الزَّلَازِل .. وَقْفَات تَأَمُّل وَادِّكَار
سعود المغيص
الخُطْبَةُ الأُولَى :
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بعدُ عباد الله :
اتقُوا اللهَ تعالى واعلموا أن مِنَ الظَّوَاهِرِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ نَقِفَ مَعَهَا وَقْفَات تَأَمُّلٍ وَادِّكَارٍ، وَالَّتِي تَهُزُّ الْأَرْضَ حِينًا بَعْدَ حِينٍ: ظَاهِرَةُ الزَّلَازِلِ.
فَكَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ أَنْ نَقِفَ مَعَ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ وَقْفَةً إِيمَانِيَّةً، بَعِيدًا عَنِ التَّحْلِيلِ الْمَادِّيِّ الْمُجَرَّدِ، الَّذِي لَا يَبْنِي إِيمَانًا، وَلَا يُزَكِّي نَفْسًا.
يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ: الزَّلْزَلَةُ وَالزِّلْزَالُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَقَدَرٌ مِنْ أَقْدَارِ اللَّهِ فِي مُلْكِهِ، يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ لِحِكْمَةٍ، وَيَصْرِفُهَا عَمَّنْ يَشَاءُ: ( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ )
هَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ قَرَارًا، فِي مِثْلِ طَرْفَةِ الْعَيْنِ وَانْتِبَاهَتِهَا، يُغَيِّرُ اللَّهُ حَالَهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، فَبَيْنَمَا النَّاسُ فِي دُنْيَاهُمْ غَافِلُونَ، أَوْ فِي لَهْوِهِمْ سَادِرُونَ، إِذْ أَذِنَ اللَّهُ لِجُنْدٍ مِنْ جُنْدِهِ أَنْ يَتَحَرَّكَ، أَذِنَ لِلْأَرْضِ الصُّلْبَةِ السَّاكِنَةِ أَنْ تَضْطَرِبَ، فَإِذَا السُّقُوفُ تَجْثُو، وَالْبِنَايَاتُ تَتَمَايَلُ، وَالْحِيطَانُ تَتَنَاثَرُ.
إِنَّهَا صَدْمَةٌ سَرِيعَةٌ خَاطِفَةٌ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهَا اللِّسَانُ، أَوْ يُصَوِّرَهَا الْبَنَانُ!
فَكَمْ فِي آيَةِ الزَّلْزَلَةِ مِنْ عِبْرَةٍ وَعِظَةٍ نَحْنُ عَنْهَا غَافِلُونَ! كَمْ فِي ظَاهِرَةِ الزَّلَازِلِ مِنْ رَسَائِلَ لِبَنِي الْبَشَرِ، تُخَاطِبُهُمْ بِلِسَانِ الْحَالِ لَا الْمَقَالِ!
أُولَى الوَقْفَات : مَا أَعْظَمَ قُدْرَةَ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ! وَمَا أَشَدَّ بَطْشَهُ! تَعَالَتْ عَظَمَتُهُ، وَجَلَّتْ قُدْرَتُهُ، إِذَا أَرَادَ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَالٍ، لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ الْمَكْرُوهِ، وَلَا مَحِيدَ عَنْ أَمْرِهِ النَّافِذِ، إِذَا أَرَادَ شَيْئًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
خَرَّتْ لِعَظَمَةِ اللَّهِ الْجِبَالُ الرَّاسِيَاتُ، وَتَشَقَّقَتْ مِنْ خَشْيَتِهِ الصُّخُورُ الْقَاسِيَاتُ.
فَكَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَى أَنْ نُرَاجِعَ أَنْفُسَنَا وَتَعْظِيمَنَا لِمَقَامِ رَبِّنَا، وَخُضُوعَنَا لَهُ، وَإِجْلَالَنَا، مَعَ هَذِهِ التَّغَيُّرَاتِ الْمَهُولَةِ!
كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَى أَنْ نَسْتَشْعِرَ عَظَمَةَ اللَّهِ، وَقَدْ أُمْطِرْنَا بِالشَّهَوَاتِ، وَالْتَفَّتْ حَوْلَنَا الشُّبُهَاتُ، وَتَعَلَّقْنَا بِالْمَادِّيَّاتِ، وَتَنَافَسْنَا فِي الْمَظْهَرِيَّاتِ.
وثاني الوَقْفَات : أَنَّ الزَّلَازِلِ يَوْمَ تَرْجُفُ رَجْفَتَهَا كَأَنَّمَا تُخَاطِبُ أَهْلَ الْأَرْضِ بِعَجْزِ الْمَخْلُوقِ، وَضَعْفِهِ، وَفَقْرِهِ، وَقِلَّةِ حِيلَتِهِ، وَأَنَّه مَهْمَا طَغَى وَبَغَى، وَمَهْمَا تَجَبَّرَ وَتَكَبَّرَ، وَمَهْمَا أُوتِيَ مِنْ قُوَّةٍ وَتَقَدُّمٍ - فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ، يَبْقَى هَذَا الْإِنْسَانُ مَهْمَا بَلَغَ وَكَانَ فَقِيرًا ذَلِيلًا، مَا لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ.
يَبْقَى هَذَا الْإِنْسَانُ وَإِنِ اكْتَشَفَ الذَّرَّةَ، وَصَعِدَ الْفَضَاءَ، وَصَنَعَ الصَّوَارِيخَ الْعَابِرَةَ لِلْقَارَّاتِ، وَرَصَدَ أَمَاكِنَ الزَّلَازِلِ وَدَرَجَاتِهَا، يَبْقَى ضَعِيفًا حَائِرًا أَمَامَ هَذَا الْجُنْدِيِّ الْإِلَهِيِّ، فَلَا قُوَّةَ عَسْكَرِيَّةً، وَلَا تَرْسَانَةَ حَرْبِيَّةً، وَلَا أَجْهِزَةَ تَقَدُّمِيَّةً تُقَلِّلُ مِنْ حَجْمِ هَذِهِ الْخَسَائِرِ الْمَادِّيَّةِ، فَضْلًا أَنْ تَدْفَعَهَا أَوْ تُؤَخِّرَهَا.
وثالث الوَقْفَات : رِسَالَةٌ أُخْرَى تَعِظُنَا بِهَا هَذِهِ الزَّلَازِلُ: فَمَا نَرَاهُ الْيَوْمَ مِنْ دَمَارٍ مَهُولٍ، وَمَشَاهِدَ مُفْجِعَةٍ مَا هُوَ إِلَّا جُزْءٌ يَسِيرٌ، وَمَشْهَدٌ قَصِيرٌ مِنْ زِلْزَالِ يَوْمٍ عَظِيمٍ.
إِذَا كَانَ أَهْلُ الْأَرْضِ فَجَعَتْهُمْ حَرَكَةٌ قَلِيلَةٌ، وَهِزَّاتٌ يَسِيرَةٌ، فِي ثَوَانٍ مَعْدُودَةٍ، وَفِي بُقْعَةٍ مَحْدُودَةٍ؛ فَكَيْفَ بِنَا -يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ- إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا؟! وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا؟! كَيْفَ حَالُنَا إِذَا حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً؟!
إِنَّهُ زِلْزَالٌ لَا مَوْتَ فِيهِ، وَلَكِنْ فِيهِ الْخَوْفُ الْمُتَنَاهِي ( إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا)
زِلْزَالٌ يَتَمَنَّى كَثِيرُونَ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُوُا قَبْلَهُ وَلَمْ يُخْلَقُوا: ( يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) .
إِنَّهُ زِلْزَالٌ وَصَفَهُ اللَّهُ الْعَظِيمُ بِأَنَّهُ عَظِيمٌ ، تَذْهَلُ مِنْ هَوْلِهِ وَشِدَّتِهِ الْمَرَاضِعُ، وَتَشِيبُ الْوِلْدَانُ، وَتَضَعُ الْحَوَامِلُ )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ(
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ يَتَّعِظُ بِالْمَثُلَاتِ، وَأَنْ يَهْدِيَنَا سَوَاءَ السَّبِيلِ، وَأَنْ يَحْفَظَنَا مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ وَفَوَاجِعِ الزَّمَانِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبٌ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ فَيَا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ : قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:َ ) لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ، وَهُوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ، حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ فَيَفِيضَ) وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ سَنَوَاتُ الزَّلَازِلِ).
فَحَقٌّ عَلَى مَنْ عَقَلَ عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ، وَسَمِعَ وَشَاهَدَ مِثْلَ هَذِهِ الزَّلَازِلِ أَنْ يَسْعَى لِلْآخِرَةِ حَقَّ سَعْيِهَا، وَأَنْ يُسَابِقَ عُمُرَهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُقَرِّبُهُ عِنْدَ رَبِّهِ زُلْفَى.
فَقَدْ كَانَ مِنْ هَدْيِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَالِحِي سَلَفِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقْبِلُونَ عَلَى رَبِّهِمْ مَعَ إِقْبَالِهِمْ ، إِذَا رَأَوْا مِثْلَ هَذِهِ الْكَوَارِثِ.
ختاماً عباد الله : إِنَّ مِمَّا يُؤْسَفُ لَهُ ، أَنَّ مَعَ كُلِّ كَارِثَةٍ نَرَاهَا وَنُتَابِعُ أَحْدَاثَهَا ، نَرَى أَنَّ الصَّوْتَ الْأَعْلَى هُوَ التَّحْلِيلُ الْمَادِّيُّ، فَالْأَعَاصِيرُ هِيَ بِسَبَبِ تَيَّارٍ هَوَائِيٍّ، وَالْغُبَارُ بِسَبَبِ مُنْخَفَضٍ جَوِّيٍّ، وَالطُّوفَانُ سَبَبُهُ زِيَادَةُ مَنْسُوبِ الْمَاءِ، وَالزَّلَازِلُ بِسَبَبِ تَشَقُّقٍ وَتَكَسُّرٍ فِي قِشْرَةِ الْأَرْضِ. وَهَكَذَا، كُلُّ ظَاهِرَةٍ تُفَسَّرُ تَفْسِيرًا مَادِّيًّا صِرْفًا.
فَأَيْنَ مُدَبِّرُهَا؟! أَيْنَ مُصَرِّفُهَا؟ أَيْنَ خَالِقُهَا؟ أَيْنَ الْقَهَّارُ مُوجِدُهَا؟ أَيْنَ قَوْلُ الْعَظِيمِ الْجَبَّارِ: ( وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا( !؟
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَدْفَعَ عَنَّا الغَلَاءَ وَالوَبَاءَ وَالرِّبَا وَالزِّنَا وَالزَّلَازِلَ وَالمِحَنَ وَسُوءَ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
اللهم علمنا ماينفعنا ..
عباد الله : صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» .
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين واحمِ حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين في كل مكان، اللهم أصلح أحوال المسلمين .
اللَّهُمَّ وَفِّقْ خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وَسَدِّدْهُمْا وَأَعِنْهُمْا ، وَاجْعَلْهُما مُبارَكِيْنَ مُوَفَّقِيْنَ لِكُلِّ خَيْرٍ وَصَلاحٍ يارب العالمين
اللهم أنت الغني ونحن الفقراء ..
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْـمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.