الزلازل.. خطبة قديمة معدلة بما يوافق الحدث
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
الزلازل
18 / 5 / 1429
الْحَمْدُ لِلـهِ الوَلِيِّ الحَمِيدِ؛ يَفْعَلُ ما يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، لَهُ الحِكْمَةُ البَاهِرَةُ في شَرْعِهِ، ولَهُ الحُجَّةُ البَالِغَةُ في حُكْمِهِ، وَهُوَ القَادِرُ عَلَى خَلْقِهِ، القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، نَحْمَدُهُ كَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْمَدَ، ونَشْكُرُهُ عَلَى نِعَمِهِ؛ فَقَدْ تَأَذَّنَ بِالزِّيَادَةِ لِمَنْ شَكَرَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ﴿لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التَّغَابُنِ: 1]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِاللَّـهِ تَعَالَى، وَأَتْقَاهُمْ لَهُ، وَأَشَدُّهُمْ خَوْفًا مِنْهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إلى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاحْذَرُوا الْمَعَاصِيَ؛ فَإِنَّهَا سَالِبَةُ النِّعَمِ، مُوجِبَةُ النِّقَمِ، يَنْزِلُ البَلاءُ بِسَبَبِهَا، وَتُرْفَعُ العَافِيَةُ بِظُهُورِهَا وَعُلُوِّ أَهْلِهَا ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ [هُودٍ: 117].
أَيُّهَا النَّاسُ: امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى البَشَرِ بِالخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالرِّعَايَةِ، وَالكِفَايَةِ والإِمْدَادِ وَالإِمْهَالِ، خَلَقَهُمْ سُبْحَانَهُ مِنَ العَدَمِ، وَرَبَّاهُمْ بِالنِّعَمِ، خَلَقَهُمْ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ خَلْقِهِمْ، وَرَزَقَهُمْ وَلَيْسَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِمْ، وَلَوْ شَاءَ لَأَهْلَكَهُمْ وَأَبْدَلَ بِهِمْ غَيْرَهُمْ ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا﴾ [النِّسَاءِ: 133]،
وَالعِبَادُ فُقَرَاءُ مَسَاكِينُ، ضُعَفَاءُ عَاجِزُونَ؛ يَأْكُلُونَ أَرْزَاقَهُمْ، وَيَنْتَظِرُونَ آجَالَهُمْ، وَلا يَدْرُونَ مَاذَا سَيَحِلُّ بِهِمْ، وَلا مَتَى يَمُوتُونَ، وَلا كَيْفَ يَمُوتُونَ، وَرَبُّهُمْ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ نَفْعِ أَنْفُسِهِمْ؛ فَلا يَزِيدُونَ فِي أَرْزَاقِهِمْ، ولا يَمْلِكُونَ مَدَّ آجَالِهِمْ، ولا دَفْعَ السُّوءِ عَنْهُمْ، وَلا مَنْجَاةَ لَهُمْ مِنَ اللَّـهِ تَعَالَى إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَلا فِرَارَ لَهُمْ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، فَالأَصْلُ فِيهِمُ الضَّعْفُ والعَجْزُ.
إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَادِرٌ عَلَى إِهْلاكِ خَلْقِهِ في لَمْحِ البَصَرِ، وَلَكِنَّهُ يَعْفُو وَيَرْحَمُ، وَيُمْهِلُ ويُمْلِي، وَيُنْذِرُ ويَعْذِرُ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ فِي المُشْرِكِينَ: ﴿وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ: 95]، وقال تَعَالَى في المُنافِقِينَ: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الْبَقَرَةِ: 20].
واهْتِزَازُ الأَرْضِ بِالزَّلازِلِ المُدَمِّرَةِ، مَا هُوَ إِلَّا مِنْ مَظَاهِرِ قُدْرَةِ العَلِيمِ القَدِيرِ، وَإِنْذَارِهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ؛ تَهْتَزُّ الأَرْضُ بِأَمْرِ رَبِّهَا سُبْحَانَهُ فِي ثَوَانٍ؛ فَتُدَمِّرُ زَلْزَلَتُهَا مُدُنًا كَامِلَةً، وتَقْتُلُ خَلْقًا كَثِيرًا، وتُشَرِّدُ أُمَمًا مِنَ النَّاسِ؛ فَلا مَأْوَى لَهُمْ، وتُوقِعُ خَسَائِرَ فَادِحَةً فِي الأَمْوَالِ وَالمَتَاعِ!
وفي هذا الأسبوع وَقَعَ زِلْزَالٌ عظيم؛ ضرب دولا عدة، فأسقط مبانيها، وشق أراضيها، وأهلك بشرا لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى، عدا من هم تحت الأنقاض والبنايات، وشُرد خلق كثير من جرائه. فَسُبْحَانَ مَنْ قَدَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَسُبْحَانَ مَنْ خَوَّفَ عِبَادَهُ وَأَنْذَرَهُمْ بِالنُّذُرِ وَالْآيَاتِ ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: 59].
وَكَثْرَةُ الزَّلازِلِ دَلِيلٌ عَلَى قُرْبِ السَّاعَةِ؛ كَمَا في حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ، وَهُوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ» رَوَاهُ الْشَّيخَانِ([1]).
وَكُلُّ هَذِهِ وَقَعَتْ وَلَا تَزَالُ تَقَعُ رَأْيَ العَيْنِ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَهِيَ تَزْدَادُ كُلَّ يَوْمٍ، وَالمُهْتَمُّونَ بِشَأْنِ الزَّلازِلِ وَالأَعَاصِيرِ يَذْكُرُونَ فِي إِحْصَاءَاتِهِمْ لَهَا أَنَّهَا فِي ازْدِيَادٍ، وَأَنَّ وُقُوعَهَا فِي القَرْنِ الْأَخِيرِ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ وُقُوعِهَا فِيمَا سَبَقَهُ مِنَ القُرُونِ، وَأَنَّ وُقُوعَهَا فِي العَقْدَيْنِ الأَخِيرَيْنِ تَمَيَّزَ عَمَّا قَبْلَهُ بِكَثْرَتِهَا وَانْتِشَارِهَا فِي الأَرْضِ، وَقُوَّتِهَا التَّدْمِيرِيَّةِ، وكَثْرَةِ مَا خَلَّفَتْهُ مِنَ القَتْلَى وَالْجَرْحَى وَالمُشَرَّدِينَ([2]).
وَقَدْ تَبْلُغُ قُوَّةُ الزَّلازِلِ دَرَجَةً تَشُقُّ أَخَادِيدَ فِي الأَرْضِ؛ فَتَقْسِمُهَا إِلَى أَجْزَاءٍ تَبْتَلِعُ مَا كَانَ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالخَسْفِ، نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى العَافِيَةَ.
وَالزَّلازِلُ وَالأَعَاصِيرُ يَنْتُجُ عَنْهَا هَلاكُ البَشَرِ، وتَدْمِيرُ المَنَازِلِ وَالمُدُنِ، وتَغْيِيرُ مُسْتَوَى الأَرْضِ، وَقَدْ تَشْتَعِلُ الحَرَائِقُ مِنْ جَرَّائِهَا، وَمَنْ نَجَا مِنَ الهَلَاكِ فَهُوَ مُعَرَّضٌ لِلْإِصَابَةِ بِأَزمَاتٍ نَفْسِيَّةٍ حَادَّةٍ؛ نَتِيجَةَ الهَلَعِ وَالخَوْفِ، وَرُؤْيَةِ الدَّمَارِ وَالمَوْتِ أَمَامَ عَيْنَيْهِ، وَلا سِيَّمَا الأَطْفَالَ وَالنِّسَاءَ([3]).
لَقَدْ وَضَعَ دَارِسُو الزَّلازِلِ وَالأَعَاصِيرِ وَالقَائِمُونَ عَلَى الإِنْقَاذِ وَالطَّوَارِئِ عَشَرَاتِ الدِّرَاسَاتِ وَالإِرْشَادَاتِ لِمَنْ أُصِيبُوا بِهَا، يُرْشِدُونَهُمْ كَيْفَ يَفْعَلُونَ؟ وَيَدُلُّونَهُمْ أَيْنَ يَذْهَبُونَ([4])؟ وَمَا أَغْنَى ذَلِكَ عَنْهُمْ شَيْئًا؛ فَمَنْ رَأَى العَذَابَ بِعَيْنَيْهِ لَيْسَ كَمَنْ تَخَيَّلَهُ وَسَمِعَ وَصْفَهُ!
وَفِي بَعْضِ الزَّلازِلِ الَّتِي وَقَعَتْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ مَنْزِلِهِ أَمَامَ النَّاسِ عَارِيًا، وَمَكَثَ مَعَهُمْ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ خَرَجَ بلا لِبَاسٍ؛ مِنْ هَوْلِ الصَّدْمَةِ وَشِدَّةِ المُفَاجَأَةِ حَتَّى سَتَرَهُ النَّاسُ([5])! فَمَنْ أُصِيبُوا بِذُعْرٍ كَهَذَا هَلْ يَتَذَكَّرُونَ فِي إِعْصَارِهِمْ أَوْ زِلْزَالِهِمْ إِرْشَادَاتِ المُنَظِّرِينَ وَقَوَاعِدِهِمْ؟!
وَإِنَّ مِنْ ضَعْفِ الإِنْسَانِ –وَكُلُّهُ ضَعْفٌ- أَنَّ الحَيَوَانَ وَالطَّيْرَ تَحُسُّ بِالزَّلازِلِ وَالأَعَاصِيرِ قُبَيْلَ وُقُوعِهَا، فَتَفِرُّ عَنْ أَرْضِهَا، وَالمَحْبُوسَةُ مِنْهَا تَضْطَرِبُ فِي أَقْفَاصِهَا، وَالبَشَرُ لَا يَشْعُرُونَ بِهَا حَتَّى تَبْغَتَهُمْ؛ فَسُبْحَانَ مَنْ عَلَّمَ العَجْمَاوَاتِ الَّتِي لَا تَعْقِلُ([6])!
وَمَا أَضْعَفَ الإِنْسَانَ وَأَعْجَزَهُ وَقَدْ شيَّدَ العُمْرَانَ، وَابْتَنَى المُدُنَ، وَصَعِدَ إِلَى الفَضَاءِ، وَغَاصَ فِي أَعْمَاقِ المُحِيطَاتِ، وَاكْتَشَفَ الذَّرَّةَ، وَصَنَعَ الطَّائِرَةَ، وَبَطَشَ فِي الأَرْضِ بَطْشَ الجَبَّارِينَ! مَا أَعْجَزَهُ أَمَامَ جُنْدِ اللَّـهِ تَعَالَى ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ﴾ [الْمُدَّثِّرِ: 31]
وَأَشَدُّ ما يَكُونُ الزِّلْزَالُ حِينَ يَقَعُ والنَّاسُ نِيَامٌ آمِنُونَ غَافِلُونَ، فَيَبْغَتُهُمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرونَ، فَمَنْ نَجَا جَسَدُهُ لَمْ يَسْلَمْ عَقْلُهُ مِنَ الصَّدْمَةِ وَالمُفَاجَأَةِ.
وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِالْتِزَامِ دِينِهِ، وَإِقَامَةِ شَرِيعَتِهِ، وَالِانْتِهَاءِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ بِهِمُ العَذَابُ وَالدَّمَارُ وَهُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الزُّمَرِ: 55].
إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى البَشَرِ وَلَوْ تَحَصَّنُوا بِحُصُونِهِمْ، وَاحْتَاطُوا لِكُلِّ حَدَثٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ، وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّـهِ تَعَالَى شَيْئًا، وَعَذَابُ اللَّـهِ تَعَالَى يَنْزِلُ فِي لَمْحِ البَصَرِ، فَلَا يَرُدُّهُ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلَا حَذَرُ حَذِرٍ، فَيَنْتَهِي كُلُّ شَيْءٍ؛ تَذْهَبُ النِّعَمُ الَّتِي رَتَعَ النَّاسُ فِيهَا طَوِيلًا، وَيُصَابُونَ فِي أَعَزِّ مَا لَدَيْهِمْ مِنْ أَهْلٍ وَوَلَدٍ وَمَالٍ.
وَكَمْ مِنْ أَغْنِيَاءَ أُصِيبُوا بِإِعْصَارٍ أَوْ زِلْزَالٍ ذَهَبَ بِأَمْوَالِهِمْ فَاسْتَجْدَوْا مَنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ يُنْفِقُونَ عَلَيْهِمْ! وَكَمْ مِنْ مَسْرُورٍ في أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ أَضْحَى بَعْدَ الفَاجِعَةِ مَكْلُومَ القَلْبِ، جَرِيحَ الفُؤَادِ، يَتَمَنَّى المَوْتَ وَلا يَجِدُهُ! قَدْ فَقَدَ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ! نَعُوذُ بِاللَّـهِ تَعَالَى مِنَ الْفَوَاجِعِ، وَنَسْأَلُهُ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ وَالمُعَافَاةَ الدَّائِمَةَ في الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
فَخُذُوا حِذْرَكُمْ -عِبَادَ اللَّـهِ- وَاعْتَبِرُوا بِمَا حَلَّ بِغَيْرِكُمْ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ رَبَّكُمْ قَادِرٌ عَلَيْكُمْ، غَيُورٌ عَلَى مَحَارِمِهِ أَنْ تُنْتَهَكَ فِيكُمْ، يُمْهِلُ وَلا يُهْمِلُ، وَيُمْلِي وَلا يَنْسَى.
أَعُوذُ باللَّـهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴿قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: 65].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ...
الخطبة الثانية
الحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ وَأَطِيعُوهُ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 102].
أَيُّهَا النَّاسُ: كَثُرَتْ فِي زَمَنِنَا هَذَا الزَّلازِلُ وَالأَعَاصِيرُ، وَغَلَتِ الأَسْعَارُ، وَاشْتَعَلَتِ الحُرُوبُ، وَتَفَاقَمَتِ الفِتَنُ، وتَوَالَتِ المِحَنُ، وَعَظُمَتِ المُشْكِلاتُ، بَلْ إِنَّ الكَوَارِثَ تَدُقُّ عَلَى النَّاسِ أَبْوَابَهُمْ، وَالأَخْطَارَ الجَسِيمَةَ تُحِيطُ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَكثير منهُمْ فِي سَكْرَتِهِمْ وَغَفْلَتِهِمْ! لَمْ يُقْلِعُوا عَنْ لَعِبَهُمْ، فَمَا سَبَبُ غَفْلَتِهِمْ؟!
لَقَدْ أَطْبَقَتِ الغَفْلَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ القُلُوبِ، وَتَسَرَّبَتْ إِلَى العُقُولِ مَنَاهِجُ إِلْحَادِيَّةٌ فِي النَّظْرَةِ إِلَى النَّوازِلِ وَالكَوَارِثِ؛ فَأَمَاتَتْ إِحْسَاسَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَأَفْسَدَتْ قُلُوبَهُمْ وَأَخْلاقَهُمْ، فَلا يَتَّعِظُونَ وَلا يَعْتَبِرُونَ وَقَدْ جَاءَتْهُمُ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الْمُطَفِّفِينَ: 14].
لَقَدْ أَصْبَحَتْ وَسَائِلُ الإِعْلامِ الحَدِيثَةُ نِقْمَةً عَلَى العِبَادِ؛ إِذْ أَغْرَقَتْهُمْ فِي الشَّهَواتِ المُحَرَّمَةِ حَتَّى فِي حَالِ الشِّدَّةِ وَالأَزْمَةِ، وَأَصَّلَتْ لِهَذِهِ الْمُوبِقَاتِ بِتَقْرِيرِ الكُفْرِ وَالإِلْحَادِ تَحْتَ شِعَارَاتِ الحُرِّيَّةِ، وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالْحَيَاةِ بِلا قُيُودٍ وَلَا ضَوَابِطَ، وَأَلْهَتْهُمْ عَمَّا يُحِيطُ بِهِمْ مِنْ كَوَارِثَ وَمَخَاوِفَ. وَإِذَا نَقَلَتْ لَهُمْ أَخْبَارَ هَذِهِ الأَعَاصِيرِ وَالزَّلازِلِ وَضَحايَاهَا، وذَكَرَتْ لَهُمْ أَسْبَابَهَا وَنَتَائِجَهَا فَإِنَّهَا تَنْقُلُهَا مُجَرَّدَةً عَنْ قُدْرَةِ اللَّـهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ، فَلا تُذَكِّرُهُمْ بِشِدَّةِ انْتِقَامِهِ، وَأَلِيمِ عِقَابِهِ، وَغَيْرَتِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى مَحَارِمِهِ، بَلْ تَنْسِبُ ذَلِكَ لِلطَّبِيعَةِ أَوْ لِأَسْبَابٍ مَادِّيَّةٍ مُجَرَّدَةٍ عَنْ قَدَرِ اللَّـهِ تَعَالَى وقُدْرَتِهِ.
وَكَثِيرًا مَا يَنْقُلُ أَخْبَارَ الزَّلازِلِ وَالأَعَاصِيرِ فِي نَشرَاتِ الأَخْبَارِ نِسَاءٌ سَافِرَاتٌ مُتَبَرِّجَاتٌ، فيُعْصَى الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ حَتَّى في نَقْلِ آثَارِ قَدَرِهِ، وَدَلائِلِ قُدْرَتِهِ، ثُمَّ يَعْقُبُ النَّشْرَةَ الإِخْبَارِيَّةَ فِيلْمٌ خَلِيعٌ، أَوْ غِنَاءٌ رَقِيعٌ، أَوْ بَرْنَامَجٌ سَاقِطٌ، أَوْ حِوَارُ زَنْدَقَةٍ، وَكَأَنَّ أَخْبَارَ الزَّلازِلِ وَالأَعَاصِيرِ الَّتِي فَتَكَتْ بِالآلافِ مِنَ البَشَرِ، وَدَمَّرَتِ المُدُنَ وَالْقُرَى فِي مَنْأًى عَنِ النَّاسِ، وَلا تَعْنِيهِمْ شَيْئًا، وَكَأَنَّ عَذَابَ اللَّـهِ تَعَالَى لَا يَطَالُهُمْ، أَوْ لَا يَسْتَحِقُّونَهُ! وَهَذا مِنْ أَعْظَمِ مَا يُرَسِّخُ المَعْصِيَةَ في الأَذْهَانِ، وَيُسَوِّغُهَا لِلنَّاسِ، بِتَرْبِيَةِ المُشَاهِدِينَ عَلى الفَصْلِ بَيْنَ المَعَاصِي والعُقُوبَاتِ.
إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَوْ عَذَّبَ النَّاسَ كُلَّهُمْ، وَضَرَبَ الأَرْضَ جَمِيعًا بِالزَّلازِلِ، وَأَغْرَقَهَا بِالأَعَاصِيرِ، وَأَحْرَقَهَا بِالنَّارِ؛ لَكَانَ ذَلِكَ عَدْلًا مِنْهُ ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الْكَهْفِ: 49].
وَلَمَّا عَبَدَتِ النَّصَارَى المَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ اللهُ تَعَالَى ﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّـهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّـهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الْمَائِدَةِ: 17].
فَوَاجِبٌ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَخَافُوا اللهَ تَعَالَى، وَيَسْتَشْعِرُوا قُدْرَتَهُ، ويَخَافُوا نِقْمَتَهُ، وَيَهْرَعُوا إِلَيْهِ بِالأَوْبَةِ وَالتَّوْبَةِ، فَمَا نَزَلَ بَلاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلا رُفِعَ إِلَّا بِتَوْبَةٍ ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [النَّحْلِ: 61].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا...
([1]) رواه البخاري واللفظ له في الاستسقاء، باب ما قيل في الزلازل والآيات (1036) ومسلم في العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان (157).
([2]) ينظر: الزلازل مأساة هزت العالم (ص: 74-81)، والأرض في دوامة الخطر، د.مصطفى محمود، الدار العربية للعلوم، بيروت، الأولى 1415هـ (ص: 95-96).
وعمل عالم الجيولوجيا الإيرلندي (روبرت ماليت) إحصاء للزلازل التي وقعت بين (1700 قبل الميلاد) حتى عام (1850م) فتوصل إلى ما يلي:
1- من عام (1700 قبل الميلاد) إلى السنة الميلادية الأولى وقعت (58) هزة أرضية.
2- من العام الأول للميلاد إلى سنة (900م) وقع (157) زلزالا كان منها (15) زلزالا مدمرا.
3- من عام (900م) إلى عام (1500م) وقع (532) زلزالا، كان منها (15) زلزالا مدمرا.
4- من عام (1500م) إلى عام (1800م) وقع (2804) زلزالا، كان منها (100) زلزال مدمر.
5- من عام (1800م) إلى عام (1850م) بلغ عدد الزلازل (3204) زلزالا. ينظر: الزلازل، إبراهيم حلمي غوري، دار الشرق العربي، بيروت، (ص: 176).
([3])ينظر: الأرض في دوامة خطر (ص: 103-104) والزلازل، إبراهيم حلمي غوري (ص: 157-160).
([4]) ينظر: الزلازل وتوابعها، د.محمد الشرقاوي، مركز الأهرام، القاهرة، الأولى، 1413هـ (ص: 93-94)، والزلازل مأساة هزت العالم (ص: 144- 151) والأرض في دوامة الخطر (ص: 93-109) والزلازل، إبراهيم غوري (ص: 168-170).
([5]) حدثني بذلك أحد من كانوا في تركيا لما وقع الزلزال قبل سنوات، وكان حاضرا لتلك الواقعة.
([6]) ينظر: الأرض في دوامة الخطر (ص: 53).
المرفقات
1675758718_الزلازل.doc
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق