الرَّقابة نجاة ونماء...أحمد بن عبد المحسن العسَّاف
الفريق العلمي
من أكبر المعضلات التي تصيب الوعي بمقتل، أن يقتبس الإنسان القادر على امتلاك أدوات العلم، والمعرفة، والوعي، آراءه ونظراته من آخرين -مهما كانوا- دون فحص أو تمحيص، ومعاملتها كمسلَّمات ثمَّ البناء عليها، وياله من بناء على شفا جرف هار قابل للانهيار إلاَّ ما ندر، وهكذا كلّ رأي استند على تحليل أو معلومات رخوة أو سطحيّة أو ناقصة، حيث تكون النّتيجة المنبثقة عنها -غالبًا- متصدِّعًة آيلًة للسُّقوط.
ومن أسباب اللوثة التي أُصيب بها عدد من المفكرين والكتَّاب في العالم الإسلامي، بعد الهوى، والأغراض الدُّنيوية، أنَّ بعضهم ذهب للبحث عن الحقيقة في غير مظانّها؛ فقرأ عن دينه وشريعة مولاه، ولم يقرأ في علوم الشريعة ومباحثها مباشرة، وبسبب الثِّقة، ونقص العلم، وحب الشّهرة أو ركوب الموجة، صار فئام منهم يردّدون أقاويل المستشرقين، وآراء أعداء الإسلام بعلم أو بغفلة، ويالها من رزّية مزرية أن يكون رأي المثقف في دينه مهترئًا منقولًا عن عدو لحضارته وثقافته!
بينما حمى الله بعض المفكرين والباحثين من هذه الهوِّة السّحيقة، ومنهم الدّكتور علي محمد حسنين، الذي جمع إلى القانون دراسة الشّريعة الغرّاء، فانبهر بما فيها من جمال وجلال وكمال، وكان عنوان رسالته للدّكتوراه المقدّمة إلى كلية الشّريعة والقانون بالأزهر: رقابة الأمه على الحكام: دراسة مقارنة بين الشريعة ونظم الحكم الوضعية، وأصدر طبعتها الأولى المكتب الإسلامي في بيروت عام 1408=1988م.
ويتكون الكتاب من تمهيد، وتقديم، ثم فصل تمهيدي، وبعد ذلك ثلاثة أبواب، وفي كلِّ باب فصلان، ثم المراجع، والمحتويات، وتعريف مختصر بالمؤلف. ويقع البحث الموفق في (582) صفحة، وهو دراسة متينة تعيد لشعيرة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر مكانها السّامي، ومكانتها المؤثرة؛ فهي شعيرة واجبة على كلِّ مسلم بحسب استطاعته، وفي جميع الشّؤون التي تصلح حال الأفراد، والمجتمعات، والحكومات، والدّول، دون استثناء؛ شريطة أن تكون بعلم، وفهم، وحلم.
وقد حلَّ بهذه الشّعيرة العظيمة بلايا متناسلة من الإقصاء، والتَّهميش، والتَّقزيم، والتَّحريف، والتَّشويه، ولو انخلع النّاس من سيطرة الأفكار المسبقة، وغلبة الصُّورة الذّهنية القاتمة، لوجدوا أنَّ الأنسان -أي إنسان- يعيش في حياته متقلبًا بين الأمر والنَّهي حسبما يراه معروفًا أو منكراً، وفي هذا التّقلب النَّجاة والخير إن كان على هدي قويم، وصراط مستقيم.
ويرى المؤلف العالم أنَّ بعض الدّراسات تحاول إسقاط الشّريعة الإسلامية من تاريخ البشرية، وتغييبها عن مناهج البحث، في مقابل تضخيم القوانين الوضعية القديم منها والحديث، وكأنَّ الاسلام وتشريعاته حلقه مفقودة في تاريخ هذا العالم، ولذلك حرص في دراسته بيان مدى سمو أحكام الشّريعة الاسلامية وأصالتها، وأنَّ الرَّقابة فيها أرسخ أساسًا، وأضبط نظامًا، وأحسن أسلوبًا؛ لأنَّ البناء كلّه قائم على كلام الله، وسنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وليس نتاج فكر بشري قاصر نسبي، ومن أحسن من الله حكمًا وقيلًا؟!
واختار د. علي لعنوان بحثه مصطلح الأمة، وهو الأنسب من الوجهة الشّرعية؛ حفاظًا على هذه المصطلحات الشّرعية من جهة، وإحياءً لها، فضلًا عن تعبيرها عن حقيقة ما يريد الباحث قوله، ونبّه إلى الحذر من نقل المصطلحات والمفاهيم والنّظريات الغريبة على ثقافتنا، وحثَّ الباحثين على النّهل من علوم الشّريعة، متمنيًا إصلاح مناهج كليات الحقوق والقانون في العالم الإسلامي؛ بما يحفظ للشَّريعة هيمنتها وسموها.
يتحدَّث الباب الأول عن أساس مشروعية الرَّقابة، ويختص فصله الأول بأساسها في النُّظم الوضعية، حيث تقوم على فكرة العدالة والحقِّ الطبيعي، ونظرية العقد الاجتماعي، ومواثيق حقوق الإنسان، فهي بشرية خالصة، خلافاً لأساسها في الإسلام كما في الفصل الثَّاني من هذا الباب، حيث تقوم على أساس اعتقادي يقر بوحدانية الله وربوبيته، وياله من رباط وثيق لا تنحل عراه إلاّ بكيد كبَّار يبعد أمتنا ومفاهيمها عن أصلها الدّيني الوثيق.
والأساس الثَّاني هو خلافة الإنسان لله في الأرض، وما أشدَّ تفريط من اُستخلف فضيّع واكتفى بالفرجة أو الحسرة! وهي أمانة ثقيلة حملها الإنسان ولا مناص له من أدائها بما يرضي ربنا، علمًا أنَّ معاني الأمانة واسعة بيد أنَّها حصرت في الودائع، وهي جزء يسير من مفهومها الكبير. وحين استخلف الله الإنسان في الأرض منحه الحرية في الاختيار، والاستطاعة على الفعل، ويسر له طريق العلم والمعرفة، وبالتّالي فسيحاسبه على ذلك؛ فأيّ عذر لمن نكص ونكث؟!
والأساس الثّالث عن علاقة الحاكم المسلم بالله، وملّخصها نفي أيّ صفة قداسة أو تنزيه عن الحاكم، وانتقاد غلو بعض الفرق في هذا الجانب، فالحاكم إنسان اختارته الأمة ورضيت به لسمات يمتاز بها، وعليه أن يسعى في حماية دين النَّاس ودنياهم، وألاَّ يأنف من الرَّقابة والمساءلة؛ فهي خير له في الدُّنيا؛ حيث يحكِم عمله، وخير له في الآخرة؛ عسى أن تخفِّف من حسابه.
ويبحث الباب الثَّاني نطاق الرَّقابة الشَّعبية، ويغوص فصله الأول في نطاقها الوضعي المتمثل في مبدأ المشروعية، ومبدأ الرَّقابة الشَّعبية، وكلا المبدأين لهما حضور كبير في الدَّولة القانونية، بينما ينفرد الفصل الثَّاني ببحث نطاقها في الإسلام، وبعد تعريفها الشّرعي أبان المؤلف شروطها الموضوعية والشَّخصية، ويرتبط هذا الباب بالمبادئ الدّستورية، وسبق لي استعراض كتاب عميق عن النِّظام السِّياسي الإسلامي مقارنًا بالدَّولة القانونية في النُّظم الوضعية، لمؤلفه العراقي عالم الشَّريعة والقانون أ.د. منير البياتي.
ويقف الباب الثّالث عند وسائل الرَّقابة الشَّعبية، وهي تطبق في الأنظمة الوضعية حسبما ورد في الفصل الأول بواسطة الرّأي العام، والمجالس النّيابية، والأحزاب، بينما تنقسم في النِّظام الإسلامي كما في الفصل الثّاني من هذا الباب إلى رقابة وقائية قبليّة تبرز في الشّورى، ورقابة علاجية بعديّة من خلال وسائل دفع المنكر.
ومما يكرّره الباحث العالم في مواطن متفرقة من كتابه، أنَّه من التَّضليل محاولة إسباغ السِّمة الإسلامية على منتجات الحضارات الأخرى في هذا الموضوع وأمثاله، فحضارتنا ربَّانيّة، مستقلة، سامية، ما وافقها مما سبقها أو لحقها فهو تابع لها، منقاد لأمرها، وخاضع لحكمها، ويأبى الله وصالح المؤمنين أن تكون الشَّريعة سائرة في ركاب غيرها، كما يأبى الله والأغيار من عباده فصل الشَّريعة عن الحياة، أو تفصيلها وفقًا للمقاسات المرغوبة.
وكم في الرَّقابة الشَّرعية الشَّعبية من نجاة للأفراد والأمم، وحياة ونماء للبلاد والحكومات، فما استفحل شر، ولا استطال خطب، إلا بسكوت العالم، والقادر، وصاحب الحقِّ، وكم من بيان، أو اعتراض، أو استفهام، أو رأي، وفق المنهج الشَّرعي، جلب خيراً كثيرًا، ومنع من السُّوء، والفحشاء، والمنكر، والبلاء، الكثير الكثير، ففي الرّقابة الكاملة الشّاملة قضاء مبرم على الفساد بأنواعه؛ دقيقه وجليله، ظاهره وخفيه، وفيها سعادة الأمة بإيجابية المحكوم، وعقلانية الحاكم، وتعاونهما على البِّر والتَّقوى.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
ahmalassaf@
الخميس غرَّة شهر جمادى الأولى عام 1439
18 من شهر يناير عام 2018م