السماحة .. الخلق الغائب
عبدالمحسن بن محمد العامر
الحمد لله جعلَ المؤمنين رحماءَ بينهم، ويسَّرَ لهم شرعَهم وأكملَ دينهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ كفّر عن المؤمنين سيئاتهم وأصلح بالهم، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ ما أمرَ الناسَ بخلقٍ إلا كان فيه قدوتَهم وإمامَهم، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم يَصْدُرُ الناس أشتاتاً لِيُروا أعمالهم. أما بعد:
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، ففي التقوى الربح والغنيمة، وبها تكون العواقب سليمة (إن للمتقين مفازا)
معاشر المؤمنين: السماحةُ خلقٌ من أخلاقِ الإسلامِ العظمى، وقيمةٌ من قيمِ الإسلامِ الكبرى، عُرف به المسلمون الفاتحون، والتجار المتنقلون، وأصحابُ الأسواقِ المقيمون، وطلابُ العلمِ المرتحلون، حتى صارت ميزةً لهم وسمةً بارزة اتسموا بها، فتأثر بسماحتهم أممٌ وشعوبٌ، وأقبلتْ عليهم الأرواحُ والقلوبُ، فانتشرَ بسبب هذا الخلق؛ الإسلامُ بلا قتالٍ ولا حروب.
واليوم والله المستعان؛ صار خلقُ السماحةِ غائباً عن حياتنا، وعن قضايانا، وعن علاقاتنا، ويكادُ الناس لا يتواصون به، ولا يحث بعضهم بعضاً عليه، بل إنَّ بعض الناس على عكس ذلك؛ ينتقدون المرءَ السمحَ، وينتقصونه أو يعيبونه؛ ويقولون عمن بدرت منه السماحة وتحّلى بها: هذا مضيِّعٌ لحقوقه، هذا يؤكل حقه وهو ينظر، ونحو ذلك من العبارات، وتراهم يتواصون بالغِلْظَةِ والشدة والِّلدية في التعامل مع الآخرين في مختلف المجالات، وقد أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على الذي حَلَفَ ألا يَضَعَ عن المَدِيْنِ شيئاً من الدَّيْن، وزَجَرَه عن عدمِ فعلِ المعروفِ الذي هو الحطُّ من رأسِ المالِ المَدِيْنِ، أو الرفقُ بالمَدِيْنِ حتى يَقْدِرَ على سدادِ الدَّيْن، فعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: (سَمِعَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ صَوْتَ خُصُومٍ بالبَابِ، عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمَا، وإذَا أَحَدُهُما يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ في شيءٍ، وَهو يقولُ: وَاللَّهِ لا أَفْعَلُ، فَخَرَجَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عليهمَا، فَقالَ: أَيْنَ المُتَأَلِّي علَى اللهِ لا يَفْعَلُ المَعْرُوفَ؟ قالَ: أَنَا، يا رَسولَ اللهِ، فَلَهُ أَيُّ ذلكَ أَحَبَّ) رواه البخاري ومسلم،
ويكفي في التنفيرِ من الشدَّةِ والغِلْظَةِ وتركِ السماحةِ؛ الحديثُ الذي روته عائشةُ رضي الله عنها عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (إنّ أبغَضَ الرِّجالِ إلى اللَّهِ الألدُّ الخَصِمُ) رواه البخاري، قالوا في معنى الألد الخصم: هو المُولَعُ بِالخُصومِة - وهي النِّزاعُ والمُجادَلةُ - الماهرُ فيها، والدَّائمُ فيها كذلِك.
معاشر المؤمنين: لم يدع الإسلامُ مجالاً من مجالاتِ الحياةِ إلا وجعلَ السماحةَ فيه، ولم يُبْقِ معاملةً، ولا قضيةً، ولا ميداناً؛ إلا والسماحةُ حاضرةٌ جليّةٌ فيه، وإليكم بعضَ صورِها في ميادينَ مختلفةٍ ومجالاتٍ متعددة.
ففي ميدانِ البيع ومعاملاته وفي مجالِ المداينات ؛ لخّصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم السماحةَ في ذلك بقوله: (رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى) رواه البخاري عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، والله جلَّ في علاه يقول: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)
ومن المسائل التي تتجلى فيها السماحةُ في عقدِ البيع خصوصاً، وفي غيره من العقود عموماً؛ مشروعيةُ الإقالةِ التي هي رفعُ عقدِ البيعِ أو غيرِه برضا الطرفين في جميعِ المبيعِ أو بعضِه، وفي كلِّ العقدِ في غيرِ البيعِ مما تُعُقِد عليه.
ويلخّصُ السماحةَ في العلاقةِ الزوجيةِ؛ التي هي من أهم العلاقاتِ التي تستلزمُ السماحةَ في كلِّ أحوالِها، وحتى بعد الفراقِ والطلاقِ؛ قولُه تعالى ( وعاشروهن بالمعروف، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً) وقولُه تعالى ( فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسان) وقوله تعالى (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) قالَ ابنُ عاشور: (ومعنى كونِ العفوِ أقربَ للتقوى، أنَّ العفوَ أقربُ إلى صفة التقوى من التمسّكِ بالحق؛ لأن التمسّكَ بالحق لا ينافي التقوى، لكنَّه يؤذِنُ بتصلُّبِ صاحبِه وشدَّتِه، والعفوُ يؤذنُ بسماحةِ صاحبِه ورحمتِه، والقلبُ المطبوعُ على السَّمَاحَةِ والرَّحْمَةِ أقربُ إلى التقوى من القلبِ الصَّلبِ الشديد؛ لأنَّ التقوى تَقْرُبُ بمقدارِ قوَّةِ الوازعِ، والوازعُ شرعيٌ وطبيعيٌ، وفي القلبِ المفطورِ على الرَّأفةِ والسَّمَاحَةِ، لينٌ يَزَعُهُ عن المظالم والقساوة، فتكون التقوى أقربُ إليه؛ لكثرة أسبابها فيه) انتهى كلامه رحمه الله.
ويلخّصُ السماحةَ في قضاءِ حوائجِ الناسِ؛ قولُه وفعلُه صلى الله عليه وسلم، فقولُه:
(اللهُمَّ مَنْ ولِي من أمْرِ أُمَّتِي شيئًا فَشَقَّ عليهم فاشْقُقْ علَيهِ ومَنْ ولِيَ من أمرِ أُمَّتِي شيئًا فَرَفَقَ بِهمْ فارْفُقْ بِهِ) رواه مسلم، وأما فعلُه صلى الله عليه وسلم : فكما قالَ أنسٌ رضي الله عنه: (إن كانتْ الأَمَةُ من إماءِ المدينةِ لتأخذُ بيدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فتنطلقُ به حيث شاءتْ فيمضي معها حتى يقضي حاجتَها) رواه البخاري.
بارك الله لي ولكم بالكتاب والسنة، ونفعنا بما صرّفَ فيهما من الآياتِ والحكمة.
أقول قولي، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه كان غفارا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على فضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه. أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)
معاشر المؤمنين: ويلخّصُ السماحةَ في المجالسِ والمحافلِ التي يكثرُ فيه القيلُ والقالُ، ويحتدُّ فيها النقاشُ، وتُختبرُ فيها قوّةُ النفوسِ والعقولِ؛ قولُه صلى الله عليه وسلم : (ألا أخبركم بمن يحرمُ على النارِ أو بمن تَحْرُمُ عليه النارُ؟ على كلِّ قريبٍ هيِّنٍ سهلٍ) رواه الترمذي عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، وحسنه الألباني.
ويلخِّصُ السماحةَ مع الجاهلِ والمخطئِ قوله تعالى (ولَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) واسمعوا إلى هذه الصورةِ العظيمةِ من صورِ سماحةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مع الجاهلِ المخطئ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ اَلْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ اَلنَّاسُ، فَنَهَاهُمْ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ; فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وفي ميدانِ التعاملِ مع العمّالِ والخدمِ، هذا الميدانُ الذي يظهرُ فيه مَعْدِنُ الإنسانِ وأخلاقُه؛ يبيِّن لنا أنسُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه كيف كانت سماحةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم معه حيثُ يقول: (خدمتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عشرَ سنين، فما قال لي: أفٍّ، ولا: لم صنعتَ؟ ولا: ألا صنعتَ؟) رواه البخاري ومسلم.وتتجلى أجملُ صورِ السماحةِ بين القراباتِ وذوي الأرحامِ؛ حين يمتثلُ المرءُ قولَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم ( ليسَ الواصِلُ بالمُكافِئِ، ولَكِنِ الواصِلُ الذي إذا قُطَعَتْ رَحِمُهُ وصَلَها) رواه البخاري
ومن صور السماحة في ديننا العظيم: التغاضي عن زلّاتِ وعثراتِ ذوي الهيئات أي: أصْحابُ المُرُوءاتِ والخِصالِ الحَميدَةِ، ممَّنْ لم يَظهَرْ منهم رِيبَةٌ، وقيل: ذَوُو الوَجَاهِة بين الناسِ، ممَّنْ ليس مَعْروفًا بالفَسادِ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذَوي الهيئاتِ عثَراتِهم إلا الحدودَ) رواه الإمام أحمد والنسائي وصححه الألباني.
وبعد عباد الله: إنَّ سمحَ النفسِ؛ سعيدٌ منشرحُ الصدر، هانيٌ في حياته، راضٍ بأقدارِ الله، محبوبٌ من الله وخلقه، موثوقٌ به، إذا ذَكَرَهُ الناسُ؛ ذكروه بخيرٍ ودعاءٍ، ونالَ منهم السمعةَ الحسنةَ والثناء. فهنيئاً لمن تحلّى بالسماحةِ ووطّنَ نفسَه وجاهدَها عليها.
هذا وصلوا وسلموا على من أمرنا الله بالصلاة والسلام عليه حيث يقول ....