السفر بين العبادة والعادة 10/10/1437هـ

عبدالرحمن العليان
1437/10/10 - 2016/07/15 08:32AM
بسم الله الرحمن الرحيم

السفر بين العبادةِ والعادة

إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئات أعمالِنا، من يهده اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسولُه، صلى الله وسلم وباركَ عليه، وعلى آله المـُكَرَّمين، وأصحابِه أجمعين، وعلى التابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.. أما بعد:
فأوصيكم أيها الناسُ ونفسي بتقوى الله سبحانه في السرِّ والعلن، ومراقبتِه بهجرِ الآثامِ ما ظَهَرَ منها وما بطن، ومن فرَّغَ قلبَه من خشيةِ اللهِ خافَ غيرَه، ومن هَرَبَ من عبوديتِه عُذِّبَ بعبوديةِ النفسِ والشيطان، وربنا سبحانه المعيذُ من الخُذلان، ومن خافَ أدلج، ومن أدلجَ بلغَ المنزِل، ومن شُغِل بما يعْنِيه أمْسَكَ عما لا يعنيه.
أيها المؤمنون: غيرُ خافٍ على العقلاءِ أجمعَ أنما هم في سفر، سيَحُطُّونَ عن قَطْعِهِ رحالَهم يومًا من الدهر، لكنَّ المؤمنون أيقنوا أنَّ بعدَ هذا السفَرِ يومَ التفرُّق: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7].
ولقدْ أسْفَرَ هذا السفرُ عن أخلاقِهم، وأبانَ عن صالِحِهِمْ وقاسِطِهمْ، وهم في سفرِهم هذا يُقيمون ويَظعنون؛ فكان انتقالهم من بلدٍ إلى آخرَ في هذه الحياةِ سَفَرا؛ لأنه يسفِرُ عن الأخلاقِ والطبائع، إذْ هو كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (السفرُ قطعةٌ من العذاب، يمنَعُ أحدَكم نومَه وطعامَه وشرابَه، فإذا قضى أحدُكم نُهْمَتَه فلْيُعجِّلْ إلى أهله) متفقٌ عليه. أي تتألَّمُ فيه النفسُ لما فيه من نَصَبٍ وسهرٍ ونحوِهما.
ولقد ظلَّ السفرُ على هذه البسيطةِ عُرْفًا مُوَحَّدًا، وحاجةً مشتركةً بين الناس على تنوُّعِ المقاصدِ وتبايُنِها؛ فمِنْ مبعوثٍ برسالةِ ربِّه لينذرَ قومًا عمين، إلى داعيةٍ مصلح، وهادٍ مرْشِدٍ مُجدِّد، إلى مهاجِرٍ فارٍّ بدينه ليجدَ في الأرضِ مُراغمًا كثيرًا وسعَة، سائحًا في الأرضِ، عابدًا لربِّه، إلى مُجاهِدٍ في سبيلِ الله لإعلاءِ كلمةِ الله، أو ناصرٍ لمظلوم، أو مُغيثٍ لملهوف، أو قاضٍ لحاجةِ محتاجٍ أو مكروب، ومنهمُ الرُّحْلةُ في طلب الحديث والفقه، ومنهم المهاجرُ إلى دنيا يصيبُها، أو امرأةٍ ينكِحُها، أو مالٍ يحصٍّلُه، ومنهم المسافرُ ابتغاءَ مشاقةِ اللهِ ورُسُلِه، واستعجالِ نِقمتِه، ومنهمُ المسافرُ بطرًا ورِئاءَ الناس.
وعلى ما في التِّرْحالِ في الماضي من العنتِ إلا أنه كانَ سِمَةً ومرغبًا لمن اتخذه قربةً لربِّه سبحانه، وابتغاءً لفضلِه، فهاهو أبو الأنبياء إبراهيمُ - عليه السلام - قالَ اللهُ عنه: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99]، وذلكمُ الكليمُ موسى - عليه السلامُ- عَجِلَ إلى ربِّه ليرضى عنه، وأُسريَ بنبينا محمدٍ -عليه الصلاة والسلام- من المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى الذي بارك اللهُ حولَه، ثم عُرِجَ به إلى السماء؛ ليُريَه اللهُ من آياتِه ما أراه، ولقد أخرجه الذين كفروا ثانيَ اثنينِ إذْ هما في الغارِ مُهاجِرَيْنِ إلى اللهِ تعالى، وخَرَجَ قبلَه أصحابُه بعد أنْ أَذِنَ لهم مهاجرين إلى الحبشة، فارين بدينهم، وخرج أبو بكر رضي الله عنه قبل مُهاجَرِه إلى المدينةِ، خرج يَسِيحُ في الأرض ليعبدَ ربه، بعد أن اشتدَّ الأذى من المشركين على المؤمنين.
ثم باتَتْ طيبةُ محطَّ ترحالِ الفارين بدينهم، المتَّبِعينَ رضوانَ الله، ثم انطلقوا ضاربين في الأرض، فاتِحينَ الأمصار، واضعين عن الناسِ بنور ربهِمُ الأغلالَ والآصار، وظلتِ الرحلةُ مطلبًا معلومًا لطلاب العلم، وشُداةِ الحق، بدءًا من الأنبياءِ والرسلِ - عليهم الصلاة والسلام - إلى يومنا هذا؛ فما الذي استَنْهَضَ همةَ كليم اللهِ موسى - عليه السلام- حين خرج هو وفتاه إلى الخَضِرِ - عليه السلام - إلا رجاءَ أن يعلّمه مما علَّمَه اللهُ رُشْدا، وكرِحلةِ سلمانَ الفارسيِّ وأبي ذرٍّ الغفاريِّ - رضي الله عنهما - في طلبِ الحقِّ والهدى.
ولقد رحل جابرُ بنُ عبدِ الله إلى عبِد الله بنِ أُنيسٍ - رضي الله عنهما- في الشامِ ليسمعَ منه حديثًا واحِدا عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ورحل أبو أيوبَ الأنصاريُّ إلى عقبةَ بنِ عامرٍ رضي الله عنهما في مصرَ للأمرِ ذاتِه، واقتفى أهلُ العلم وطلابُه هذا الأثرَ تتبعًا للعلماءِ في الأمصارِ متمثِّلين المقولةَ المشهورة: "من لم يكنْ رُحْلةً لن يكونَ رُحَلَةً"، أي من لم يرحلْ في طلب العلم، والسماعِ من الشيوخ؛ يبعُدْ تأهلُه لأن يُرحَلَ إليه، ولقد أثمرتْ تلكمُ الرِّحْلاتُ المباركةُ علومًا عظيمة، ونفعًا عميما، وأُلِّفَتْ في رِحْلاتِ كثيرٍ منهمُ الأسفارُ الطوال.
أيها المسلمون: أما اليومَ فقد ضعُفَتْ كثيرٌ من تلكمُ المقاصِد الشريفةِ في السفر، بل غابَ بعضُها بالمرّة؛ نتيجةَ تغيُّرِ الأزمان، واختلافِ أنماطِ الحياة، وضعفِ التدينِ عند بعض الناس، وباتَ السفرُ في هذا الزمانِ على حالٍ لم يكنْ عليها من قبل، ذلكم أنْ تقارَبَتِ البُلدان، وَوَجَدَ كثيرٌ من الناسِ في السفرِ مسرحًا للتخلُّصِ من الرتابةِ.
فحين تبدأ الإجازاتُ الصيفية، ويشتدُّ سَمومُ الحرِّ اللافح، يتطلع أناس إلى الأجواءِ الجميلةِ المعتدلة، والمناظرِ البهيجة الخلابة.
والمراوحةُ بين الجدِّ والهزْلِ أمرٌ بالأخذِ جدير، إذْ يقولُ المصطفى - صلواتُ ربي وسلامُه عليه - لحنظلةَ بنِ عامرٍ رضي الله عنه: (ولكنْ يا حنظلةُ ساعةً وساعة) رواه مسلم. أي ساعةً في الجد، وساعةً في اللهوِ البريءِ المباح.
ولقدِ امتنَّ ربنا - تبارك وتعالى - بما أباحَ فقال: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} [الرحمن: 10]، وقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].
ولقد أحسنَ من قال:
ما في المـُقامِ لذي عقلٍ وذي أَدَبِ من حاجةٍ فدعِ الأوطانَ واغتربِ

إني رأيتُ وقوفَ الماءِ يفسِدُهُ إنْ ساحَ طابَ وإن لم يجرِ لم يَطِبِ

والشمسُ لو وقفَتْ في الفُلكِ دائمةً لملَّها الناسُ من عُرْبٍ ومن عَجَم

قال الثعالبيُّ رحمه الله: ((من فضائل السفرِ أن صاحبَه يرى من عجائبِ الأمصار، وبدائِعِ الأقطار، ومحاسِنِ الآثار، ما يزيده علمًا بقدرةِ الله تعالى، ويدعوه للشكرِ على نِعَمِه)) ا.هـ.
إنَّ العُلا حدَّثَتني وهي صادقةٌ فيما تحَدِّثُ أن العزَّ في النُّقَلِ

فإذا استصحبَ المرءُ في سفرِ السياحةِ والأُنسِ تقوى الله ومراقبتَه، وأن يستعانَ بذلكم على طاعتِه ومرضاتِه، والتوسِعةَ وإدخالَ السرورِ على الأهل، وغيرَ ذلكم من المقاصدِ الشريفةِ؛ كان ذلكم قربى للعبدِ عند مولاه، وخيرُ دينار أنفقه المؤمن: دينارٌ أنفقه على عياله وأهله، وبخاصةٍ إذا كان هذا السفرُ أو بعضُه محضَ طاعة، كقصدِ الحرمين الشريفين، وابتغاءِ ما جعل الله فيهما من البركة والمضاعة.
أقول هذا القول، وأستغفر اللهَ لي ولكم، إنه هو التوابُ الرحيم..

الخطبة الثانية

الحمدُ لله ذي المجدِ والثناءِ والمحامد، والصلاة والسلامُ على نبينا محمد: خيرِ بشيرٍ ونذيرٍ وشاهد.. أما بعد: فيا أيها المؤمنون:
إن كثيرا من الناسِ في هذا العصرِ لما أقْفَرَتْ منازلُهم من الأنس، ومن الألفةِ والتراحم؛ استصغَروا نعمةَ اللهِ التي كانوا يُكبِرون، واستنزَرُوا ما كانوا يعَظٍّمون، فباتوا كأنما هم مسجونون في بيوتِهم وأوطانِهم، فهَرَعُوا إلى تَكَبُّدِ المشاقّ، وتحمُّلِ الحمالات من أجلِ سفرِ سياحةٍ نحوَ شواطئ البحار، ومجاري الأنهار، وربما كان ذلكم في بلادِ الكفار، أو بلادٍ تُشبِه بلادَ الكفار؛ فليعلم هؤلاء أن هذا عملٌ مشين، مخالفٌ للشرح، قادحٌ في الحكمة وحسنِ التصرُّف.
وليحذَرْ من كانَ راعيًا للأمانة التي تحملها، حريصا أن يقي نفسه وأهله نارًا وقودُها الناسُ والحجارة، من غشيانِ الأراضي الموبوءةِ بحُمَّى الإباحيةِ ومخدِّراتِ العقولِ والأخلاق؛ حيثُ شبابٌ وفتياتٌ يزَجُّ بهم في مشاهداتٍ حيةٍ أمامهم تفعلُ في العقل كما تفعلُ الخمر، وربما تحلِق الحياءَ كما يُحلَقُ الشعر، وليُهدَمَ في لحظةٍ ما بُنِيَ في نفوسِهم منذ سنين، ولتَسْتَمْرِئَ الأعينُ ما كانت منه تشمئزّ، وربما راودتهم أنفسهم في محاكاةِ ما رأَوا آلافَ المراتِ في آلافِ الصور، فكيف إذا نُكستِ الفِطَر، واستحسِنَ القبيح، وألقى الشيطان بحبائله؛ لتجتمِع الشهوة والشبهة، والنارُ حفت بالشهوات، والشبَهُ خطافة، والقلوبُ ضعيفة، ولم يُطلضبْ من المؤمنِ أن يغشى الفتنَ لثقته بإيمانِه وتدينه، كما يزعم أناس، بل أُمِرَ بالمباعدة عنها، وسؤالِ اللهِ العافية، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ، مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ) رواه أبو داوود في سننه.
بل ألم يقل ربنا سبحانه في محكم كتابه المبين: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72].. وماذا سيجيب مرتادو مواطنِ الفحشاءِ والمنكرِ ربَّهم سبحانه عن قولِه للمؤمنين والمؤمنات: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30- 31].
ومن المقرّرِ شرعا أن درءَ المفاسدِ مقدَّمٌ على جلبِ المصالح، فكيف إذا كانتَ مصالحَ متوهَّمَةً يبطلُ حقيقتَها الشرعُ والواقعُ، وإذا كان أبغضُ إلى الأماكن إلى الله تعالى الأسواقَ في ديارِ المسلمين مع الأمر بغض البصر وكف الأذى؛ فكيف بمناظرِ الخزيِ في ديارِ الأجنبيِّ عنهم أو بلادٍ تُشْبهُ ديارَ الأجنبي عنهم؟!
وإذا كان حالُ القاتلِ مائةَ نفسٍ التائبِ الخائفِ النادم إنما جُعِل رهنًا بقربه من أي القريتين: قريةِ الصلاح وقريةِ العصيان؛ فكيف يستسيغ فئامٌ الإقبالَ على مظانِّ الفساد والبلاء؟!
ومن أخوفِ ما يخاف: استمراءُ المنكرات؛ لكثرة مشاهدتها، وسماعِها، والخلوٍّ من النكير لها، والله المستعان.
تلكم أيها المؤمنون ذكرى لمن يتذكرُ أو يخشى، وبشرى للأوابين، المؤثرين مراضيَ اللهِ على مراضي النفسِ والأحبةِ والأقربين، ومن استهدَى الله هُدي، ومن توكل عليه كفي، ومن اتقاه وُقِي..
المشاهدات 1509 | التعليقات 1

بارك الله فيك خطبة جميلة جداً