الزلازل والأعاصير تخويف وتذكير
عبدالرحمن اللهيبي
الحمد لله الملك الجبار ، الحمد لله العزيز الغفار، يَفْعَلُ ما يَشَاءُ ويختار، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ القَادِرُ القهار، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ الأطهار.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وراقبوه ولا تعصوه، فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ رافعة للنِّعَمِ، وجالبة للبلايا والنِّقَمِ، فكم نزل من البَلايا بشؤمها، وكم رُفع من العَافِيَة بالمجاهرة بها ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾
عباد الله: الناس فُقَرَاءٌ إلى الله، ضُعَفَاءٌ عَاجِزُونَ؛ يَأْكُلُونَ أَرْزَاقَهُمْ، وَيَنْتَظِرُونَ آجَالَهُمْ، وَلا يَدْرُونَ مَتَى يَمُوتُونَ، وَلا كَيْفَ يَمُوتُونَ!
وَرَبُّهُمْ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَيْهِمْ وَهُمْ عَاجِزُونَ ؛ عَاجِزُونَ عن الزيادة في آجَالِهِمْ، عَاجِزُونَ عن دَفْع السُّوءِ وكشف الضر عَنْهُمْ، وَلا مَنْجَاةَ لَهُمْ مِنَ اللَّـهِ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَلا فِرَارَ لَهُمْ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ .. لا ملجأ ومنجا منه إلا إليه ، فسبحانه من إله عظيم يدبر الأمور، ويصرّف الدهور، مالكُ الكونِ والأفلاك، وربُ الكواكبِ والمجرات، وخالق الأرضِ والسموات، وَمَنْ نَظَرَ فِي الْكَوْنِ وَمَا فِيهِ مِنْ عَجَائِبِ المخلوقات، عَلِمَ أَنَّ لِلْكَوْنِ خَالِقًا مُدَبِّرًا، وَأَيْقَنَ بِأَنَّ له ربا مالكا متصرفا، وقاهرا جبارا مقتدرا ، لَمْ يُقَدِّر الأقدار سُدًى وَلا عَبَثًا، لا تتحرك ذرة في الكون إلا بإذنه ، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه ، ولا يقع شيء إلا بأمره، يقضي بما يشاء ولا معقب لحكمه ، لا رَادَّ لِمَا قَضَى ، وَلا دَافِعَ لِمَا أَمضَى، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون ، قضى سبحانه بأن كل حي يموت ، فلكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، وَلِكُلِّ بِدَايَةٍ نِهَايَةٌ.
فهو الله القَادِر عَلَى إِهْلاكِ خَلْقِهِ في طرفة العين ولَمْحِ البَصَرِ، وَلَكِنَّهُ يَعْفُو وَيَرْحَمُ، وَيُمْهِلُ ويحلم، ((وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍۢ ))
عباد الله، إن الله لا يُقَدِّر على عباده شراً محضاً، فكم من شر ومكروه في نظر الناس، وهو يحمل في طياته خيراً كثيراً ، " وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"
فالله قد يبتلي الله عباده بالكوارث والبلايا ، والزلازل والرزايا؛ لتستيقظَ النفوسُ الغافلة، ولتلينَ القلوبُ القاسية .. ولا تزال نذر الله تعالى على عباده تتابع ، فتارة تأتي عبر عواصفَ وأعاصير مدمرة ، وتارة عبر فيضانات مهلكة ، وتارة عبر زلازل مروعة ، وتارة عبر حرائق مفجعة ، وتارة عبر حروب طاحنة ، وما يعلم جنود ربك إلا هو..
ولقد وقع في الأيام الماضية زلزالٌ عظيم أصاب إخواننا المسلمين في بلاد المغرب ولم تنتهي الفاجعة ، حتى نزل بإخواننا في ليبيا عواصفُ وسيولٌ جارفة ، فأحدثت هذه الكوارث من القتل والدمار ما فُجعت به قلوب المؤمنين، فكم من عمارة شاهقة سقطت على سكانها، وكم من منازل تهدمت على أصحابها ؟! وكم من أحياءٍ ومساكنَ محاها السيلُ الجارف فأصبحت أثرا بعد عين ، فخلّفت تلك الكوارثُ عشراتِ آلاف من القتلى ، وعشراتِ الآلاف من المفقودين والجرحى، ولا زال هناك خلق كثير تحت الأنقاض والطين ..
عباد الله: إن هذه الزلازل والأعاصير ما هي إلا آيات لأولي الألباب ودلالة على قدرة الله القاهرة الباهرة ، حيث يأذن الله جل جلاله لهذه الرياح أن تُشكِّل إعصارا أو يأذن للأرض أن تتحرك بزلزال لبضع ثوان ؛ فَتُدَمِّرُ مُدُنًا كَامِلَةً، وتُوقِعُ خَسَائِرَ فَادِحَةً ، وتَقْتُلُ خَلْقًا كَثِيرًا، وتُشَرِّدُ أُمَمًا مِنَ النَّاسِ؛ بينما كانوا قبلها بلحظات آمنين مطمئنين فإذا بهم هلكى وغرقى ومفقودين ومشردين.. لا مَأْوَى لَهُمْ، ولا أهل ولا مال ولا مَتَاعِ! فما أعظم مصابهم، وما أشد بلاءهم، وإنا لله وإنا إليه راجعين
هذه وهي هزة أرضية يسيرة ولثوان معدودة ، فكيف لو كانت أقوى وامْتَدَّتْ لساعات؟ وَكيف لَوْ أَنَّهَا امْتَدَّتْ عَلَى رُقْعَةٍ كَبِيرَةٍ مِنَ الْأَرْضِ لِتَشْمَلَ دُوَلًا أَوْ قَارَّاتٍ فَكَيْفَ سَيَكُونُ حَجْمُ الدَّمَارِ؟
ألا مَا أَضْعَفَ الْبَشَرَ! وَمَا أَقَلَّ حِيلَتَهُمْ! وَمَا أَعْجَزَهُمْ أَمَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ! فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
أَيُّهَا اَلْمُسْلِمُونَ: إِنَّ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُخَوِّفُ اَلنَّاسَ بِهذه الْآيَاتِ اَلْكَوْنِيَّةِ, كَالزَّلَازِلِ وَالْبَرَاكِينِ, والأعاصير والفيضانات, قَالَ سُبْحَانَهُ: ((وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا))
قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ اللَّهَ يخَوَّف النَّاسَ بِمَا يَشَاءُ مِنْ آيَاتِهِ لَعَلَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ وَيَذَّكَّرُونَ .. وإلى ربهم يتوبون ويستغفرونه
وهذه البلايا والمصائب إذا حلت بالفجار والكافرين فهي نقمة بهم وعقوبة لهم ، وإذا نزلت بالمؤمنين فهي مغفرة لذنوبهم وابتلاءٌ لهم
فالكوارث والمصائب للمؤمنين رفعة وتكفير ، ولعموم الخلق إنذار وتخويف وتذكير ..
عباد الله: لقد كَثُرَتْ فِي زَمَانِنَا هَذَا الزَّلازِلُ وَالأَعَاصِيرُ، وَاشْتَعَلَتِ في الأرض الحُرُوبُ، وَتَفَاقَمَتِ في الناس الفِتَنُ، وتَوَالَتِ عليهم المِحَنُ، فالكَوَارِثَ تتابع من حولنا، وَالأَخْطَارَ الجَسِيمَةَ تحفنا وتُحِيطُ بِنا ، وَكثير منا فِي سَكْرَتِهِمْ ساهون، وفي غَفْلَتِهِمْ سامدون ، وفي شهواتهم غارقون، وبالمنكرات يجاهرون، وَفي الترفيه المحرم يسارعون ، حتى أَلْهَتْهُم عَمَّا يُحِيطُ بِهِمْ مِنْ القوارع والكَوَارِثَ والخطوب.
ها هي الفضائيات تتناقل في نَشرَاتِها أَخْبَارَ الزَّلازِلِ وَالأَعَاصِيرِ، وأنباءَ القتلى والمشردين ، ثُمَّ يَعْقُبُ النَّشْرَةَ الإِخْبَارِيَّةَ فِيلْمٌ ماجن، أَوْ غِنَاءٌ ورقص ساقط، أَوْ حِوَارٌ في زَنْدَقَةٍ واعتراض على شريعة رب العالمين ، وَكَأَنَّ أَخْبَارَ الزَّلازِلِ وَالأَعَاصِيرِ الَّتِي فَتَكَتْ بِالآلافِ مِنَ العباد وَدَمَّرَتِ كثيرا من القرى والبلاد فِي مَنْأًى عَنِا،
وَكَأَنَّ بيننا وبين الله عهد بأن البلاء لا يحل بنا. ((قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ))
فلماذا لا نتعظ يا مسلمون بما يحدث لغيرنا ؟
ولماذا لا نغير من أحوالنا ؟
(أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)
فَخُذُوا حِذْرَكُمْ -عِبَادَ اللَّـهِ- وَاعْتَبِرُوا بِمَا حَلَّ بِغَيْرِكُمْ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ رَبَّكُمْ قَادِرٌ عَلَيْكُمْ، وهو غَيُورٌ عَلَى مَحَارِمِهِ أَنْ تُنْتَهَكَ فِيكُمْ
﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾
أقول قولي هذا ..
أيها الإخوة المؤمنون اتقوا الله تعالى وتفكروا فيما يقع من الكوارث حولكم ، فَالأُمُورُ تَتقَلبُ ، وَالأَحوَالُ تَتَغَيَّرُ ، فَرُبَّ آمِنٍ مُطمَئِنَّ البال، أمسى خَائِفًا مُتَغَيِّرَ الحال..
وإنكم والله لفي نعمة من الله تامة .. أمنٌ في أوطانكم، وصحة في أبدانكم، ووفرة في أرزاقكم، واستقرار في بلادكم، فماذا أديتم من شكر الله الواجب عليكم ..
فإن من النَّاسِ من إِذَا رَأَوُا الْآيَاتِ وَالنُّذُرَ تَذَكَّرُوا واعتبروا فَتَابُوا وانابوا، وَآخَرُونَ لَا تَزِيدُهُمُ الْآيَاتُ إِلَّا غفلةً وإعراضا، وصدودا واسْتِكْبَارًا ... واللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يقول: ﴿وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا﴾
وقال تعالى: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ المُتَابِع لِحَالِ النَّاسِ اليوم ونحن منهم ، يَرَى كَثرَةَ الفِتَنِ وضَعُفَ التَّمَسُّكِ بالدِّينِ ، وقد كَانَ النَّاسُ عَلَيهَا بِالنَّوَاجِذِ عَاضِّينَ ، ويرى تهاونا بالأركان والواجبات ، وقصورا في أداء الزكاوات ، يرى سفورا وتبرجا يزداد يوما بعد يوم ، يرى مجاهرة بالمعاصي والمنكرات، ويرى غيابا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويرى تعلقا شديدا بالدنيا وانشغالا بملذاتها وشهواتها ، فكَم في المُسلِمِينَ اليَومَ مَن ضَعُفَ بِرُّهُ بِوَالِدَيهِ ، وَكم منهم مَن قَلَّت صِلَتُهُ لأَرحَامِهِ ، وَكم منهم مَن قطع إِخوَانَهُ وَجِيرَانَهُ ، وَكم منهم مَن تَهَاوَنَ بالغش وأَكلِ الحَرَامِ..
فَاللهَ اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، تَمَسَّكُوا بِدِينِكُمُ القَوِيمِ ، وَسِيرُوا عَلَى الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ ، وَحَافِظُوا عَلَى قيمكم وأَخلاقِكُم، وَاحفَظُوا أَعرَاضَكُم ، وَقُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نارا ، وَاعلَمُوا أَنَّهُ لا شَيءَ يزيل النعم ، كَمِثلِ المُجَاهَرَةِ بِالمَعَاصِي والمنكرات ، وَالتَّسَاهُلِ في ظُهُورِهَا ، وإلفها واعتيادها ، ومنابذة من ينكرها ، فَذَلِكَ كله مُنذِرٌ بِخَطَرٍ عَظِيمٍ ، وَمُؤْذِنٌ بحلول البلايا والعُقُوبَات ، قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : "كُلُّ أُمَّتي مُعَافًى إِلاَّ المُجَاهِرينَ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
وَإِنَّهُ لَيسَ بَينَ اللهِ تَعَالى وَبَينَ أَحَدٍ مِن خَلقِهِ نسب إِلاَّ العَمَلُ ، قال صلى الله عليه وسلم : ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده)).
واعلموا أنه لا يقينا من المصائب إلا أن نصلح ما فسد من أحوالنا، وأن نبدأ بأنفسنا وبأهلنا ونسائنا وأولادنا..
وأما إخواننا وما حصل لهم فنحن والله لمصابهم محزونون، ولكربهم متألمون، وعزاؤنا فيهم أن من مات منهم فهو شهيد بإذن الله فقد قال : ((الشهداء خمسة، المطعون والمبطون والغريق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله)). وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : ( أُمَّتي أُمَّةٌ مَرحُومَةٌ ، لَيسَ عَلَيهَا عَذَابٌ في الآخِرَةِ ، عَذَابُهَا في الدُّنيَا الفِتَنُ وَالزَّلازِلُ وَالقَتلُ ) رَوَاهُ أَحمَدُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وإننا لندعو الله لهم بأن يرحم قتلاهم ويشفي جرحاهم وأن يرفع بلاءهم ويكشف ضراءهم ويجعل ما أصابهم كفارة لهم
فهذه الأمة جسد واحد يتألم أقصاها لأدناها، وأدناها لأقصاها، وكرب إخواننا هناك كربٌ لنا، وهمهم همنا
وحقهم علينا السعي لنجدتهم فسَارِعُوا فِي إِغَاثَةِ إِخْوَانِكُمْ ما استطعتم، والله في عون العبد ما كان في عون أخيه ..