السَّمَاحَةُ 1442/1/16هـ
عبد الله بن علي الطريف
1442/01/16 - 2020/09/04 11:10AM
السَّمَاحَةُ 1442/1/16هـ
أيها الإخوة يقول الله تعالى مثنياً على رسوله ﷺ: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4] أي: عاليًا به، مستعليًا بخلقك الذي من الله عليك به. فقد كان ﷺ متصفاً بمكارم الأخلاق، وله منها أكملها وأجلها، وهو في كل خصلة منها، في الذروة العليا، فكان ﷺ سهلا لينا، قريبًا من الناس، مجيبًا لدعوة من دعاه، قاضيًا لحاجة من استقضاه، جابرًا لقلب من سأله، لا يحرمه، ولا يرده خائبًا، وإذا أراد أصحابه منه أمرًا وافقهم عليه، وتابعهم فيه إذا لم يكن فيه محذور، وإن عزم على أمر لم يستبد به دونهم، بل يشاورهم ويؤامرهم، وكان يقبل من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم، ولم يكن يعاشر جليسًا له إلا أتم عشرة وأحسنها، فكان لا يعبس في وجهه، ولا يغلظ عليه في مقاله، ولا يطوي عنه بشره، ولا يمسك عليه فلتات لسانه، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة، بل يحسن إلى عشيره غاية الإحسان، ويحتمله غاية الاحتمال ﷺ. أهـ
أحبتي: هذه صفات حبيبنا وقدوتنا ولو ذهبنا نبحث عن لفظ يجمع هذه الأخلاق لم نجد إلا السماحة فهي: بذل ما لا يجب تفضلًا، وتيسير الأمور، والملاينة فيها، وعدم القهر..
وقد رَغَّبَ الله تعالى في السَّمَاحَة في كتابه الكريم فَقَالَ: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199]. قال السعدي: "هذه الآية جامعة لحسن الخلق مع النَّاس، وما ينبغي في معاملتهم، فالذي ينبغي أن يُعامل به النَّاس، أن يأخذ العفو، أي: ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، ويتجاوز عن تقصيرهم، ويغض طرفه عن نقصهم"..
ولما وصف الصحابة رسول الله ﷺ قالوا عنه: بأنه دائم البشر سهل الخلق لين الجانب يظن كل من جالسه من أصحابه أنه أحب الناس إليه، فَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ ﷺ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلاَ رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي». رواه البخاري. "مَا حَجَبَنِي" أَيْ مَا مَنَعَنِي الدُّخُولَ عَلَيْهِ حِينْ أَرَدْتُ ذَلِكَ. قال ابن بطال: وفيه أن لقاء الناس بالتبسم وطلاقة الوجه من أخلاق النبوة، وهو مناف للتكبر وجالب للمودة.
ولم يكن النَّبِيُّ ﷺ سمحاً في نفسه وتعامله فقط بل حث الأمةَ على السماحة بقوله وأكد عليها في أحاديث كثيرة بأن يكون المؤمن سمحاً في نفسه وماله وتعامله، ورتب على ذلك الأجر الكبير بل جعله في بعض الأحاديث مخلصاً من عذاب الله تعالى وأليم عقابه، وسبباً في دخول جنته..
فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «دَخَلَ رَجُلٌ الْجَنَّةَ بِسَمَاحَتِهِ، قَاضِيًا وَمُتَقَاضِيًا» رواه أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وهو حديث حسن الإسناد.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ، عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ سَهْلٍ» رواه الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وصححه الألباني. ومعنى "قَرِيب" أي: قريبًا من الناس ويجالسهم ويلاطفهم. وَ"سَهْل" أَيْ: فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ سَمْحُ الْقَضَاءِ سَمْحُ الِاقْتِضَاءِ سَمْحُ الْبَيْعِ سَمْحُ الشِّرَاءِ.. وإذا دخل أهلُ الجنةِ الجنَّةَ «..يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: انْظُرُوا فِي النَّارِ هَلْ فِيهَا مِنْ أَحَدٍ عَمِلَ خَيْرًا قَطُّ.؟ فَيَجِدُونَ فِي النَّارِ رَجُلًا، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ عَمِلْتُ خَيْرًا قَطُّ، فَيَقُولُ: لَا غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ أُسَامِحُ النَّاسَ فِي الْبَيْعِ، فَيَقُولُ اللَّهُ: اسْمَحُوا لِعَبْدِي كَإِسْمَاحِهِ إِلَى عَبِيدِي..» رواه أحمد وابن حبان وصححه الألباني عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى»
رواه البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.. "سَمْحًا" أي جَواداً مُتساهلاً يوافقُ على ما طُلِبَ منه، "اقْتَضَى" طَلَبَ الذي له على غيره.. قال ابن بطال: وفي هذا الحديث: الحضُ على السماحة وحسن المعاملة، واستعمال معالي الأخلاق ومكارمها، وترك المشاحة، والرقة في البيع، وذلك سبب إلى وجود البركة فيه، لأن النَّبِيَّ ﷺ لا يحض أمته إلا على ما فيه النفع لهم في الدنيا والآخرة، فأما فضل ذلك في الآخرة فقد دعا ﷺ بالرحمة لمن فعل ذلك، فمن أحب أن تناله بركة دعوة النَّبِيِّ ﷺ فليقتد بهذا الحديث ويعمل به.. وفي قوله: إِذَا اقْتَضَى حض على ترك التضييق على الناس عند طلب الحقوق وأخذ العفو منهم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ طَلَبَ حَقًّا فَلْيَطْلُبْهُ فِي عَفَافٍ وَافٍ، أَوْ غَيْرِ وَافٍ» رواه ابن ماجة وصححه الألباني عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم أَيْ: لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْمَحَارِم، سَوَاءً وَصَلَ حَقُّهُ إِلَيْهِ وَافِيًا أَمْ لَا.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ: إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، قَالَ: فَلَقِيَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ» رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: "فِيهِ فَضْلُ الْمُسَامِحَةِ فِي الِاقْتِضَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ سَوَاءٌ عَنِ الْمُعْسِرِ وَالْمُوسِرِ وَلَا يُحْتَقَرُ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ؛ فَلَعَلَّهُ سَبَبُ السَّعَادَةِ..
ولسماحة النّفس مظاهر عديدة منها: طلاقة الوجه واستقبال النّاس بالبشر.. ومبادرة النّاس بالتّحيّة والسّلام والمصافحة وحسن المحادثة؛ لأنّ من كان سمح النّفس بادر إلى ذلك.. ومنها حسن المصاحبة والمعاشرة والتّغاضي عن الهفوات، لأنّ من كان سمح النّفس كان حسن المصاحبة لإخوانه ولأهله ولأولاده ولخدمه، ولكلّ من يخالطه أو يرعاه. اللهم وفقنا لأحسن الأخلاق لا يوفق لأحسنها إلا أنت وصلى الله على نبينا محمد....
الخطبة الثانية:
أما بعد أيها الإخوة: اتقوا الله حق التقوى، وعلموا أن للسماحة فوائد عديدة منها: أن الله تعالى يحبّها ورسوله والملائكة المقرّبون.. وأن الله تعالى يُضْفِيها على وجوه المؤمنين؛ لتكون لهم علامة مميّزة في الدّنيا والآخرة.. ثم إن السّمح محبوب لأهله ومجتمعه.. والسّماحة في البيع والشّراء باب عظيم من أبواب كسب الرّزق وتكثيره؛ ذلك أن النّاس يميلون في التعامل إلى السمح فيكثُرُ عليه الخير بكثرة محبّيه والمتعاملين معه.. والسّماحةُ سببٌ في جلب التّيسير في الأمور كُلِّها.. ويستطيع سمح النفس الهين اللين، أن يغنم في حياته أكبر قسط من السعادة وهناءة العيش؛ لأنه بخلقه هذا يتكيَّف مع الأوضاع الطبيعية والاجتماعية بسرعة، مهما كانت صعبة.. ويستقبل المقادير بالرضى والتسليم، مهما كانت مكروهة للنفوس.. والسّماحة في التّعامل مع أصحاب الدّيانات الأخرى تجلب لهم الطّمأنينة والأمن؛ فيؤدّي ذلك إلى حبّهم للمتسامحين معهم، والدّخول في هذا الدّين.. وإنَّ التَأَمُلَ في فوائدِ السماحة أولُ حافزٍ للتخلقِ بهذا الخُلقِ الرفيع، والتأمل في حال النكدِ العسيرِ صعبِ الخلقِ، وما تجلبه له هذه الأوصاف من متاعبَ وآلامٍ كثيرة نفسيةٍ وعضويةٍ عاجلةٍ وآجلةٍ حافزٌ لتخلقِ بالسماحة..
وبعد أحبتي: النفس السَّمحة كالأرض الطَّيِّـبَة الهيِّنَة المستوية، فهي لكلِ ما يُرَادُ منها من خيرٍ صالحة، إن أَرَدتَ عبورَها هانت، وإن أردت حرثَها وزراعتَها لانت، وإن أردت البناء فيها سَهُلَتْ، وإن شئت النوم عليها تمهدت.. فلله در هذه النفس ما أطيبها وأزكاها.. اللهم ارزقنا ومن نحب السماحة يا كريم وصلو سلموا على نبيكم....