( السكينة )
د. عبدالله بن حسن الحبجر
السكيــــــــنة
ألقيت في 1 / 4 / 1446 هـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبدُ اللهِ ورسولُه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].
أما بعدُ: فإن أحسن الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومَنْ شذَّ عنهم شذَّ في النار.
عباد الله:
من أكبرِ نعمِ الله على العبد ، أن يُنزلَ السكينةَ في قلبهِ فيكونَ مطمئننا غيرَ قلقٍ، موقنا غيرَ شاكٍ، راضيا غيرَ ساخطٍ، قد سكنتْ منهُ النفس، وصلحتْ منه الحال.
فالسَّكِينَةُ إذا نزلتْ على القلبِ اطمأنَّ بها وسكنتْ إليها الجوارح، وخشعتْ واكْتَسبتْ الوقار، وأنطقتْ اللسانَ بالصوابِ والحكمة، وحالتْ بينَه وبينَ كلِّ باطل،
بل السكينة جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللهِ -عزَّ وجلَّ-،
﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾
يُثَبّتُ بِهَا الأنبياء، وَيُنْصُرُ بِهَا الأولياء وتُعلى كلمة الله،
هذا رَسُولُ اللهِ ﷺ في أَشَدِّ المَوَاقِفِ، وَأَحْلَكِ الأَزَمَاتِ،
وقد اجتمعَ عليه ضِيقُ المكان، وقلةُ الأعوان، وتكالب الأعداء، وشدة طلبهم له وقربهم منه، فينزل الله سكينة من عنده فتتبدل الحال:
﴿إِذۡ هُمَا فِی ٱلۡغَارِ إِذۡ یَقُولُ لِصَـٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِینَتَهُۥ عَلَیۡهِ وَأَیَّدَهُۥ بِجُنُودࣲ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِیَ ٱلۡعُلۡیَاۗ وَٱللَّهُ عَزِیزٌ حَكِیمٌ﴾
ويومَ حنينٍ حين زَلَّتْ الأَقْدَامُ، واخْتَلَّتْ الصُّفُوفُ، وضَاقَتْ بِالرُّوحِ النُّفُوسُ، جَاءَ الثَّبَاتُ وَالطُّمَأْنِينَة، وَالْهُدُوءُ والسَّكِينَةُ مِنَ اللهِ -عزَّ وجلَّ-
﴿ثُمَّ أَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِینَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَأَنزَلَ جُنُودࣰا لَّمۡ تَرَوۡهَا وَعَذَّبَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ وَذَ لِكَ جَزَاۤءُ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾
فَهَدَأَتْ الْقُلُوبُ، وَرَسَخَتْ الأَقْدَامُ، وانْتَظَمَتْ الصُّفُوفُ، وَتَحَوَّلَ الفَرُّ إلى كَرٍّ، والْهَزِيمَةُ إِلَى انَتصارٍ.
عباد الله:
السكينة هبةٌ من الله توهب لمن يشاء فضلا منه وكرما، ونعمةٌ تستجلب ، ولها أسباب تطلب بها، ولاشك أن طاعة الله ورسوله فيما تحب النفوس وتكره ، بقلب صادق مع الله ، سبب عظيم للفوز بسكينة من الله،
هؤلاء هم صحابة رسول الله ﷺ يوم الحديبية حين بايعوا تحت الشجرة طاعة لله ورسوله وقد صدقت قلوبهم أثابهم الله رضوانه وسكينة من عنده وطُّمَأنينةَ على قُلوبِهم، فثَبَتوا على الدِّينِ، وازدادوا يَقينًا بالحَقِّ المُبِينِ:
﴿لَّقَدۡ رَضِیَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ إِذۡ یُبَایِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِی قُلُوبِهِمۡ فَأَنزَلَ ٱلسَّكِینَةَ عَلَیۡهِمۡ وَأَثَـٰبَهُمۡ فَتۡحࣰا قَرِیبࣰا﴾
وكتاب اللهِ -عزَّ وجلَّ-؛ مَوْرِدٌ للسكينةِ لا يَنْضَبُ، ومَصْدَرٌ للطُّمَأْنِينَةِ لا ينقضي،
ففي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حديثِ الْبَرَاءِ بن عازبٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّهُ قالَ:
"كانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الكَهْفِ، وإلى جانِبِهِ حِصانٌ مَرْبُوطٌ بشَطَنَيْنِ، فَتَغَشَّتْهُ سَحابَةٌ، فَجَعَلَتْ تَدْنُو وتَدْنُو وجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ، فَلَمّا أصْبَحَ أتى النبيَّ ﷺ فَذَكَرَ ذلكَ له فقالَ: "تِلكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ بالقُرْآنِ"(أخرجه البخاري ومسلم).
وهنيئا لأهل القرآن في بيوت الله مجالسهم
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:
" ما اجتَمَعَ قَومٌ في بَيتٍ مِن بُيوتِ اللهِ تَعالى، يَتلُونَ كِتابَ اللهِ، ويَتَدارَسونَه بَينَهم؛ إلَّا نَزَلتْ عليهمُ السَّكينةُ، وغَشيَتْهمُ الرَّحمةُ، وحَفَّتْهمُ المَلائِكةُ، وذَكَرَهمُ اللهُ فيمَن عِندَه." رواه مسلم
عباد الله:
ما ترحلت السكينة من قلب إلا خشي عليه، ولا دارٍ إلا كثر شقاق أهلها.
فاتقوا الله واطلبوا السكينة لقلوبكم ولأهلكم ودوركم بطاعة الله ورسوله ﷺ وكثرة تلاوة كتاب الله والاستماع إليه، وسلوا الله سكينة بها تثبتون وتعانون.
اللهم بارك لنا في القرآن والسنة...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا المصطفى، ثم أما بعد:
عباد الله:
من السكينة ما هو حلية للرجال بها يتزينون، أناة وسكون، يَمْشُونَ مِنْ غَيْرِ اسْتِكْبَارٍ، لَا مرح ولا صخب ، ولا أشر ولا بطر، كما وصفهم الله جل في علاه:
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾
قال مجاهِدٌ: (بالوَقارُ والسَّكينةِ)
وقد جاء في سنة رسول الله ﷺ الحث على السكينة حين الاتيان للصلاة أو القيام لها
فعن أبي قتادةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ ﷺ قال:
"لا تقوموا حتى تَرَوني، وعليكم السَّكينةُ"
وعن أبى هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَمِعتُ رسولَ اللهِ يقولُ ﷺ:
"إذا أُقيمَت الصَّلاةُ فلا تأتوها تَسْعَون، وأْتُوها تمشُون، وعليكم السَّكينةُ، فما أدرَكْتُم فصَلُّوا، وما فاتكم فأتِمُّوا"
وجاء الحث عليها في غير ذلك فعن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ ﷺ:
"يَسِّروا ولا تُعَسِّروا، وسَكِّنوا ولا تُنَفِّروا"
قال ابنُ هُبَيرةَ: (معناه:...سَكِّنوا الخائِفين فإنَّه لا خوفَ على مؤمِنٍ باللهِ، وسَكِّنوا الفِتَنَ مهما استطَعْتُم، فلا توقِظوا منها نائمًا، ولا تُنَفِّروا منها كامِنًا، حتَّى إنَّ مِن ذلك أنْ لو تلاحَا رجلانِ فقصَد منكم إصلاحَ ما بينهما، فينبغي ألَّا يَنطِقَ بكَلِمةٍ حتَّى يراها مُسَكِّنةً للنُّفرةِ)
اللهم اجعلنا ممن رزقوا سكينة في قلوبهم بها يرشدون ويثبتون وتصلح حالهم...
المرفقات