الرفق خير

الخطيب المفوه
1432/10/25 - 2011/09/23 07:56AM
الرفق خير
خطبة ألقيت في جامع أبي عبيدة بحي الشفا
ألقاها : د / سعد بن عبد العزيز الدريهم .
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمدَ لله ، نحمدُه ونستعينه ونستغفره ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله ؛ فلا مضلَّ له ، ومن يضللْ؛ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعدُ : فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله ، وخيرَ الهدي هديُ محمد e، وشرَّ الأمور مُحـدثاتُها ، وكلَّ محـدثةٍ بدعــةٌ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ في النار .
أيها الأحبةُ في الله ، كثيراً ما تلتبس المفاهيم على كثير من الناس ؛ فَيُرى حسناً ما ليس بالحسن ، ويُجْعَلُ الحقُّ باطلاً والباطلُ حقاً ، ويجنحون بعد ذلك لتنظير ربما يكون مجانباً للصواب ، ولكن أوحته لهم رؤى ربما عاشوها أو وقعوا على تداعياتهم ، ولا ريب أن الناس كلما ابتعدوا عن رحاب الفطر السليمة ، وكلما أو غلوا في الجهل بمناحي الشرع ؛ كلما كانوا في عماء عن جادة الخير والرشاد ..
والناس عندما يفتقدون بوصلة الاتجاه السليم ، وتضلُ بهم التوجهات، لن يجدوا مثل النهج الشرعيِّ دليلاً وسائقاً ، فهو يوقفهم على الخير والفلاح، ولعل من ذلك ما تلحظه من تقييم الناس للقوي والضعيف .. فالقوي عندهم من علا صوته ، وصرع الناس أرضاً ، والضعيف من كان دون ذلك جبروتاً وقوة ، بينما الشرع يرى أن القوي كلَّ القوة من يملك نفسه عند الغضب ، فلا ينجرُّ وراء سفاهات القول أو الفعل ، وإن سابَّه أحدٌ أو شاتمه وجدت الحلم عنده سيد الموقف ، يقول النبي r : « ليس الشديد بالصُّرَعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب » ، وهذا الصنف من الناس كلما بُولِغَ في السفاهة عليه ازداد حلماً ، فهم لا يقابلون السيئة بالسيئة ، ولكن يقابلون السيئة بالحسنة ، وإذا قابلهم طوفان الجهلة أبحروا فيه بقوارب الإعراض ، « وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً » ..
هذا المفهوم للقوة والضعف أيها المباركون ، هو المفهوم الشائع ، وهو الذي يثرب على من لا يسلكه : بأنه يُضِيعُ حقه ومستحقه ، وهو كما أسلفت منطق الضُّعَفَاء ، وإلا لو استضاءوا بنور الشرع القويم ؛ لعلموا أن الحلم والترويَّ ومعالجةَ الأمور بالحسنى هو القوة ؛ لأنك عندما تغضب وتحكِّم يديك ولسانك ؛ فأنت في طاعة هواك وشيطانك ونفسك الأمارة بالسوء ، وكلُّها لا تأمرك إلا بالسوء والفحشاء ، ونتيجة ما تأمرك به ؛ غالباً ما تكون البوارَ والهلاك والندمَ العريض ، بينما عندما تجتاحك موجة الغضبِ وتلجمها بلجام الحلم والعقل كنت منتصراً على تلك الجموع : الشيطانِ ، والنفس ، والهوى ، فتكون بعد ذلك قد طردت طائر الندم ؛ إضافة إلى ما يحصل بعد ذلك من الظفر بالمطلوب ، ومثل الفريقين كمن قدم دليلاً وسائقاً حكيماً ، ومن مشى بلا دليل ، لا ريب أن من قدم الدليل سيُهدى إلى صراط مستقيم ، ومن مشى تائهاً سيصل إلى مهلِكِهِ ، فافهموا أيها الجمع الكريم ، مراد الشرع ودوروا معه حيث دار ، وعندها تلقَّون السعادة في الدنيا والآخرة .
ولا أزين للرجل أيها الأحبة ، من الرفق ، فتجد الشخص الرفيق عندما تُطْبِقُ عليه الكروب بكلكلها ، مطمئن البال واثق الخطى منشرح الصدر ، تكاد تُقتبس منه الفضائل ، فهو مشعل يضيء للناس دروبهم ، ويقذف في قلوبهم شيئاً من نفسه الطيبة الراسخة في ملاذ الحكمة . يقول النبي r : « لا يكون الرفق في شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شانه » ؛ وهكذا كان خلقه r ؛ لذا كان الصحب الكرام y إذا حزبتهم الخطوب كان الملجأَ بعد الله رسولُه r ، وما إن يروه حتى تعود لهم سكينتهم وطمأنيتهم ؛ لذا كان الصحابة حلماء علماء ذوي رفق ..
ولا بد أن تعلموا أيها الموفقون ، أن الحلم والرفق والسكينة قد تكون جبلة في الإنسان خلقه الله عليها ، وهذا فضل من الله عظيم يلقاه الإنسان ، وقد تكون أمراً مكتسباً ، والإنسان بكثرة التعاطي للحلم والرفق يكون حليماً رفيقاً ، وهو من المجاهدة ، ومن جاهد نفسه هُدي إلى سواء السبيل ، وهذا في كل الأمور ، كما أن الدعاءَ وإخلاصَ القصد خير جالب لذلك ، وأنت لو نظرت إلى مآلات الأمور إن حكمت الجهل والغضب وسوء الخلق ، لا بد أنك ستختار طريق الحلم والرفق ؛ لأن نتاج الغضب واطراح الحلم والرفق الدمارُ والخسار ، وكم ندم من سار في ركاب الغضب ، ولم نجد من أسف على سلوك سبيل الحلم والرفق ، فترفقوا الجمع الكريم ، والزموا الحلم ، وعندها ستنالون حُسْنَ العاقبة في الدنيا والآخرة .
وهنا أيها الأحبة في الله ، وهم ربما داعب النفوس وخلبها سكينتها عند ورود ما يكدره ، وهو أن الإنسان عندما ينفس عن غضبه فعلاً ؛ فإنه ينال راحة تجتاح جوارحه وتهدئ من روعه لكن ما العاقبة ؟ إنها رضى الشيطان وعصيانُ الرحمن إن لم يكن ثمة طغيان ، وهنا يأتي العلم فمن كان من أهله أدرك أن من كَظَمَ غيظاً وهو قادرٌ على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامه على رؤوس الخلائق حتى يخيره من الحور العير يوم القيامة ما شاء ، فهنا ثواب عاجل وآخرُ آجل ، وهو السلامة في الدنيا والثواب في الآخرة ..
وكل ما قلناه أيها الجمع الكريم ، حسنٌ وحسنٌ جداً ، ولكن لو جُمع مع هذا العفو والتجاوز سلامة الصدر وخلوها من الإحن لا ريب أن ذلك مؤذن بخير عظيم وجليل ، فذلكم الصحابي الجليل كان من أهل الجنة ، وهو يدب على الأرض ، عندما قال النبي r : « يدخل عليكم من هذا الفج رجل من أهل الجنة » ، فخرج رجل من غمار الناس ومجهوليهم ، وعندما سئل عن العمل الذي أنزله دار رضا الرحمن ، قال : لا أبيت وفي نفسي غل على أحد من المسلمين ؛ لأن ثمة ناساً من الناس يعفون ويتنازلون ، وهم على خير لكن قلوبهم لا زالت تغلي مراجلها حقداً وأثرة على من عفو عنه ؛ لذا فالخير كل الخير العفو والمغفرة ظاهراً وباطنا ، ولا يلقى ذلك إلا ذو حظ عظيم .
وهنا لا بد أن نقف على أمر ذو صلة بمقولنا ، وهو أن الكثير من الناس يرون أن التغافل وعدم التدقيق في الأمور عيبٌ وحمقٌ في الإنسان ؛ لذا تجد الكثير من الناس لا يترك شاردة ولا واردة ولا حاجة ولا داجة إلا واهتبلها وتوقف عندها ، وفسرها ، وربما كان من تكلم بعيداً عن تلك المرامي ولا يريد حتى معشارها ، وهذا الصنف من الناس في عناء من الناس والناس في عناء منه ، والخير كلُّ الخير في التغافل ، بل قيل : إن تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل ، والتغافل هو سمت الكرام من الرجال ، وأهل السيادة من الرجال هم من يتغابون ويتغافلون ، وربما أسقطوا حقاً من حقهم عن علم ومعرفة ، وقد قيل : ما استقصى كريم قط ، ولا نزال أيها الأحبة ، في عافية ما تغافلنا ، فألظوا أيها الجمع الكريم ، بهذه الأمور لتسلم لكم دنياكم وأخراكم ، واعلموا أن هذه الدنيا قصار أيامها ؛ فلا تضيعوها بين الإحن واكتساب العداوات ، وكل ذلك كامن في الرفق واللين . والله نسأل أن يجعلنا على جانب من الرفق والحلم ، وأن يجنبنا زلل الشيطان ومضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن .
أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .


الحمد ُلله على آلائه، وصلـواتُه على محمَّدٍ خاتمِ أنبيائه، وعلى آله وأصحابه وأصفيائه، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أَمَّا بَعدُ :
فيا أيها الأحبة في الله ، مهما طَوَّف الإنسان ، ومهما قضَّى العمر ترحالاً وسفراً ، وبلغت خبرته في ذلك المنتهى ؛ فإنه لا تهدأ نفسه ولا تطمئن إلا عندما يكون في موطنه وبين أهله ؛ لذا كان الوطن أحب أماكن الرجال إليهم ، ومهما كان الرجل مجحفاً في حق وطنه وتراه يكيل له ما شان ، إلا أن حب الوطن مغروس في نفسه ويتقلب بين جوانحه ، بل إن الوطن وإن قسا عليك إلا أنك في بحبوحة من حبه :
بلادي وإن جارت علي عزيزة وأهـلي وإن ظنـوا علي كرام
وتراك تتمنى له الخير ، بل إن النصرة له لتدعوك وإن كنت قد اكتنفتك الشواغل ..
فحب الوطن شاغل النفوس وموقظها وداعيها لبذل الغالي والرخيص في سبيلها ، هذا في كل البلدان ، فكيف ببلد ارتبطت أرضه بسمائه ، وتعفر بترابه خير البشرية قاطبة r ، ودب على أرضه خير جيل خلقه الله ، بل كل شبر منه له في أسفار التاريخ ذكرى ، بل أرضه خيرة الله من الأرضين ، فبلد يملك هذا الرصيد وتلك المحفزات ؛ لجدير أن يعلى من شأنه وأن يتغنى بأمجاده ، فبلدنا أيها الجمع الكريم ، جمع شرف الدنيا والآخرة ؛ لذا كان حبه دين وعقيدة ، والدفاع عنه دفاع عن حوزة الدين وبيضته ، فكيف وهو يساس بحكام على جانب من الخير ، وتحكَّم فيها مراسيم الشرع المطهر ، ويعلى فيه من شأنها ، لا شك أنها محفزات تعلي من رصيده في النفوس ، ونحن في هذا اليوم نحتفل بيوم الوطن ، وقبل أن نحتفل به ظاهراً ، لا بد أن نجعل منه زمناً للمراجعة لتدارك ما فات والمضي بالنجاحات ، ونحن إن فعلنا ذلك سنحتفل به ما بقيت أعمارنا ، وإن كان الغرور وتركنا تدبر أمورنا ؛ فإنه وربي استزلال لنا ؛ لذا فالأمم الرابحة هي من تراجع سعيها عند مضي عامها ، والأمم الخاسرة هي من تزداد به غروراً ...
فاشكروا الله أيها الأحبة في الله ، على أن جعلكم من سكان هذه الأرض ، وبوأكم من عقائدها أسلَمها نهجاً ، ومن الحكام أحكمهم وأعدلهم ، وكلها نعم ، كما أن من شكر النعم الأخذَ على أيدي السفهاء المفسدين وعم تمكين من تكدير ما صفا من عيش الناس ورغدهم ، والله نسأل أن يديم علينا أمننا ، وأن يجنبنا شر الأشرار وكيد الفجار إنه جواد كريم .
المشاهدات 1939 | التعليقات 0