة عتادهم وحيلتهم, قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللهِ، قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ» قَالَ مُعَاذٌ رضي الله عنه: وَهُمْ بِالشَّامِ. ونسأل الله أن يكونوا ممن عناهم النبي عليه الصلاة والسلام .
إن في أهل الشام الآن من استقبلوا نبأ قدومِ جُيوشِ النصارى والروس والمجوس الصفويين ، بريًّا وجويًّا, استقبلوهم بالثبات والتوكل والإيمان, ولسان حالهم ومقالهم: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .. فمثل هؤلاء لا يُخذلون, والنصر ينزل من حيث لا يعلمون.
ضاقت فلمَّا استحكمتْ حلقاتها... فرجت وكنتُ أظنُّها لا تُفرجُ {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ, فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}. هذه مقولة الصحابة الكرام مع النبي عليه الصلاة والسلام في غزة الأحزاب .. تلك الغزوة التي ظهر فيها الصمود والثبات ، والتوكل واليقين بالله ، والتي عاشها الصحابة ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد قررت قريش أن تقضي على المسلمين قضاءا كاملا .. ولكنها تعلم علم يقين عجزها عن ذلك ، فسعت جاهدة لإقامة تحالف مع غيرها لحرب المسلمين ظانةً أنها ستُطفئ نور الله، وجاءت الفرصة مواتية عندما أجلى الرسول صلى الله عليه وسلم يهود بني النضير من المدينة، فذهب عدد من زعمائهم وبدؤوا باتصالاتٍ مع قريش وقبائل أخرى للثأر لأنفسهم ، ومحاولة العودة إلى أرضهم وأموالهم في المدينة .
فلما سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, بقدوم أحزاب الكفر إلى المدينة, وَمَا أَجْمَعُوا لَهُ مِنَ الْمكر، ضَرَبَ الْخَنْدَقَ عَلَى الْمَدِينَةِ.
وَتَخَلَّفَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَعْتَذِرُونَ بِالضَّعْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْسَلُّ خُفْيَةً بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَلَا عِلْمِهِ, فازدادت الْمصائب عليهم, واشتد الأمر عليهم.
فأَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ أَحَابِيشِهِمْ, وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَأَهْلِ تِهَامَةَ، وَأَقْبَلَتْ غَطَفَانُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، حَتَّى نَزَلُوا إِلَى جَانِبِ أُحُدٍ, وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، حَتَّى جَعَلُوا ظُهُورَهُمْ إِلَى الجبل, فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَضَرَبَ هُنَالِكَ عَسْكَرَهُ، وَالْخَنْدَقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْمِ.
وَأَحَاطَ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ, حَتَّى جَعَلُوهُمْ فِي مِثْلِ الْحِصْنِ بَيْنَ كَتَائِبِهِمْ، فَحَاصَرُوهُمْ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَأَخَذُوا بِكُلِّ نَاحِيَةٍ، وضيّقوا الخناق عليهم, حَتَّى لَا يَدْرِي الرَّجُلُ أَتَمَّ صَلَاتَهُ أَمْ لَا.
وَعَظُمَ عِنْدَ ذَلِكَ الْبَلَاءُ، وَاشْتَدَّ الْخَوْفُ وقلّ الرجاء، وَأَتَاهُمْ عَدُوُّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، حَتَّى ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ كُلَّ ظَنٍّ، وَنَجَمَ النِّفَاقُ، حَتَّى قَالَ (بعض المنافقين) : كَانَ مُحَمَّدٌ يَعِدُنَا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَأَحَدُنَا الْيَوْمَ لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْغَائِطِ. وَقَالَ (بعضهم): يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ مِنَ الْعَدُوِّ, فَأْذَنْ لَنَا أَنْ نَرْجِعَ إِلَى دَارِنَا؛ وهي في خارجِ مِنَ الْمَدِينَةِ.
هكذا هم المنافقون في كل شدة ونازلة تحل بديار الإسلام، موقفهم المتسم بالجبن والإرجاف وتخذيل المؤمنين .. وها هم اليوم ففي الوقت الذي تخوض في دولتُنا المباركة, الجهد المبارك في إعادة إعمار اليمن الشقيق, ودحرِ الحوثيين وأعوانِ الخائن المخلوع, وفي الوقت الذي تشهد الأمة أشدَّ أزماتها في الشام وفلسطين: نرى نشاط المنافقين في زعزعة صفوفنا, وتحريضِ الناسِ على علمائنا ودعاتنا, وشنِّ حربٍ على حلقات تحفيظ القرآن .
فيتركون ويتجاهلون كلّ ما يحل بالمسلمين, ويتفرغون لإثارة المجتمع والتحريش والتشويش .. يبثون ذلك عبر قنوات وصحف خبيثة فاسدة.. والتي لو بحث الأعداء عن أفضل وسيلة لنصرتهم والدفاع عنهم لن يجدوا غيرها ولكانت مجمعهم وملتقاهم .. نسأل الله أن يكفي المسلمين شرهم .
عباد الله .. وفي غزوة الأحزاب لم يقف الكرب والشدة عند تجمع الكفار ومن حالفهم فلقد كان أشدُّ الكرب على المسلمين ، وهم محصورون بالمشركين داخل الخندق ، ذلك الخبر الذي نزل عليهم كالصاعقة, نقضُ بني قريظة العهد, وهم خلف المسلمين داخل الحصن, فلم يكونوا يأمنون في أية لحظة, أنْ ينقض عليهم المشركون من الخندق ، وأن تميل عليهم يهود ، وهم قلة بين هذه الجموع ، التي جاءت بنية استئصالهم في معركة حاسمة أخيرة.
قال تَعَالَى واصفًا حال المسلمين حينها (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) .
أيُّ تصويرٍ للحالة العصيبة التي مروا بها, أعظمُ من هذا التصوير, فالأبصار مِن الترقب والهول زاغت, والقلوب من الخوف والوجل كادت تبلُغ الحناجر... في هذه الظروف التي بنظر البشر الهلاك المؤكد والموت الحتمي والهزيمة المدمرة.. كان في سنة الله الأمور مختلف ففي مثل هذه الظروف والأوضاع ومع الإيمان والصدق واليقين ينزل الفرج من السماء، يأتي النصر من عند من يملكه ، وبيده ملكوت السماوات والأرض ، وله جنودٌ لا يعلمها إلا هو سبحانه، فما كان من النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أنْ دعا ربه وألَحَّ عليه بالنصر والتمكين, ورفع يديه إلى السماء قائلا «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ, وَمُجْرِىَ السَّحَابِ, وَهَازِمَ الأَحْزَابِ, اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ» .
فاسْتِجَابَ الله لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الشَّدِيدَةَ فَزَلْزَلَتْ أَبْدَانَهُمْ.
نعم, لقد نصرهم الله بريحٍ يراها الناس حقيرة, وَبِجُنُودٍلَمْ يَرَوْهَا ولم يعلموا بها, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}.
وهكذا هزم الله تعالى الأحزاب الكافرين, بجندٍ من جنود ربّ العالمين, {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا}.
اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ, وَمُجْرِىَ السَّحَابِ, وَهَازِمَ الأَحْزَابِ, اهْزِمْ أحزاب الكفر وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ يا رب العالمين.. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية ..
الحمد لله رب العالمين ..
أما بعد عباد الله .. إن المسلمين ليسوا طلاب حروب وقتال ولكنهم طلاب أمن وأمان واستقرار وهذا لا يأتي إلا بالقوة فالتاريخ شاهد والواقع أثبت أن الاستقرار والتمكين في الأرض لا يكون بالمفاوضات ولا بالمنظمات الأممية ولا بالقوانين الدولية .. فشعب مصر يتغنى ببطولاته في مواجهة الاستعمار بالسيوف والسكاكين، والشام يفاخر بمعارك الأبطال ضد فرنسا، والجزائر تتباهى بالمليون شهيد، والتاريخ الليبي يتوج بالوفاء بطولات عمر المختار الذي واجه طائرات إيطاليا بخيلٍ وبندقية .
طريق لا يعرف التاريخ غيره، لم يحفظ لنا حادثة واحدة رُفع فيها الظلم بالمفاوضات .. لم يسجل لنا ولا خبرا شاذا عن محتل أو مجرم دُفع شره دون قتال وتضحيات، الأمم كلها تفاخر بالمقاومين الذين يصنعون لها النصر، تباهي ببطولاتهم، تحتفل بانتصاراتهم .. إلا أن معركة التضليل والنفاق والخيانة وعلى رأسها قنوات تدعي أنها عربية ملأت رؤوسنا بالأوهام، جعلتنا نصفق للاستسلام، صدّق الناس أن الضعف سياسة، وأن الهزيمة واقعية، وأن الجهاد في سبيل الله إرهاب، وأن المقاومة تهور .. حتى أنعم الله علينا ورأينا نتائج الحزم حين هبت عاصفته في جنوب البلاد والتي نسأل الله أن يتم علينا فضله بالنصر والتمكين ورد الظالمين .
إنه مثال واضح بأن الحق لا يكون إلا مع القوة والأمن لا يتحقق إلا بالحزم .
فالله الله بالدعاء لبلادنا ولبلاد المسلمين بأن ينصرها .. ولا نستهين بأمر الدعاء فهو سبب عظيم من أسباب النصر (وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) النصر ليس بكثرة عدد، ولا بكثرة عُدد (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ) .
وهذا ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام فقد أخذ بالأسباب وأعد المستطاع من القوة وبعدها لجأ إلى ربه ودعاه وألَحَّ عليه بالنصر والتمكين, ورفع يديه إلى السماء «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ, وَمُجْرِىَ السَّحَابِ, وَهَازِمَ الأَحْزَابِ, اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ» .
ارفع أكفك بالدعاء تضرعاً *** ما خاب من يرجو الكريم ويطلبُ
اسأله ذلاً للذين تجبروا *** فالله يقصم من يشاء ويُعْطِبُ
فنسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين ويرفع الظلم عن المظلومين