الرياء وعواقبة
محمد مهدي بن نذير قشلان
1437/03/21 - 2016/01/01 15:40PM
الكتاب: الرياء وعواقبه -من سلسلة خطب الجمعة-
المؤلف: محمد مهدي قشلان
نبذة عن الكتاب: لعل أكثر ما يشغل قلب المؤمن عمله الصالح هل هو مقبول عند الله.. أم لا ؟! ففي هذه الخطبة إجابة شافية عن هذا السؤال الدقيق وغيره...
مكان وتاريخ إلقاء هذه الخطبة:
ألقيت هذه الخطبة في مسجد سيدنا حمزة بن عبد المطلب –رضي الله عنه- سوريا –دمشق-11/شوال/1432هـ الموافق لـ 9/9/2011م، ثم ألقيت في مسجد السيدة صفية أم المؤمنين في عمَّان الأردن عام /24/صفر1435هـ2014الموافق لـ 27/12/2013م ، ثم ألقيت في مسجد بلال بن رباح في عمَّان الأردن 30/5/2014م الموافق ل1/شعبان/1435هـ، ثم ألقيت في مسجد عباد الرحمن في عمَّان 31/7/2015م، ثم ألقيت في مسجد البراء بن عازب في عمَّان الأردن 11/12/2015م الموافق لـ 29/ صفر 2/ 1437هـ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا...
وأشهد أن لا إله إلا الله: هو صاحب العزة القائمة،والمملكة الدائمة، ذو المُلك والملكوت، والعزة والجبروت، يحب من عباده المخلصين، ويبغض منهم المنافقين والمرائين والمخذلين اسمع إليه وهو يقول في الحديث القدسي الجليل: {الْإِخْلَاصُ سِرٌّ من سِرِّي اسْتودَعْتهُ قلبَ مَنْ أحْبَبْتهُ مِنْ عِبَادي(1)}.لا يعلمه ملكٌ فيكتبه, ولاشيطان فيفسده، ولا هوى فيميله(2).
يارب: اللهم اجعلنا من المخلصين لدينك الناصرين لشريعتك،اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا، والصدق في أعمالنا،واليقين في أحوالنا،اللهم باعد بيننا وبين الرياء والنفاق كما باعدت بين المشرق والمغرب يا أرحم الراحمين!....إلهي:
رضاك خير من الدنيا وما فيها ... يا مالك النفس قاصيها ودانيها
ونظرة منك يا سؤلي ويا أملي ... أشهىٰ إلي من الدنيا وما فيهـا
وليس للنفس آمال تؤملها ..... سوىٰ رضاك فذا أقصى أمانيهـا
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله:كان يجلس بين كوكبة من أصحابه الكرام،وهم يحيطون به إحاطة السوار للمعصم
أو إحاطة الشُهبِ بِالبَدرِ أَو الجُندِ بِالعَلَمِ،فقال لهم:{إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَصَابَهُ السَّقَمُ ثُمَّ أَعْفَاهُ اللَّهُ مِنْهُ كَانَ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ،
وَمَوْعِظَةً لَهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ،وَإِنَّ الْمُنَافِقَ إِذَا مَرِضَ ثُمَّ أُعْفِىَ كَانَ كَالْبَعِيرِ عَقَلَهُ أَهْلُهُ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ،فَلَمْ يَدْرِ لِمَ عَقَلُوهُ وَلَمْ يَدْرِ لِمَ أَرْسَلُوهُ (3)}
سيدي أبا القاسم يا رسول الله:
ضمَّ الإلهُ اسمَ النبيّ إلى اسمهِ إذا قَالَ في الخَمْسِ المُؤذِّنُ أشْهَدُ
وشقّ لهُ منِ اسمهِ ليجلـه فذو العرشِ محمودٌ، وهذا محمدُ
أما بعد فيا أحباب رسول الله:
أرأيتم الحنظلة كيف تبدو من بعيد وكأنها فاكهة مستظرفة مستطرفة،يغتر الناظر بمنظرها ويعجب بلونها، فإذا ما أمسكها وعركها وجد المر والعلقم فيها،هذا مثال صارخ يا عباد الله للأعمال الصالحة التي يعملها العبد، وقد شابها كثير من الرياء والنفاق...، وما أروع تشبيه الحبيب المصطفى للمنافق والمرائي بقوله:{مَثَلُ الْمنافِقِ الَّذِي يقرأُ القرآنَ مَثلُ الرَّيْحانَةِ،ريحها طيب،وطعمها مُرٌّ،ومَثَلُ المنافِقِ الذي لا يقرأُ القرآن كمثَل الْحَنْظَلةِ،لا ريحَ لها،وطعمها مُرٌّ(4)}
أيها السادة الأعزاء:
لم أزل مع حضراتكم أعيش بين نور الإخلاص ونيران الرياء،وقد عرفنا الإخلاص وقلنا هو باختصار"أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن(5)" ثم ذكرنا بعد ذلك دلالات وعلامات للإخلاص كما ذكر أطباء القلوب، ومن أبرز هذه العلامات علامتين اثنتين: 1-استواء المدح والذم من العامّة، 2-أن يكتم العبد حسناته،كما يكتم سيئاته،وسمعنا كيف كان أمير المؤمنين عمر يخدم امرأة عمياء مقعدة لم يدر بذلك أحد إلا الله، ورأينا كيف كان علي بن الحسين -زين العابدين-إذا جنَّ الليل وأرخى على الكون عباءته السوداء تلثم ثم تصدق بما يحمل على ظهره، دون أن يعلم بذلك أحد إلا الله...ووصل بنا الحديث عن الرياء..، فأعيروني أسماعكم لأن الرياء بلا شك من أشد الأبواب خفاءً, حتى قيل إنه:"أخفى من دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصَّماء، في الليلة الظلماء" وأَصْل الرِّيَاءِ في اللغة: الرِّئَاءُ، مَصْدَرُ رَاءَىٰ يُرَائِي. وَالرِّيَاءُ شَرْعًا: أَيْ أَنْ يَقْصِدَ الإِْنْسَانُ بِأَقْوَالِهِ أَوْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ لِيَظُنُّوهُ مُؤْمِنًا، أَوْ يَسْتَحْسِنُوا فِعْلَهُ" وهو يفسد الطاعة ويُحبط الثواب، ويُعد الرياء من أقبح صفات أهل النفاق على الإطلاق، ولذا قال الحق سبحانه وتعالى في وصفهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً}[سُورَةُ النِّسَاءِ :142]
قال الإمام الغزالي رحمه الله: واعلم أن الرياءَ حرام، والمُرائي عند الله ممقوت، وقد شهدت بذلك الآيات والأخبار والآثار، روىٰ شداد بن أوس رضي الله عنه فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي، فقلت: ما يُبكيك يا رسول الله؟ قال:{ إِنِّي تخوفت عَلَى أمتِي الشّرك أما إِنَّهُم لَا يعْبدُونَ صنما وَلَا شمسا وَلَا قمرا وَلَا حجرا وَلَكنهُمْ يراؤوون بأعمالهم(6)}
والرياء كان أخوف على الصالحين من فتنة الدجال..، هل تصدقون ذلك..؟!
لا تعجبوا فقد قال حبيبكم صلوات ربي وسلامه عليه فيما رواه الإمام ابن ماجة:{ أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟ قُلْنَا: بَلَى،فَقَالَ: الشِّرْكُ الْخَفِيُّ،أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلاَتَهُ ،لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ(7)}
ولعظم خفاء الرياء في النفس لا بد لنا أن نضع ضوابط واضحة للرياء، حتى نكون على حذر منه، فالعمل الصالح -وإن كان كثيراً- مع شائبة رياء يُورد صاحبه المهالك، فقد أخبر الله عز وجل عن المنافقين أنهم يصلون وينفقون ويقاتلون، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ أول من تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يوم القيامة ثلاثة(7)، قارئ القرآن،والمجاهد، والمتصدق بماله... الذين لم تكن أعمالهم خالصة لله، وإنما فعلوا ذلك ليقال فلانٌ قارئ، وفلان شجاع، وفلانٌ متصدق" فاتقوا الله واحفظوا أعمالكم من الرياء، فإنه لصٌّ خفيٌّ يسرق الأعمال الصالحة الكثيرة من حيث لا تشعرون.
فاللهم طهّر قلوبنا من النفاق وأعملنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب ، وأعيننا من الخيانة،فإنّك تعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور،اللهم أصلح فساد قلوبنا, اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يقرِّبنا إلى حُبِّك..فما أعظم يا معاشر السادة: خسارةَ من أتعب نفسه في العبادة, فقام وصلى وتصدّق وحج وطلب العلم,ثم لم يرد بذلك كله وجه الله جل جلاله،فما أعظم خسارته،أتعبَ نفسه، وأسخط ربه، وأحبط عملَه.
أيها الأحبة: ما هو ضابط الرياء، أو بعبارة أخرىٰ كيف للإنسان أن يكشف الرياء في عمله؟؟ يُجب عن هذا السؤال الإمام علي كرم الله وجهه فيقول:
"لِلْمُرَائِي أَرْبَعُ عَلَامَاتٍ:1-أن يَكْسَل إِذَا كَانَ وَحْدَهُ،2-وَيَنْشَطَ إِذَا كَانَ مَعَ النَّاسِ،3-وَيَزِيدَ فِي الْعَمَلِ إِذَا أُثْنِيَ عَلَيْهِ،4-وَيَنْقُصُ إِذَا ذُمَّ بِهِ(8)"
تعالوا لنعرض أعمالنا على هذه العلامات، وهاتيك الإشارات، لنحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، ليزن كل منا عمله، وقد قال سيدنا علي: {من كَانَ ظَاهره أرجح من بَاطِنه خف مِيزَانه يَوْم الْقِيَامَة، وَمن كَانَ بَاطِنه أرجح من ظَاهره ثقل مِيزَانه يَوْم الْقِيَامَة (9)}
واسمحوا لي أن أنقل لحضراتكم مشهداً جليلاً من مشاهد الآخرة لنرىٰ حال المرائي بعمله في الآخرة، روىٰ الإمام السمرقندي عن عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارَكِ مرفوعاً إلى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:"إِنَّ الْمَلَائِكَةَ ليَرْفَعُونَ عَمَلَ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ فَيَسْتَكْثِرُونَهُ وَيُزَكُّونَهُ،حَتَّى يَنْتَهُوا بِهِ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ سُلْطَانِهِ فَيُوحِي اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ: أَنَّكُمْ حَفَظَةٌ عَلَى عَمَلِ عَبْدِي وَأَنَا رَقِيبٌ عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ،إِنَّ عَبْدِي هَذَا لَمْ يُخْلِصْ لِي عَمَلَهُ فَاكْتُبُوهُ فِي سِجِّينٍ،-وما أدراك ما سجين:جبٌّ في أسفل جهنم- قال المصطفى: وَيَصْعَدُونَ بِعَمَلِ عَبْدٍ فَيَسْتَقِلُّونَهُ وَيَحْتَقِرُونَهُ حَتَّى يَنْتَهُوا بِهِ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ مِنْ سُلْطَانِهِ،فَيُوَحِيَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَنَّكُمْ حَفَظَةٌ عَلَى عَمَلِ عَبْدِي,وَأَنَا رَقِيبٌ عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ,إِنَّ عَبْدِي هَذَا أَخْلَصَ لِي عَمَلَهُ فَاكْتُبُوهُ فِي عِلِّيِّينَ(10)"
أيها الإخوة الكرام: كم من الناس يضعون القلنسوة البيضاء على رؤوسهم عند البيع والشراء، وقد يكون أحدهم لا يصلي لله ركعة، وربما كان ممن لا يحضر الجمع والجماعة، حتى يطمئن إليه الزبون فيشتري وهو مطمئن..،كم من الناس من يحرصون كلَّ الحرص على الصلاة جهاراً في محالّهم؛ حتى يراهم الناس فيطمئنون إليهم عند شرائهم، وما أكثر صور الرياء وما أخفىٰ صوره عن النفس..، ويرحم الله السلف الصالح فقد ضربوا لنا أروع المثل في الإخلاص ومحاربة أشكال الرياء بكل صوره، فقد نقل الحافظ ابن أبي الدنيا وابن الجوزي في كتابيهما(11)،أنه كان للتابعي حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ الْبَصْرِيّ–رحمه الله تعالى- محلاً للبيع والشراء، وكان قد جعل له ستارة، فإذا أراد الصلاة، يخرج الدَّوَاةَ، وَالقرطاسَ علىٰ الطاولة، ويأمر غلامه أن يقف على الباب ليصلي، ويقول لغلامه: إذا رأيت أحداً قد أقبل تَرىٰ أنه يريدني فأخبرني..، ثم يقوم فيصلي خلف الستار، فإذا جاء رجل أخبره الغلام، فيجلس على الطاولة وكأنه يُسوي الحساب...نعم أيها الأحبة: المخلص من يكتم حسناته على الناس كما يكتم سيئاته، ولذا قال المصطفى محذراً: {مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ طُمِسَ وَجْهُهُ، وَمُحِقَ ذِكْرُهُ، وَأُثْبِتَ اسْمُهُ فِي النَّارِ(12)}
معاشر الأحبة: الشيء الأخير الذي أُريد أن أقوله لحضراتكم، لا يُترك حسن العمل وإتقانه بدعوىٰ الخوف من الرياء، فمن كان يُحسن عمله ويتم عبادته دائماً كأن كان ممن يطيل الصلاة أو الركوع أو السجود في بيته؛ فلا مانع من ذلك في المسجد أو في أي مكان، فهذا لا رياء فيه أبداً..، ولذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا صَلَّى فِي الْعَلاَنِيَةِ، فَأَحْسَنَ، وَصَلَّى فِي السِّرِّ،فَأَحْسَنَ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:هَذَا عَبْدِي حَقًّا(13)} لِأَنَّهُ يُحْسِنُ الصَّلَاةَ إِخْلَاصًا لَا رِيَاءً، وكل عمل صالح لا ينبغي تركه ولو شابه شيء من الرياء أو الخوف منه؛ حتى لا يكون للشيطان علينا سبيل، فإذا شعرت بأن صدقة ما -علىٰ سبيل المثال-،كنت قد اعتدت على إنفاقها وأنت لم ترد بذلك وجه الله فلا تتركها، وعليك بالمجاهدة لتكون خالصة لله...قال الإمام السمرقندي(14):ولذا َيُقَالُ فِي الْمَثَلِ:إِنَّ الدُّنْيَا خَرِبَتْ مُنْذُ مَاتَ الْمُرَاءُونَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْمَلُونَ أَعْمَالَ الْبِرِّ، مِثْلَ الرِّبَاطَاتِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْمَسَاجِدِ، فَكَانَ لِلنَّاسِ فِيهَا مَنْفَعَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ لِلرِّيَاءِ فَرُبَّمَا يَنْفَعُهُ دُعَاءُ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ بَنَىٰ رِبَاطًا وَكَانَ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: لَا أَدْرِي أَكَانَ عَمَلِي هَذَا للَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا، فَأَتَاهُ آتٍ فِي مَنَامِهِ فَقَالَ لَهُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ عَمَلُكَ لِلَّهِ تَعَالَىٰ فَدُعَاءُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَ لَكَ فَهُوَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَسُرَّ بِذَلِكَ...
أيها الأحبة: بساط الوقت ينسحب سريعاً من تحتي قدمي...، أكتفي بهذا القدر..، وأذكركم أخيراً بعلامات المرائي حتىٰ نكون على حذر، ونجعل من هذه العلامات ميزاناً دقيقاً لأعمالنا، إنَّ المرائي ليَكْسَلُ إِذَا كَانَ وَحْدَهُ، وَيَنْشَطُ إِذَا كَانَ مَعَ النَّاسِ، وَيَزِيدُ فِي الْعَمَلِ إِذَا أُثْنِيَ عَلَيْهِ، وَيَنْقُصُ منه إِذَا ذُمَّ بِهِ(15).
أسأل الله العلي الأعلىٰ أن يجعلنا من عباده الذين إذا استمعوا اتبعوا فانتفعوا وارتفعوا...،إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير...
تمت بحمد الله وتوفيقه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تخريج وضبط الخطبة
(1)حديث: الْإِخْلَاصُ سِرٌّ من سِرِّي اسْتودَعْتهُ.........
قال القرطبي: ذكر أبو القاسم القشيري وغيره عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وذكره الغزالي في إحياء علوم الدين. وخرجه أبو الفضل العراقي في المغني عن حمل الأسفار
الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي 2/ 146 .آية رقم ( ) . تحقيق : أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش . الناشر : دار الكتب المصرية – القاهرة- الطبعة : الثانية ، 1384هـ - 1964 م عدد الأجزاء : 20 جزءا (في 10 مجلدات)
(2) أثر: لا يعلمه ملكٌ فيكتبه, ولا شيطان فيفسده..
من قول الإمام الجنيد.. ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن
المرجع السابق..
(3)حديث:إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَصَابَهُ السَّقَمُ ثُمَّ أَعْفَاهُ اللَّهُ مِنْهُ....
أَخرجه أبو داود في الجنائز ، باب الأمراض المكفرة للذنوب، وفي إسناده راو لم يسم..، وأخرجه أيضًا : البيهقي في شعب الإيمان
سنن أبي داود 2/199 .برقم (3089) . تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد . الناشر : دار الفكر
(4)حديث: ومَثَلُ الْمنافِقِ الَّذِي يقرأُ القرآنَ مَثلُ الرَّيْحانَةِ....
أَخرجه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي من حديث أبو موسى الأشعري...
جامع الأصول في أحاديث الرسول لأبي السعادات ابن الأثير 2/ 453 برقم:( 907)
تحقيق : عبد القادر الأرنؤوط - التتمة تحقيق بشير عيون .الناشر : مكتبة الحلواني - مطبعة الملاح - مكتبة دار البيان .الطبعة : الأولى
(5) أثر: الإخلاص أن تستوي أفعال العبد في.......
من قول حذيفة المرعشي ........... كذا قال القشيري
الرسالة القشيرية 1/95 باب الإخلاص
(6) قول الغزالي.... إحياء علوم الدين 3/293
والحديث ذكره الغزالي في الإحياء..وعزاه العراقي إلى ابْن مَاجَه وَالْحَاكِم نَحوه..
قول الغزالي.... إحياء علوم الدين 3/293
(7)حديث:أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي...
سنن ابن ماجه 2/ 1406 .برقم (4204) . تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي . الناشر : دار الفكر – بيروت-
(7)حديث:أول من تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يوم القيامة.......
أصل الحديث في سنن الترمذي برقم: 2382
(8) أثر: قول علي :لِلْمُرَائِي أَرْبَعُ عَلَامَاتٍ:أن يَكْسَل إِذَا كَانَ..
تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين للسمرقندي ص:30 .حققه وعلق عليه: يوسف علي بديوي .الناشر: دار ابن كثير، دمشق – بيروت الطبعة: الثالثة، 1421 هـ - 2000 م
(9) من كَانَ ظَاهره أرجح من بَاطِنه.....
أخرجه ابْن أبي الدُّنْيَا فِي كتاب الإِخلاص عَن عَليّ بن أبي طَالب كما نقل الحافظ السيوطي في "الدر المنثور 3/419"
(10)حديث:إِنَّ الْمَلَائِكَةَ ليَرْفَعُونَ عَمَلَ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ فَيَسْتَكْثِرُونَهُ وَيُزَكُّونَهُ.......
تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين للسمرقندي ص:27.حققه وعلق عليه: يوسف علي بديوي .الناشر: دار ابن كثير، دمشق – بيروت الطبعة: الثالثة، 1421 هـ - 2000 م
(11) قصة: حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ الْبَصْرِيُّ...........
الإخلاص والنية لابن أبي الدنيا ص:66 برقم:47. ،وصفة الصفوة2/201 ،ذكرها في تراجم الطبقة الرابعة. المحقق: أحمد بن علي .الناشر: دار الحديث، القاهرة، مصر الطبعة: 1421هـ/2000م
(12)حديث: مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ طُمِسَ وَجْهُهُ....
قال الهيثمي: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ مَنْ لَمْ أَعْرِفْهُمْ.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 10/ 220. برقم(17647)المحقق: حسام الدين القدسي .الناشر: مكتبة القدسي، القاهرة .عام النشر: 1414 هـ، 1994 م
(13)حديث: إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا صَلَّى فِي الْعَلاَنِيَةِ ، فَأَحْسَنَ ،....
سنن ابن ماجه 2/ 1405 .برقم (4200) . تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي . الناشر : دار الفكر – بيروت-
(14) تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين للسمرقندي ص:34 .حققه وعلق عليه: يوسف علي بديوي .الناشر: دار ابن كثير، دمشق – بيروت الطبعة: الثالثة، 1421 هـ - 2000 م
(15) ألقيت هذه الخطبة في مسجد سيدنا أبي أيوب الأنصاري، ثم ألقيت هذه الخطبة في مسجد سيدنا حمزة بن عبد المطلب –رضي الله عنه- سوريا –دمشق-11/شوال/1432هـ الموافق لـ 9/9/2011م، ثم ألقيت في مسجد السيدة صفية أم المؤمنين في عمَّان الأردن عام /24/صفر1435هـ2014الموافق لـ 27/12/2013م ، ثم ألقيت في مسجد بلال بن رباح في عمَّان الأردن 30/5/2014م الموافق ل1/شعبان/1435هـ، ثم ألقيت في مسجد عباد الرحمن في عمَّان 31/7/2015م، ثم ألقيت في مسجد البراء بن عازب في عمَّان الأردن 11/12/2015م الموافق لـ 29/ صفر 2/ 1437هـ.
المؤلف: محمد مهدي قشلان
نبذة عن الكتاب: لعل أكثر ما يشغل قلب المؤمن عمله الصالح هل هو مقبول عند الله.. أم لا ؟! ففي هذه الخطبة إجابة شافية عن هذا السؤال الدقيق وغيره...
مكان وتاريخ إلقاء هذه الخطبة:
ألقيت هذه الخطبة في مسجد سيدنا حمزة بن عبد المطلب –رضي الله عنه- سوريا –دمشق-11/شوال/1432هـ الموافق لـ 9/9/2011م، ثم ألقيت في مسجد السيدة صفية أم المؤمنين في عمَّان الأردن عام /24/صفر1435هـ2014الموافق لـ 27/12/2013م ، ثم ألقيت في مسجد بلال بن رباح في عمَّان الأردن 30/5/2014م الموافق ل1/شعبان/1435هـ، ثم ألقيت في مسجد عباد الرحمن في عمَّان 31/7/2015م، ثم ألقيت في مسجد البراء بن عازب في عمَّان الأردن 11/12/2015م الموافق لـ 29/ صفر 2/ 1437هـ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا...
وأشهد أن لا إله إلا الله: هو صاحب العزة القائمة،والمملكة الدائمة، ذو المُلك والملكوت، والعزة والجبروت، يحب من عباده المخلصين، ويبغض منهم المنافقين والمرائين والمخذلين اسمع إليه وهو يقول في الحديث القدسي الجليل: {الْإِخْلَاصُ سِرٌّ من سِرِّي اسْتودَعْتهُ قلبَ مَنْ أحْبَبْتهُ مِنْ عِبَادي(1)}.لا يعلمه ملكٌ فيكتبه, ولاشيطان فيفسده، ولا هوى فيميله(2).
يارب: اللهم اجعلنا من المخلصين لدينك الناصرين لشريعتك،اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا، والصدق في أعمالنا،واليقين في أحوالنا،اللهم باعد بيننا وبين الرياء والنفاق كما باعدت بين المشرق والمغرب يا أرحم الراحمين!....إلهي:
رضاك خير من الدنيا وما فيها ... يا مالك النفس قاصيها ودانيها
ونظرة منك يا سؤلي ويا أملي ... أشهىٰ إلي من الدنيا وما فيهـا
وليس للنفس آمال تؤملها ..... سوىٰ رضاك فذا أقصى أمانيهـا
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله:كان يجلس بين كوكبة من أصحابه الكرام،وهم يحيطون به إحاطة السوار للمعصم
أو إحاطة الشُهبِ بِالبَدرِ أَو الجُندِ بِالعَلَمِ،فقال لهم:{إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَصَابَهُ السَّقَمُ ثُمَّ أَعْفَاهُ اللَّهُ مِنْهُ كَانَ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ،
وَمَوْعِظَةً لَهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ،وَإِنَّ الْمُنَافِقَ إِذَا مَرِضَ ثُمَّ أُعْفِىَ كَانَ كَالْبَعِيرِ عَقَلَهُ أَهْلُهُ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ،فَلَمْ يَدْرِ لِمَ عَقَلُوهُ وَلَمْ يَدْرِ لِمَ أَرْسَلُوهُ (3)}
سيدي أبا القاسم يا رسول الله:
ضمَّ الإلهُ اسمَ النبيّ إلى اسمهِ إذا قَالَ في الخَمْسِ المُؤذِّنُ أشْهَدُ
وشقّ لهُ منِ اسمهِ ليجلـه فذو العرشِ محمودٌ، وهذا محمدُ
أما بعد فيا أحباب رسول الله:
أرأيتم الحنظلة كيف تبدو من بعيد وكأنها فاكهة مستظرفة مستطرفة،يغتر الناظر بمنظرها ويعجب بلونها، فإذا ما أمسكها وعركها وجد المر والعلقم فيها،هذا مثال صارخ يا عباد الله للأعمال الصالحة التي يعملها العبد، وقد شابها كثير من الرياء والنفاق...، وما أروع تشبيه الحبيب المصطفى للمنافق والمرائي بقوله:{مَثَلُ الْمنافِقِ الَّذِي يقرأُ القرآنَ مَثلُ الرَّيْحانَةِ،ريحها طيب،وطعمها مُرٌّ،ومَثَلُ المنافِقِ الذي لا يقرأُ القرآن كمثَل الْحَنْظَلةِ،لا ريحَ لها،وطعمها مُرٌّ(4)}
أيها السادة الأعزاء:
لم أزل مع حضراتكم أعيش بين نور الإخلاص ونيران الرياء،وقد عرفنا الإخلاص وقلنا هو باختصار"أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن(5)" ثم ذكرنا بعد ذلك دلالات وعلامات للإخلاص كما ذكر أطباء القلوب، ومن أبرز هذه العلامات علامتين اثنتين: 1-استواء المدح والذم من العامّة، 2-أن يكتم العبد حسناته،كما يكتم سيئاته،وسمعنا كيف كان أمير المؤمنين عمر يخدم امرأة عمياء مقعدة لم يدر بذلك أحد إلا الله، ورأينا كيف كان علي بن الحسين -زين العابدين-إذا جنَّ الليل وأرخى على الكون عباءته السوداء تلثم ثم تصدق بما يحمل على ظهره، دون أن يعلم بذلك أحد إلا الله...ووصل بنا الحديث عن الرياء..، فأعيروني أسماعكم لأن الرياء بلا شك من أشد الأبواب خفاءً, حتى قيل إنه:"أخفى من دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصَّماء، في الليلة الظلماء" وأَصْل الرِّيَاءِ في اللغة: الرِّئَاءُ، مَصْدَرُ رَاءَىٰ يُرَائِي. وَالرِّيَاءُ شَرْعًا: أَيْ أَنْ يَقْصِدَ الإِْنْسَانُ بِأَقْوَالِهِ أَوْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ لِيَظُنُّوهُ مُؤْمِنًا، أَوْ يَسْتَحْسِنُوا فِعْلَهُ" وهو يفسد الطاعة ويُحبط الثواب، ويُعد الرياء من أقبح صفات أهل النفاق على الإطلاق، ولذا قال الحق سبحانه وتعالى في وصفهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً}[سُورَةُ النِّسَاءِ :142]
قال الإمام الغزالي رحمه الله: واعلم أن الرياءَ حرام، والمُرائي عند الله ممقوت، وقد شهدت بذلك الآيات والأخبار والآثار، روىٰ شداد بن أوس رضي الله عنه فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي، فقلت: ما يُبكيك يا رسول الله؟ قال:{ إِنِّي تخوفت عَلَى أمتِي الشّرك أما إِنَّهُم لَا يعْبدُونَ صنما وَلَا شمسا وَلَا قمرا وَلَا حجرا وَلَكنهُمْ يراؤوون بأعمالهم(6)}
والرياء كان أخوف على الصالحين من فتنة الدجال..، هل تصدقون ذلك..؟!
لا تعجبوا فقد قال حبيبكم صلوات ربي وسلامه عليه فيما رواه الإمام ابن ماجة:{ أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟ قُلْنَا: بَلَى،فَقَالَ: الشِّرْكُ الْخَفِيُّ،أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلاَتَهُ ،لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ(7)}
ولعظم خفاء الرياء في النفس لا بد لنا أن نضع ضوابط واضحة للرياء، حتى نكون على حذر منه، فالعمل الصالح -وإن كان كثيراً- مع شائبة رياء يُورد صاحبه المهالك، فقد أخبر الله عز وجل عن المنافقين أنهم يصلون وينفقون ويقاتلون، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ أول من تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يوم القيامة ثلاثة(7)، قارئ القرآن،والمجاهد، والمتصدق بماله... الذين لم تكن أعمالهم خالصة لله، وإنما فعلوا ذلك ليقال فلانٌ قارئ، وفلان شجاع، وفلانٌ متصدق" فاتقوا الله واحفظوا أعمالكم من الرياء، فإنه لصٌّ خفيٌّ يسرق الأعمال الصالحة الكثيرة من حيث لا تشعرون.
فاللهم طهّر قلوبنا من النفاق وأعملنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب ، وأعيننا من الخيانة،فإنّك تعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور،اللهم أصلح فساد قلوبنا, اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يقرِّبنا إلى حُبِّك..فما أعظم يا معاشر السادة: خسارةَ من أتعب نفسه في العبادة, فقام وصلى وتصدّق وحج وطلب العلم,ثم لم يرد بذلك كله وجه الله جل جلاله،فما أعظم خسارته،أتعبَ نفسه، وأسخط ربه، وأحبط عملَه.
أيها الأحبة: ما هو ضابط الرياء، أو بعبارة أخرىٰ كيف للإنسان أن يكشف الرياء في عمله؟؟ يُجب عن هذا السؤال الإمام علي كرم الله وجهه فيقول:
"لِلْمُرَائِي أَرْبَعُ عَلَامَاتٍ:1-أن يَكْسَل إِذَا كَانَ وَحْدَهُ،2-وَيَنْشَطَ إِذَا كَانَ مَعَ النَّاسِ،3-وَيَزِيدَ فِي الْعَمَلِ إِذَا أُثْنِيَ عَلَيْهِ،4-وَيَنْقُصُ إِذَا ذُمَّ بِهِ(8)"
تعالوا لنعرض أعمالنا على هذه العلامات، وهاتيك الإشارات، لنحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، ليزن كل منا عمله، وقد قال سيدنا علي: {من كَانَ ظَاهره أرجح من بَاطِنه خف مِيزَانه يَوْم الْقِيَامَة، وَمن كَانَ بَاطِنه أرجح من ظَاهره ثقل مِيزَانه يَوْم الْقِيَامَة (9)}
واسمحوا لي أن أنقل لحضراتكم مشهداً جليلاً من مشاهد الآخرة لنرىٰ حال المرائي بعمله في الآخرة، روىٰ الإمام السمرقندي عن عَبْد اللَّهِ بْن الْمُبَارَكِ مرفوعاً إلى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:"إِنَّ الْمَلَائِكَةَ ليَرْفَعُونَ عَمَلَ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ فَيَسْتَكْثِرُونَهُ وَيُزَكُّونَهُ،حَتَّى يَنْتَهُوا بِهِ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ سُلْطَانِهِ فَيُوحِي اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ: أَنَّكُمْ حَفَظَةٌ عَلَى عَمَلِ عَبْدِي وَأَنَا رَقِيبٌ عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ،إِنَّ عَبْدِي هَذَا لَمْ يُخْلِصْ لِي عَمَلَهُ فَاكْتُبُوهُ فِي سِجِّينٍ،-وما أدراك ما سجين:جبٌّ في أسفل جهنم- قال المصطفى: وَيَصْعَدُونَ بِعَمَلِ عَبْدٍ فَيَسْتَقِلُّونَهُ وَيَحْتَقِرُونَهُ حَتَّى يَنْتَهُوا بِهِ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ مِنْ سُلْطَانِهِ،فَيُوَحِيَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَنَّكُمْ حَفَظَةٌ عَلَى عَمَلِ عَبْدِي,وَأَنَا رَقِيبٌ عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ,إِنَّ عَبْدِي هَذَا أَخْلَصَ لِي عَمَلَهُ فَاكْتُبُوهُ فِي عِلِّيِّينَ(10)"
أيها الإخوة الكرام: كم من الناس يضعون القلنسوة البيضاء على رؤوسهم عند البيع والشراء، وقد يكون أحدهم لا يصلي لله ركعة، وربما كان ممن لا يحضر الجمع والجماعة، حتى يطمئن إليه الزبون فيشتري وهو مطمئن..،كم من الناس من يحرصون كلَّ الحرص على الصلاة جهاراً في محالّهم؛ حتى يراهم الناس فيطمئنون إليهم عند شرائهم، وما أكثر صور الرياء وما أخفىٰ صوره عن النفس..، ويرحم الله السلف الصالح فقد ضربوا لنا أروع المثل في الإخلاص ومحاربة أشكال الرياء بكل صوره، فقد نقل الحافظ ابن أبي الدنيا وابن الجوزي في كتابيهما(11)،أنه كان للتابعي حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ الْبَصْرِيّ–رحمه الله تعالى- محلاً للبيع والشراء، وكان قد جعل له ستارة، فإذا أراد الصلاة، يخرج الدَّوَاةَ، وَالقرطاسَ علىٰ الطاولة، ويأمر غلامه أن يقف على الباب ليصلي، ويقول لغلامه: إذا رأيت أحداً قد أقبل تَرىٰ أنه يريدني فأخبرني..، ثم يقوم فيصلي خلف الستار، فإذا جاء رجل أخبره الغلام، فيجلس على الطاولة وكأنه يُسوي الحساب...نعم أيها الأحبة: المخلص من يكتم حسناته على الناس كما يكتم سيئاته، ولذا قال المصطفى محذراً: {مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ طُمِسَ وَجْهُهُ، وَمُحِقَ ذِكْرُهُ، وَأُثْبِتَ اسْمُهُ فِي النَّارِ(12)}
معاشر الأحبة: الشيء الأخير الذي أُريد أن أقوله لحضراتكم، لا يُترك حسن العمل وإتقانه بدعوىٰ الخوف من الرياء، فمن كان يُحسن عمله ويتم عبادته دائماً كأن كان ممن يطيل الصلاة أو الركوع أو السجود في بيته؛ فلا مانع من ذلك في المسجد أو في أي مكان، فهذا لا رياء فيه أبداً..، ولذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا صَلَّى فِي الْعَلاَنِيَةِ، فَأَحْسَنَ، وَصَلَّى فِي السِّرِّ،فَأَحْسَنَ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:هَذَا عَبْدِي حَقًّا(13)} لِأَنَّهُ يُحْسِنُ الصَّلَاةَ إِخْلَاصًا لَا رِيَاءً، وكل عمل صالح لا ينبغي تركه ولو شابه شيء من الرياء أو الخوف منه؛ حتى لا يكون للشيطان علينا سبيل، فإذا شعرت بأن صدقة ما -علىٰ سبيل المثال-،كنت قد اعتدت على إنفاقها وأنت لم ترد بذلك وجه الله فلا تتركها، وعليك بالمجاهدة لتكون خالصة لله...قال الإمام السمرقندي(14):ولذا َيُقَالُ فِي الْمَثَلِ:إِنَّ الدُّنْيَا خَرِبَتْ مُنْذُ مَاتَ الْمُرَاءُونَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْمَلُونَ أَعْمَالَ الْبِرِّ، مِثْلَ الرِّبَاطَاتِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْمَسَاجِدِ، فَكَانَ لِلنَّاسِ فِيهَا مَنْفَعَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ لِلرِّيَاءِ فَرُبَّمَا يَنْفَعُهُ دُعَاءُ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ بَنَىٰ رِبَاطًا وَكَانَ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: لَا أَدْرِي أَكَانَ عَمَلِي هَذَا للَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا، فَأَتَاهُ آتٍ فِي مَنَامِهِ فَقَالَ لَهُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ عَمَلُكَ لِلَّهِ تَعَالَىٰ فَدُعَاءُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَ لَكَ فَهُوَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَسُرَّ بِذَلِكَ...
أيها الأحبة: بساط الوقت ينسحب سريعاً من تحتي قدمي...، أكتفي بهذا القدر..، وأذكركم أخيراً بعلامات المرائي حتىٰ نكون على حذر، ونجعل من هذه العلامات ميزاناً دقيقاً لأعمالنا، إنَّ المرائي ليَكْسَلُ إِذَا كَانَ وَحْدَهُ، وَيَنْشَطُ إِذَا كَانَ مَعَ النَّاسِ، وَيَزِيدُ فِي الْعَمَلِ إِذَا أُثْنِيَ عَلَيْهِ، وَيَنْقُصُ منه إِذَا ذُمَّ بِهِ(15).
أسأل الله العلي الأعلىٰ أن يجعلنا من عباده الذين إذا استمعوا اتبعوا فانتفعوا وارتفعوا...،إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير...
تمت بحمد الله وتوفيقه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تخريج وضبط الخطبة
(1)حديث: الْإِخْلَاصُ سِرٌّ من سِرِّي اسْتودَعْتهُ.........
قال القرطبي: ذكر أبو القاسم القشيري وغيره عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وذكره الغزالي في إحياء علوم الدين. وخرجه أبو الفضل العراقي في المغني عن حمل الأسفار
الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي 2/ 146 .آية رقم ( ) . تحقيق : أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش . الناشر : دار الكتب المصرية – القاهرة- الطبعة : الثانية ، 1384هـ - 1964 م عدد الأجزاء : 20 جزءا (في 10 مجلدات)
(2) أثر: لا يعلمه ملكٌ فيكتبه, ولا شيطان فيفسده..
من قول الإمام الجنيد.. ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن
المرجع السابق..
(3)حديث:إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَصَابَهُ السَّقَمُ ثُمَّ أَعْفَاهُ اللَّهُ مِنْهُ....
أَخرجه أبو داود في الجنائز ، باب الأمراض المكفرة للذنوب، وفي إسناده راو لم يسم..، وأخرجه أيضًا : البيهقي في شعب الإيمان
سنن أبي داود 2/199 .برقم (3089) . تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد . الناشر : دار الفكر
(4)حديث: ومَثَلُ الْمنافِقِ الَّذِي يقرأُ القرآنَ مَثلُ الرَّيْحانَةِ....
أَخرجه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي من حديث أبو موسى الأشعري...
جامع الأصول في أحاديث الرسول لأبي السعادات ابن الأثير 2/ 453 برقم:( 907)
تحقيق : عبد القادر الأرنؤوط - التتمة تحقيق بشير عيون .الناشر : مكتبة الحلواني - مطبعة الملاح - مكتبة دار البيان .الطبعة : الأولى
(5) أثر: الإخلاص أن تستوي أفعال العبد في.......
من قول حذيفة المرعشي ........... كذا قال القشيري
الرسالة القشيرية 1/95 باب الإخلاص
(6) قول الغزالي.... إحياء علوم الدين 3/293
والحديث ذكره الغزالي في الإحياء..وعزاه العراقي إلى ابْن مَاجَه وَالْحَاكِم نَحوه..
قول الغزالي.... إحياء علوم الدين 3/293
(7)حديث:أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي...
سنن ابن ماجه 2/ 1406 .برقم (4204) . تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي . الناشر : دار الفكر – بيروت-
(7)حديث:أول من تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يوم القيامة.......
أصل الحديث في سنن الترمذي برقم: 2382
(8) أثر: قول علي :لِلْمُرَائِي أَرْبَعُ عَلَامَاتٍ:أن يَكْسَل إِذَا كَانَ..
تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين للسمرقندي ص:30 .حققه وعلق عليه: يوسف علي بديوي .الناشر: دار ابن كثير، دمشق – بيروت الطبعة: الثالثة، 1421 هـ - 2000 م
(9) من كَانَ ظَاهره أرجح من بَاطِنه.....
أخرجه ابْن أبي الدُّنْيَا فِي كتاب الإِخلاص عَن عَليّ بن أبي طَالب كما نقل الحافظ السيوطي في "الدر المنثور 3/419"
(10)حديث:إِنَّ الْمَلَائِكَةَ ليَرْفَعُونَ عَمَلَ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ فَيَسْتَكْثِرُونَهُ وَيُزَكُّونَهُ.......
تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين للسمرقندي ص:27.حققه وعلق عليه: يوسف علي بديوي .الناشر: دار ابن كثير، دمشق – بيروت الطبعة: الثالثة، 1421 هـ - 2000 م
(11) قصة: حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ الْبَصْرِيُّ...........
الإخلاص والنية لابن أبي الدنيا ص:66 برقم:47. ،وصفة الصفوة2/201 ،ذكرها في تراجم الطبقة الرابعة. المحقق: أحمد بن علي .الناشر: دار الحديث، القاهرة، مصر الطبعة: 1421هـ/2000م
(12)حديث: مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ طُمِسَ وَجْهُهُ....
قال الهيثمي: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ مَنْ لَمْ أَعْرِفْهُمْ.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 10/ 220. برقم(17647)المحقق: حسام الدين القدسي .الناشر: مكتبة القدسي، القاهرة .عام النشر: 1414 هـ، 1994 م
(13)حديث: إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا صَلَّى فِي الْعَلاَنِيَةِ ، فَأَحْسَنَ ،....
سنن ابن ماجه 2/ 1405 .برقم (4200) . تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي . الناشر : دار الفكر – بيروت-
(14) تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين للسمرقندي ص:34 .حققه وعلق عليه: يوسف علي بديوي .الناشر: دار ابن كثير، دمشق – بيروت الطبعة: الثالثة، 1421 هـ - 2000 م
(15) ألقيت هذه الخطبة في مسجد سيدنا أبي أيوب الأنصاري، ثم ألقيت هذه الخطبة في مسجد سيدنا حمزة بن عبد المطلب –رضي الله عنه- سوريا –دمشق-11/شوال/1432هـ الموافق لـ 9/9/2011م، ثم ألقيت في مسجد السيدة صفية أم المؤمنين في عمَّان الأردن عام /24/صفر1435هـ2014الموافق لـ 27/12/2013م ، ثم ألقيت في مسجد بلال بن رباح في عمَّان الأردن 30/5/2014م الموافق ل1/شعبان/1435هـ، ثم ألقيت في مسجد عباد الرحمن في عمَّان 31/7/2015م، ثم ألقيت في مسجد البراء بن عازب في عمَّان الأردن 11/12/2015م الموافق لـ 29/ صفر 2/ 1437هـ.
زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية
مرحبا بالشيخ الفاضل محمد مهدي بن نذير قشلان وحياكم الله وسلمكم
أين هذه الخطبة وددنا لو نسختموها ولصقتموها على الصفحة للاستفادة منها.
تعديل التعليق