السعادة

د. ماجد بلال
1444/04/10 - 2022/11/04 11:44AM

خطبة السعادة

ماجد بلال -جامع الرحمن /تبوك 10/4/1444هـ

‏عباد الله إن الحياة الطيبة السعيدة، والعيشة الهنية الرضية، مطلب مهم، ومقصد أسمى، وغاية عظمى، يسعى إلى تحقيقها البشر، وتشرئب إلى سماعها النفوس، وتطمح ‏إلى تحقيقها وبلوغها الأفئدة،  السعادة في الحياة هدف سامٍ ينشده كل الناس ولأجل هذا عباد الله تعددت مشارب الناس ووسائلهم، وتنوعت أساليبهم وأفهامهم في البحث عن السعادة، والعيش في ظلالها، إلا أن كثيراً من الناس قد أخطأ الطريق، وزل بهم الفهم، في إدراك معنى السعادة الحقة، وتحقيق الحياة المطمئنة التي يرغب فيها، ويسعى إلى بلوغها، لأنه لم يسلك الطريق الذي رسمه الله تعالى في كتابه، ووضحه رسوله ‏صلى الله عليه وسلم في حياته وسنته لنيل السعادة وتحقيقها.

 

عباد الله - من الناس عباد الله من يبحث عن السعادة في جمع الأموال والعتاد، فيراها في تحصيل الشهوات من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، ومنهم من يبحث عن السعادة في المناصب والوجاهات، فيراها في الوظائف والمناصب، ومنهم من ينشد السعادة في كثرة الأولاد، وصحة الأجسام والمظاهر والشكليات، وفي الناس من لا يرى السعادة في الحياة إلا في كثرة اللعب واللهو، وتقطيع الأوقات، وإمضاء الساعات في الأسواق.

 

لقد طلب السعادة أقوام على مر العصور بطرق متعددة، ليست على هدي الله وهدي رسله ‏عليهم الصلاة والسلام فكانت بعض هذه الطرق سبباً لدمارهم وهلاكهم، فهذا فرعون أعتى من عرفته البشرية تكبراً وتجبراً على الله، ينعم الله عليه بأعظم النعم، فيرزقه ويطعمه، ويعطيه ملك مصر، ويجري له الأرزاق والأنهار، فيخاطب من استعبدهم عقوداً من الزمان بقوله: (يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ? أَفَلَا تُبْصِرُونَ) وقال: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) فكان عاقبة هذا العتو والتكبر على الله الشقاء واللعنة والهلاك (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى?)، وهذا قارون يمنحه الله كنوزاً كالتلال، تنوء بحمل مفاتحها الأثقال، ما جمعها بجهده ولا بذكائه، ولا بعرقه وعبقريته، بل بفضل الله ونعمته عليه، وقد حذره الله من الكفر والفساد، والتكبر على العباد، فلما عتا عما نهاه الله عنه، حرمه الله الحياة السعيدة المطمئنة، فقال سبحانه: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ).

 

وهذا الوليد بن المغيرة ‏يرى السعادة والحياة في تكثير الأموال والأولاد، فيرزقه الله مالاً ممدوداً وأبناء كثراً، فيكفر بنعمة الله عليه، ويعصي رسوله ويستهزئ به، فيكتب الله عليه الشقاء في الدنيا والآخرة، (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا، وَبَنِينَ شُهُودًا، وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ، كَلَّا ? إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا، سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا)، وغيرهم أمم وأقوام في الماضي والحاضر، طمس ‏الله على أفهامهم، وختم على قلوبهم، فلا يزالون يطلبون السعادة بغير طرقها الصحيحة، فما يلبث سعيهم أن ينقلب عليهم حسرة وندامة وشقاء وتعاسة.

 

إن السعادة الحقيقية، -عباد الله- والحياة السعيدة ليست في شيء مما مضى كله وحده بدون توفيق الله، فقد شقي أناس ‏بأموالهم وأولادهم وازواجهم، وشقي آخرون بعواقب مناصبهم ووظائفهم، وشقي آخرون بشهرتهم ولهوهم، إن السعادة الحقيقية، والحياة الهانئة المطمئنة إنما تكون بالإيمان بالله تعالى وطاعته، وإخلاص الدين له والخلوص من الأنداد والشركاء، وصدق الله حين قال: (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ? وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ? كَذَ?لِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)،

وصدق الله إذ قال: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْرَى? فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ? لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ? ذَ?لِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

 

 إن السعادة الحقيقية ‏هي في الرضا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، فمن ذاق طعم الإيمان، وعمل بطاعة الرحمن، فقد ذاق طعم السعادة، وعرف حياة الطمأنينة والراحة، جاء في صحيح مسلم أنه ‏صلى الله عليه وسلم قال: (‏ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا).

 

ومن ضيع نعمة الإيمان، واعرض عن طريق الرحمن، وراح يبحث لنفسه عن سعادة موهومة في غير السنة والقرآن، ‏شقي في الدنيا والآخرة، وصدق الله تعالى: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ? بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ? فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى?، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى?، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى? وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَ?لِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ? وَكَذَ?لِكَ الْيَوْمَ تُنسَى?)،

 

-عباد الله- إن ‏في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، وهي جنة الإيمان بالله وطاعته، والأنس والخلوة به وبعبادته وذكره، (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ? أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى? لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ? وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

 

يقول ابن القيم- رحمه الله-: (إن في القلب شعث: لا يلمه إلا الإقبال على الله، وعليه وحشة: لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن: لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق: لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات: لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد: لا يقف دون أن يكون هو وحده المطلوب، وفيه فاقة: لا يسدها الا محبته ودوام ذكره والاخلاص له، ولو أعطى الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبدا)، يقول الشاعر:

وَلَستُ أَرى السَعادَةَ جَمعَ مالٍ

وَلَكِنَّ التَقيَّ هُوَ السَعيدُ

وَتَقوى اللَهِ خَيرُ الزادِ ذُخراً

وَعِندَ اللَهِ لِلأَتقى مَزيدُ.

بارك الله لي ولكم  ....

 

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا ‏رحمكم الله أن من أسباب التعاسة والشقاء الإعراض عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وارتكاب النواهي، وتضييع الأوامر، سلوا أرباب الأموال، ومن تمتعوا بالمناصب والشهرة والسلطان، سلوا الكفار والمنافقين، سلوهم بصدق: هل وجدوا السعادة التي كانوا ينشدونها؟، وهل حققوا الحياة التي كانوا يحلمون بها؟، ويسعون ليلهم ونهارهم في طلبها؟، والله لو أذن الله لهم فصدقوا، لقالوا مجتمعين: إن السعادة والراحة في الإيمان والطاعة،

لقد ذاق السعادة وعاشها الأنبياء والصالحون بمن فيهم من الفقراء والمعدمين والمحاربين والمعذبين على مر العصور، وحرمها كثير من غيرهم.

 

عباد الله أخبروا أبناءكم أن السعادة ليست مع هؤلاء المشاهير الذي يزهدون النساء في أزواجهم ويجعلون المتابع لهم يسخط على نفسه وعيشته ولا يرضى بأهله ولا ببيته ولا سيارته ولا وظيفته، ويزدري ويَتَقَال َّنعمة الله عليه.

أخبروا الأجيال أن ينظروا إلى الفقراء المعدمين الذين لا يملكون شيئاً، وهم في نعمة من الله.

أخبروهم عن أولئك الذين يعيشون في الحروب وينامون ويصبحون على أنين الطائرات والقنابل

وهم يعيشون في أمن وأمان.

 

اخبروهم عن أولائك المرضى على الأسرة في المستشفيات ويتقلبون ومحرومون من الطعام والشراب ويتمون الصحة التي هم فيها.

 

أخبروهم عن أولئك المغتربين الذين يغتبرون أعمارهم كاملة حتى إذا رجعوا إلى أوطانهم بعد ثلاثين سنة، اغترب أولادهم من بعدهم، ويتمون الاستقرار الذي ينعمون به ولا يشعرون.

أخبروهم أن متابعة أولئك المشهورين لا تزيدهم إلا مرضاً وحسرة، وأن السعادة والراحة في ترك متابعتهم، وأن ساعة نقضيها في قراءة القرآن وما تخلفه من السعادة والراحة والاطمئنان لا يوازيها الف ساعة من متابعة أولئك الفارغين.

 

لا علاج لهذه الهموم والأمراض النفسية والاكتئاب إلا بطاعة الله وصدق الله إذ قال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [الحجر: 97 - 99]

وغاية السعادة ومنتهاها أن تتصالح مع الموت وتستعد للقاء الله، ولا تكره لقاء الله ولا يكون ذلك إلا بطاعة الله

عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا لَنَكْرَهُ المَوْتَ، قَالَ: «لَيْسَ ذَاكِ، وَلَكِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» متفق عليه

وهو حقيقة قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }

أي لازِموا الطاعة حتى إذا أتاكم الموت أتاكم وأنتم متقون لله

وان تتمنى أن تكون ممن يقال لهم: (يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي

 

سئل الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى اين أجد طريق السعادة؟

فأجاب رحمه الله تعالى:

السعادة في: طاعة الله ورسوله، والاستقامة على دين الله، وصحبة الأخيار، والبعد عن صحبة الأشرار، والصبر على المصائب، صبورًا على طاعة الله، صبورًا عن معاصي الله، شكورًا عند النعم، مكثرًا لذكر الله والدعاء، هذه السعادة في الدنيا والآخرة، الله المستعان.

 

اللهم اجعلنا واهلينا من السعداء يا رب العلمين في الدنيا والآخرة

صلوا وسلموا  .....

 

 

المرفقات

1667551458_خطبة السعادة.doc

1667551463_خطبة السعادة.pdf

المشاهدات 511 | التعليقات 0