الرقية والرقاة، بين الغلاة والجفاة - أ. شريف عبد العزيز - عضو الفريق العلمي
الفريق العلمي
حفظ النفس من أهم الضرورات الشرعية اللازمة، لذلك اقتضى الشرع الحكيم اتباع مختلف الأسباب التي تؤدي لهذا الحفظ؛ فالنفس في مراحلها تواجه الكثير من العوارض المرضية التي تتولد من الطعام والشراب، أو من البيئة، أو من العلل المصاحبة لوجودها. وهذه العوارض والعلل تتنوع شدة وضعفاً، وقد قدّر الله للإنسان أجله؛ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)[الأعراف:34].
والعمل الصالح في إطلاقه يقتضي ما فيه نفع الإنسان في دينه ودنياه؛ ومداواته نفسه من الأمراض والعلل يعد إصلاحاً وقواماً لها في أمور الدين والدنيا معاً؛ فالمريض لا يقدر على كسب رزقه ومن يعول، والمريض لا يؤدي واجباته الدينية، والمريض لا يرد عن نفسه أو ماله أو عرضه كيد معتدي، وهذه المداواة من الواجبات ومن المقاصد الشرعية؛ لأن الإنسان ملزم بحفظ نفسه، ومن حفظها مداواتها عندما تتعرض لعارض أو علة.
والأصل في التداوي الكتاب، والسنة، والمعقول؛ قال الإمام الحافظ ابن حجر ومن قبله الإمام ابن القيم بأن مدار الطب على ثلاثة أشياء: "حفظ الصحة، والاحتماء عن المؤذي، واستفراغ المادة الفاسدة، والثلاثة في كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد حث رسول الله على التداوي من الأمراض والعلل؛ حيث روى جابر بن عبد الله مرفوعاً: "لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله -عز وجل-".
وروى أبو هريرة أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء"، وفي حديث ابن مسعود مرفوعاً: "إن الله -عز وجل- لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله ".
وفي حديث أسامة بن شريك أنه بينما كان عند النبي جاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله، أنتداوى؟ فقال: " نعم: يا عباد الله تداووا؛ فإن الله -عز وجل- لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد" قالوا: وما هو؟ قال: " الهرم ".
وفي حديث أبي خزامة: قلت: يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئاً ؟ قال: "هي من قدر الله".
ومن أهم أنواع الأدوية التي لفت الشرع المطهر لها الانتباه ؛ التداوي بالرقى الشرعية والثابتة في صحيح السنة وفعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصحب الكرام والقرون الفاضلة وبإجماع أهل العلم والتي تواترت عبر القرون حتى وقتنا الحالي بلا جحود أو نكران -إلا ما كان من بعض الفئات المحسوبة على الإسلام والكارهة له في نفس الوقت كما سنبين لاحقاً- حتى تبوأت موضعها في فصول الشرع تحت باب المستحبات والمندوبات وربما القربات والطاعات.
والرقية الشرعية هي علاج المريض بشتى أنواع الأمراض الجسدية والنفسية بآيات القرآن الكريم والأدعية الواردة في صحيح السنة النبوية، وعرّفها الفقهاء بقولهم: "ما يرقى به من الآيات والأدعية لطلب الشفاء".
وقال ابن التين: "الرقَى بالمعوذات وغيرها من أسماء الله -تعالى- الحسنة هو الطّب الروحاني، إذا كان على لسان الأبرار من الخلق، حصل الشفاء بإذن الله -تعالى-، ولما عزّ هذا النوع فزع الناس إلى الطب الجسماني".
وهذا النوع من العلاج كان موجوداً قبل الإسلام في الأمم السابقة، فعن عمرة بنت عبد الرحمن؛: " أن أبا بكر الصديق دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودية ترقيها، فقال أبو بكر: "ارقيها بكتاب الله"، وعن ابن عباس أن ضماداً قدم مكة، وكان من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الريح أراد أن يرقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما سمع مشركي مكة يرمونه بالجنون.
وقد ثبت في الصحيح أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- رقى نفسه، ورقى غيره، ورقى الكبار والصغار، وأمر بالرقية من النظرة والعين والحسد، والوجع والصداع والوهن ومن لدغ العقارب والحيات، وأقر غيره على فعل الرقية، وأخذ الأجر عليها، كما ثبت في الصحيح أن جبريل عليه السلام رقى رسول الله، وكلها آثار بفضل الله في الصحاح بمتون وأسانيد ذهبية، صحيحة صريحة كالشمس الساطعة في رابعة النهار.
والرقى الشرعية منها؛ ما يُدفع بها البلاء قبل وقوعه، ومنها ما يكون لرفع البلاء بعد وقوع؛ ولأهمية الرقية الشرعية في حياة المجتمعات المسلمة؛ فقد وضع الشرع الضوابط الحاكمة للرقية الشرعية وعمل الرقاة حتى لا تتحول القربى والسنة المستحبة إلى أحبولة من حبائل الشيطان يوقع فيها الكثيرين في المنكرات والمحرمات وربما الكبائر والشركيات.
فالرقية لابد ن تكون موافقة لكتاب الله -تعالى- أو لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بمعنى ألا تعارض أي أصل من أصول التضرع والتوسل والدعاء في استجلاب الخير والشفاء والعافية، أو دفع الضرر والبلاء بأن تكون بشيء من كتاب الله -تعالى- أو سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما يستشفى به ويتعوذ به ويرقى به على وجه الخصوص؛ كقراءة بعض الآيات أو السور، أو بشيء من أسماء الله وصفاته، أو بذكر ودعاء ورد في الكتاب والسنة في مثل هذه الأحوال.
وقد سئل الإمام الشافعي -رحمه الله- عن الرقى فقال: "لا بأس أن يُرقى بكتاب الله وما يُعرف من ذكر الله"، ويستفاد هذا أيضاً من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك ". فالأصل مجانبة الرقية للشرك ووسائله، ثم المحرمات من الأقوال والأفعال التي يطلبها الراقي من المسترقي، ولا تكون بعبارات محرمة كالسب والشتم واللعن فضلاً عن استعمال أمور تخالف العقل والشرع معاً مما هو شائع عند الناس مثل: التمائم والخرزات وبعض النجاسات كالبول والدماء أو المواد المؤذية أو الحارقة بدعوى حرق الشيطان أو الجآن، أو غير ذلك من أنواع الخرافات وترهات الجاهلية، مما لا يعرف له أصل في الشرع، ولم يثبت نفعه عند أهل العقل والعلم.
وكذلك يجب مراعاة مجانبة الرقية وبراءتها من السحر الذي هو الاستعانة بالجن والشياطين بعد التقرب إليها بما يغضب الله -تعالى-، أو تكون من كاهن أو عراف للحديث: "من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد" كالرقى المشتملة على العقد والنفث فيها، والعزائم، والطلاسم، والحروف المقطعة، والأسماء الغريبة التي يزعمون أنها أسماء ملوك الجان وزعماء قبائلهم، أو أسماء بعض الكواكب ومنازل النجوم المزعومة المرتبطة بمردة الجن، التي عن طريقها يكون التأثير من محبة أو كره وبغض وافتراق وغيره، أو ربما ظهور بعض الخوارق، أو جلب لبعض المنافع.
-أيضا- الراقي لابد أن يكون مسلماً تقياً ورعاً عالماً خبيراً، مراعياً آداب التوكل، جامعاً بين بذل الأسباب وعدم الاعتماد عليها وبين تعلق القلب في حصول نتائج الأسباب على الله -تعالى- متوكلاً عليه.
وإن بلاء الأمة المحمدية عبر التاريخ يكمن في سوء فهم التنزيل ونصوص الوحي، ومن ثم سوء التطبيق الذي هو فرع لازم لسوء الفهم؛ فالتنزيل كان وما زال غضاً طرياً محفوظاً من كل تحريف وتبديل وزيادة ونقصان؛ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر:9].
وإن الناظر في حال الأمة عبر تاريخها يرى بوضوح وجلاء أن منشأ كل مخالفة وبدعة ظهرت في الأمة وفشت فيها؛ قد انطلقت من أصل شرعي واجب أو مستحب، ثم تعتريها الشوائب مما تستحسنه العقول والأهواء من أفعال وإضافات وكيفيات وهيئات تدور بين الإفراط والتفريط في الأمر العتيق؛ فتلتبس تلك الأصول بالمحدثات وما لم يثبت في أفعال وأحوال الصدر الأول من هذه الأمة، ثم تبدأ مسيرة البعد عن الحق ومجانبة أهله، ويختلط الحق بالباطل، وتلتبس الأمور على الخلق والعباد، فيتعذر التمييز بين السنة والبدعة.
وإن حال الرقية والرقاة كحال بقية أبواب الدين والإيمان، مما فارق فيه كثير من الناس الحق الذي جاء في كتاب الله وسنة رسوله، واتبعوا غير سبيل المؤمنين من الصحابة ومن تبعهم بإحسان في تحقيقه وتطبيقه، فتنكبوا عن الصراط، وابتعدوا عن نور الوحي وأسباب العصمة حتى تحكمت فيهم الأهواء وابتدعوا ولم يتبعوا، بل إن الأمر في الرقى والرقاة ربما يزيد في ذلك على غيره من أبواب الدين والإيمان، لما فيه من ألوان الفتن، والمكاسب العاجلة، وحظوظ النفس مع ما يكون فيه المرء من حال الضعف زمن المرض والبلاء مما يحمله على التعلق بكل ما يظنه أو يوصف له بأنه الشفاء ورفع البلاء، وقد يكون فيه العطب والهلاك في الدنيا والآخرة.
أما الغلاة فقد برزوا بشدة في السنوات الأخيرة وتمثل الغلو في أمر الرقية في فتح عيادات ودور للرقية بصورة محمومة تصدى لها العالم والجاهل، والزاهد والجاحد، والمخلص وطالب الدنيا، بل وفضائيات وقنوات كاملة لذات الموضوع، وتخصيص أوقات ومواعيد، وتزدحم جماعات المرضى الباحثين عن الشفاء بالسبل الشرعية بعد أن أعيتهم السبل الأخرى، وأغرتهم الدعايات الباطلة على تلك العيادات، الأمر الذي حمل وأعان الرقاة على التفرغ والاحتراف والامتهان لهذا الأمر، لما صاحبه من التكسب سواء بأخذ الأموال على مجرد القراءة، أم بما كان بسبب بيع المياه والزيوت وعسل النحل وغيرها مما سبق لهم القراءة عليه، فاستغنوا بذلك عن الوظائف والأعمال الأخرى.
إن هذا الواقع قد فتح أو كان سبباً وباباً عظيماً من أبواب الشر والفساد والفتنة التي أفسدت العقائد والأديان، وربما الحياة والدنيا والأبدان، ومن أعظم الفتن والشر والفساد: دخول الراقي على النساء وإن كن جماعةً في غرفة فضلاً عن الخلوة، وما ينتج عن ذلك من وقوع في المحرمات والمنكرات التي يفرح لها أعداء الدين وأولياء الشيطان من الجفاة الكارهين لكل ما يمت بالدين بصلة، وما حدث في بلاد المغرب العام الماضي ليس منا ببعيد.
أما الجفاة وهم فئات وشراذم من أخلاط ومشارب شتى لم يجمعهم شيء سوى كراهية الدين وكل يمت لها بصلة والجهل بحقائقه وشريعته، مثل العلمانيين والليبراليين والملاحدة والماديون والعقلانيون الذين ينظرون لكثير من أمور الدين على أنها خرافة من الخرافات وأوهام وأساطير كأساطير الرومان واليونان.
هؤلاء الجفاة ينكرون بالكلية كل ما يتعلق بالاستشفاء عن طريق آيات القرآن وأسماء الله الحسنى والأدعية النبوية، ويرون ذلك دجلاً اخترعه المسلمون في القرون الأولى للتغطية على أزماتهم المجتمعية وانتشار الجهل بينهم وتخلفهم عن ركب الحضارة، ولا أدري أي فرية تلك التي ابتدعوها عن تخلف المسلمين، والغرب بأسره يشهد بتفوق المسلمين الحضاري وريادته للأمم لعدة قرون، وتشهد كل الجامعات الأجنبية بفضل علماء المسلمين وتقدمهم وإسهاماتهم في مجال الطب والعلاج، وكتاب ابن أبي أصيبعة "طبقات الأطباء" خير دليل على تفوق وكثرة وريادة الأطباء المسلمين في كل العصور.
هؤلاء الجفاة يرون أي استحضار للنصوص الدينية في حياة المسلمين وتعاملاتهم هو نوع من المتاجرة بالدين والاسترزاق به، وخلط المقدس بالمدنس على حد زعمهم، يرون أن العلاج بالحجامة والعسل والكي والحبة السوداء بدائية وتخلف لا يناسب القرن الحادي والعشرين، هذا في الوقت الذي شهد العالم بأسره فاعلية العلاج بالحجامة حتى رأينا أقساماً متخصصة في الحجامة في أرقى كليات الطب في اليابان وأوروبا، ورأينا مئات الأبحاث والدراسات التي شهدت بمعجزة الحبة السوداء الاستشفائية.
والأعجب من ذاك كله مسلك هؤلاء الجفاة من العلمانيين والليبراليين وغيرهم من كارهي الدين وراغبي محاصرته في المساجد والحنايا لا يتجاوز عتباته، مسلكهم في التعامل مع العلاج بالإبر الصينية، والعلاج بالطاقة، والعلاج بالطب البديل، والعلاج باليوجا، والعلاج بالمعازف والموسيقي حيث رأينا احتفاءً وتقديراً لكل هذه الأنواع من العلاجات وهي لا تستند إلى أصول علمية أو تخضع لتجارب معملية، مجرد أوهام وظنون وحالات فردية، في الوقت الذي يجفلون من العلاج بالرقية الشرعية ويزدرون عمل الرقاة ويتهمونهم بالنصب والاحتيال والتخلف!!
ولعل السر وراء ذلك كله يرجع إلى أصل كبير عند هؤلاء وهو عداوة الدين وكل ما يمت للدين بصلة ورغبتهم العارمة في تفريغه من محتواه، وتحجير ميادين عمله وتسكير نشاطاته المتسعة حتى لا يسود الدين ويعود ويحكم كما كان من قبل.
وبين الغلاة والجفاة مازالت الرقية الشرعية وعمل الرقاة بحاجة إلى ضبط وتأصيل وإلزام رسمي بالقواعد الشرعية والآداب المرعية حتى تعود لسنة الاسترقاء رونقها وفاعليتها ودورها المؤثر في المجتمعات التي بدا أن صوت العلماني فيها آخذ في التنامي والصعود.