السفر لماذا وأين؟

د. منصور الصقعوب
1433/07/24 - 2012/06/14 12:00PM

إن الحمد لله نحمده سبحانه، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فالتقوى جماع كل خير، وبها النجاة من كل شر والفوز والربح يوم الحشر فاتقوا الله أيها المؤمنون.
يريد المرء أن يؤتى مناه ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي وتقوى الله أفضل ما استفادا.
معاشر المسلمين: ما إن تبدأ الإجازة وتشتد الحرارة إلا ويبدأ الحديث في الإعلام وفي المجالس بين الأقوام عن قضية السفر، وصار الحديث عن السفر أمراً يأخذ من الجل قدراً لأن الجلّ قد عزم عليه, إما بالوحدة أو بعائلته, وإما قريباً أو بعيداً, فماذا يعني لنا السفر؟ وكيف نظر الإسلام إلى السفر.
عباد الله: السفر فرصة للسيح في البسيطة والتفكر في عظيم صنع رب الخليقة وكيف أبدع خلقه وأحسن صنعه وتدبيره .
السفر قد يكون فيه أنس للنفس وراحة للبال وتغيير لنمط الحياة المعتادة, وتنفيس عن عناء العمل.
يرى المرء في السفر من عجائب الأمصار وبدائع الأقطار ومحاسن الآثار ما يزيده علماً بقدرة الله ويدعوه لشكر نعمه.
وقد قيل: لا يصلح النفوس إذا كانت مدبرة إلا التنقل من حال إلى حال .
وقد جمع الأول فوائد الأسفار حينما قال.
تغرب عن الاوطان في طلب العلا **وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج هم واكتساب معيشة **وعلم وآداب وصحبة ماجد.
ولأجل ذلك: فقد أفاض العلماء في ذكر أحكام السفر، وسافر الأولون ولكن لم يُنقل عن أحدٍ منهم أنه كان يسافر للنزهة والفرجة إلا في أحوال ضيقه, وما ذلك إلا لأسباب منها مشقة السفر التي تجعله عذاباً, وحكى نبينا ج ذلك فقال «السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته، فليعجل إلى أهله».
واليوم : وقد صارت الأسفار متعةً تُطلب وهدفاً يُرغب ومطلباً تُدفع لأجله الأموال, وتقضى في سبيل الاستمتاع به الأوقات وكثرت الأسفار، كان مما يجدر بنا أن نذكّر أنفسنا بسؤالين في مقتبل كل سفر.
أجل فحينما تعد الركائب سل نفسك أيها الفاضل لماذا السفر وإلى أين السفر؟ إنهما سؤلان تختلف أحوال المسافرين تجاهها.
ويترتب عليها أن يكون المرء في سفره مأجورا أو مأزورا
لماذا تسافر؟
ماذا في نيتك وأنت تُعدُّ العدة ؟، الجُلّ يسافر, لكن الموفقون هم من صلحت نواياهم في أسفارهم, وفرق بين امريءٍ خرج لسفره طالبا للمعصية وآخر مضى طالباً للطاعة أو للفرجة والتأمل والاعتبار.
ولأجل هذا فليكن في نيتك وقصدك أن تخرج لكي تُجِمَّ نفسك بالمباح لِتقْوى بعده على الطاعة, وليكن في نيتك أن تخرج للتفكر في البسيطة والدعوة إلى الله ولو بأخلاقك وفعالك .
ليكن في نيتك وأنت تذهب بأهلك وأولادك أن تدخل السرور عليهم وتُحسِن إليهم وتحتسب الأجر في ذلك تقرباً إلى الله .
وبمثل هذه النوايا الحسنة يبارك لك في سفرك ويخلف الله ما تنفقه من مال, وما تمضيه من وقت, ويحفظك الله بإذنه من كل شر وسوء, وكم بين من يسافر بهذا القصد, وبين من يسافر لا بقصد ولا احتساب ولا استشعار.
أيها المبارك: وبعد ذلك إلى أين تسافر ولكم تباين الناس في الإجابة على هذا السؤال.
وما بين مشرق ومغرب, ومن آمٍّ بيت الله الحرام أو لغيره من الأسفار المشروعة في الإسلام من طلب علم أو دعوة أو صلة للأرحام ومِن مسافر لبلاد المعاصي والآثام.
وليس اليوم بي منعك من مكان فكل امريء أدرى بنفسه وأعلم يما يصلحه ولكنني أهمس من ذهنك وأنت ترتب سفرك لأقول لك.
قبل أن تخطو إلى سفر أحرص على أن يكون سفرك مقربا إلى الله, اذكر قول محمد بن الفضيل: ما خطوت منذ أربعين سنة خطوة لغير الله.
سافِر إلى أي جهة شئت وأظعن حيثما أردت ولكن لا تنسى الشهود الأربعة الذي يشهدون عليك أينما كنت بالخير أو بالشر تعلمه.
الأرض التي ستحدث يوم القيامة أخبارها وستخبر بما عُمِل عليها من الخير والشر.
والملائكة الذين يكتبون كل قول أو فعل من الحسنات والسيئات.
والجوارح التي لن يقدر المرء أن يعمل الخير أو الشر إلا بها الله سبحانه
والرقيب جل شأنه الذي لا تخفى عليه خافية والسر عنده علانية يرى العباد ويسمع سرهم ونجواهم فأين يغيب المرء عن هؤلاء الشهود, وإذا كنت في برٍ او جوٍ أو بحرٍ, في قريب أو بعيد, في ليل أو نهار فتذكر حينها أنك تحت رقابة الله الذي أمرك ونهاك, وبالجنة إن أطعته وعدك, وبالنار إن عصيته أوعدك .
أيها المبارك: وإذا استقرت أولئك الشهود فلا ينبغى لك أن تنسى حق الله, فالذي حرم المحرمات وأمرك بالطاعات وأوجب عليك الصلوات يرى, والذي أمركِ أيتها المرأة بالحجاب, ونهاك عن التفريط في الحشمة والجلباب يرى, فبئس القوم نحن إن راقبنا الخلق وأطعنا الله في بلادنا ونسينا رقابة الله وتركنا حق الله يوم سافرنا عن بلادنا نسينا.
أيها الفاضل: لا أظنه يغيب عنك أن العلماء أفتوا بحرمة السفر إلى بلاد الكفر إلا إن كان حاجة أو تجارة أو نحوها إذا كان لدى المرء دين أو علم, وليست السياحة حاجةً تُجيزُ لنا أن نسافر للبلاد التي لا يدين أهلها بالإسلام
وإذا تجاوزنا الحكم الشرعي فكم منكر سيراه المرء يوم أن يؤم بلاد الكفر, وكم من فتنة ستعرِضُ له, فهل يضمن المرء نفسه من الوقوع في شراكها, فضلاً عن أن يقوم بواجب إنكاره, وكم تساهل البعض بالسفر إلى هناك لا بقصدٍ إلا التسلية والفرجة, فرجع وقد رق دينه وعصى ربه ولربما وقع في الموبقات, ومن عرف الوضع هناك عرف أن المسافر لا يمكن أن يرجع غالباً إلا بمعصية أو غبار معصية.
وتزداد خطورة الأمر يوم أن تكون الرحلة مع العائلة, ليقذف الأب بأبناءه وبناته في تلك الدينار, وحتما سيرون هناك التعري, وسترى الفتاة نظيرتها وقد تأبطت يد شاب تسير معه بلا حشمة ولا حياء, فما هو شأن الفتاة التي تربت على الحشمة وفي بلاد العفه حين ترى مثل هذه المشاهد؟!
وما هو موقف الابن الشاب من هذه المشاهد
نعم نجزم أن الأب لم يسافر بأسرته ليعصوا الله, ولكن من يضمن له أن الاخلاق لا تتغير, والمسلَّماتِ لا تهتز, من يضمن له أن يقع شيء من ذلك دون علمه, وما أثر مثل هذه الأسفار على انفتاح الأسرة بعد ذلك .
وبعد هذا: فهل أصبح السفر ضرورة حتى نجازف بكل هذا في سبيل أن يرى ابناؤنا ونرى خُضرة وأمطاراً, وجواً خلاباً, وسلاسل وجبالاً, وفي بلادنا ما يغني, ولو لم يكن فيها ما يكفي فالعاقل يضحي بالمباح في سبيل الحفاظ على الدين والخلق فكيف والقضية ليس مباحا بل الأمر يصل إلى الحرمة إذا كان لبلاد الكفر .
نعم؛ السفر سببٌ للسعادة, لكن لن يكون كذلك حتى يكون منه سعادة الروح والقلب, وذلك بطاعة الله وذكره, والتي إذا خلا منها القلب وقصر فيها البدن فلن يشعر بسعادة ولن يذوق لذة, وإذا ذاقها فلذة آنية تزول بمفارقة المكان, فلكي تسعد في سفرك لتكن نيتك لله, ووجهتك لجهة لا ينهى عنها شرع الله .
الحمد لله وحده والصلاة السلام على من لا نبي بعده .
أيها المؤمنون إن من بركة السفر وأسباب يُسرِه أن يرتسم المسافر هدي نبيه عليه السلام, وذلك أدعى لنيله الأجر والثواب.
فإذا عزمت على السفر فاستَحِل ممن كانت له عليك مظلمة أو له عندك ديناً, وتحلل منهم فربما كان هذا آخر العهد بالديار.
وتخير لك الرفقة الطيبة, وابتعد عن الوحدة ما قدرت فقد قال ج" لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكبٌ بليلٍ وحده " رواه البخاري.
وإذا أجمعت الخروج فودع الأهل والوالدين بما كان يودع به النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته وأصحابه " استودكم الله الذي لا تضيع ودائعه " رواه أحمد وابن ماجة " استودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم.
وإن تيسر لك؛ فليكن سفرك يوم الخيس ففيه كانت أسفار النبي ج, وتحر الخروج في البكور أول النهار فهو أجلب للبركة وأسرع في بلوغ الغرض في السفر, وفي الحديث " اللهم بارك لأمتي في بكورها " وكان إذا بعث جيشا بعثهم أول النهار.
ومما ندب له المصطفى ج في السفر تأمير الرفقة لهم أميراً يأتمون بأمره لأن السفر تكثر في أسباب الاختلاف والتفرق فلا بد من مرجِعٍ وأمير " إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم"
أيها المسافر: حللت وأقمت وحيثما ظعنت وارتحلت فكن خير سفيرٍ لدينك وبلدك, وداعيةً إلى الله بفعلك وسلوكك, وإياك أن يفهم العالم عن المسلمين وشبابهم أنهم طلاب ملذات وشهوات فكم شُوِّهت صورةُ المسلمين في بعض البلاد بسبب فعل بعض شبابهم, ولربما صدّت البعض عن الإسلام حينما يرى أبناء الصحابة -كما يقال- يأتون وليس هم بعضهم إلا المتعة ولو بالحرام .
فلا تنس أنك تمثل الإسلام, وتقصيرك في الطاعات أو إساءتك في التعاملات ينسبها أهل الديار للإسلام وأهله, فتحرز في ذلك, ولا تنس أنك تتعامل مع الله الرقيب.
عباد الله: وباقِعةٌ من الفعال, ومنكرة من الخصال؛ بلي بها البعض في أسفاره, وهو الولوج في صورٍ من الزواج هي في حقيقة الأمر إلى الفاحشة أقرب, وكل هذا بحجة الحفاظ على النفس أن لا يقع في الحرام.
زواج عرفي وإن سمي غير ذلك, ربما كان محدوداً بأيام, وربما دخل المرء فيه وأخفى حتى اسمه الحقيقي, أو دخل فيه وهو يعلم والمرأة أنه سيقع الطلاق بعد يوم أو أكثر, ولا يتحرى في ذلك فربما تزوج من طلقت بالأمس, أو من هي في ذمة زوج, في صور من التلاعب يعلم المقبل عليها قبل غيره أنها لا تمت للشرع بصلة فلماذا نخادع أنفسنا .
نعم النكاح بنية الطلاق فيه خلاف بين العلماء لكنه لم يقل أحد بأن الرجل يوم أن يتزوج وفي علم الرجل والمرأة أن الطلاق سيقع بعد أيام أن هذا نكاح جائز بل هذا إلى المتعة المحرمة أقرب.
وقد جاء بعض الشباب من إحدى البلدان إلى أحد المشايخ يشكون له فعالاً تقع من بعض أبناء بلاد الحرمين من ممارسات زواجٍ أثرت سلباً على صورة الإسلام هناك, وما أجمل أن يستغني المرء بالحلال وينأى عن الشبهات وأن يدع ما يريبه إلى ما لا يريبه.
أيها المسافرون: وأنتم في ذهابكم فليعم كل أب وأم أن ابناءهم أمانة في أعناقهم, ومن التقصير أن تذهب بالأسرة لجهة ثم هم لا يعلمون حينها أين ذهب الابن وخرج, ولا إلى أين اتجهت البنت, فإن هذا ولو كان في مكة تفريط في الامانة, وعند الحرم وفي أطهر البقاع لا تسل عما يفعله ضعاف النفوس من الشباب الذي اتوا بقصد ملاحقة واصطياد الفتيات اللاتي غابت عنهن عين الرقيب، وغفل عنهن الاب والأم فخرجت بلا حسيب, والأمر نفسه يقال حينما يكون الذهاب لغير المشاعر, إنْ إلى سوق أو منتزه أو تجمع فالأب يحسن إلى ابناءه وبناته حين لا يدع لشرِّ لهم مجالا ويرعاهم ويرقبهم .
وأخيراً فما أحوجنا إلى أن نتذكر ونحن نسافر ذلك السفر الطويل الذي لا رجعة بعده إلى عالم الدنيا وما أقربه كل حي، السفر الذي عدّته طاعة الله, والرفيق فيه العمل الصالح, وراحلته الأيام والليالي, ونحن منذ برغ فجر دنيانا في سفر إلى الآخرة, فماذا أعددنا للربح فيه والفوز؟.
فمالمرءُ إلا راكبٌ ظهر عمره *** على سفرٍ يُفنيه باليوم والشهرِ
يبيت ويُضحي كل يومٍ وليلةٍ ** بعيداً عن الدنيا قريباً إلى القبر

المشاهدات 2481 | التعليقات 3

فمالمرءُ إلا راكبٌ ظهر عمره *** على سفرٍ يُفنيه باليوم والشهرِ
يبيت ويُضحي كل يومٍ وليلةٍ ** بعيداً عن الدنيا قريباً إلى القبر

جزاكم الله خيرا على هذه الخطبة


جزاك الله خيرا


آمين
وفيكم بارك الله