الرضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاء
محمد بن سليمان المهوس
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يَا أَبَا سَعِيدٍ، مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ، فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ، فَفَعَلَ... الْحَدِيثُ. هَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثٌ عَظِيمٌ، وَطَرِيقٌ مُوصِلٌ إِلَى جَنَّةِ النَّعِيمِ، وَلِذَلِكَ تَعَجَّبَ مِنْهُ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ وَالإِمَامُ الْمُجَاهِدُ، مُفْتِي الْمَدِينَةِ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ الْخَزْرَجِيُّ وَالْمُكَنَّى بِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فَالرِّضَاءُ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا هُوَ سَكِينَةُ النَّفْسِ، وَهِدَايَةُ الْقَلْبِ، وَهُوَ مَنَارُ السَّالِكِينَ، وَأَمَلُ الْيَائِسِينَ، وَأَمَانُ الْخَائِفِينَ، وَنُصْرَةُ الْمُجَاهِدِينَ، وَهُوَ بُشْرَى لِلْمُتَّقِينَ وَمِنْحَةٌ لِلْمَحْرُومِينَ، وَلِذَلِكَ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِالله رَبًّا، وَبِالإِسْلامَ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً» فَالإِيمَانُ لَهُ طَعْمٌ وَحَلاَوَةٌ دَاخِلِيَّةٌ، تَسْرِي فِي الْقَلْبِ سَرَيَانَ الْمَاءِ فِي الْعُودِ، فَلاَ يَشْعُرُ صَاحِبُهَا بِأَرَقٍ وَلاَ قَلَقٍ، وَلاَ يُحِسُّ بِضِيقٍ وَلاَ ضَجَرٍ، يَعِيشُ فِي سَعَةٍ، وَيَتَقَلَّبُ فِي رِضًا وَنِعْمَةٍ، ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِيمَا مَعْنَاهُ: أَنَّ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَيْهِمَا مَدَارُ مَقَامَاتِ الدِّينِ، وَإِلَيْهِمَا تَنْتَهِي، وَقَدْ تَضَمَّنَا الرِّضَا بِرُبُوبِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ وَأُلُوهِيَّتِهِ، وَالرِّضَا بِرَسُولِهِ وَالانْقِيَادِ لَهُ، وَالرِّضَا بِدِينِهِ وَالتَّسْلِيمِ لَهُ، وَمَنِ اجْتَمَعَتْ لَهُ هَذِهِ الأَرْبَعَةُ فَهُوَ الصِّدِّيقُ حَقًّا. وَهِيَ سَهْلَةٌ بِالدَّعْوَى وَاللِّسَانِ، وَهِيَ مِنْ أَصْعَبِ الأُمُورِ عِنْدَ الْحَقِيقَةِ وَالاِمْتِحَانِ، وَلاَسِيَّمَا إِذَا جَاءَ مَا يُخَالِفُ هَوَى النَّفْسِ وَمُرَادَهَا.
فَالرِّضَا بِإِلَهِيَّتِهِ يَتَضَمَّنُ الرِّضَا بِمَحَبَّتِهِ وَحْدَهُ، وَخَوْفَهُ، وَرَجَاءَهُ، وَالإِنَابَةَ إِلَيْهِ، وَالتَّبَتُّلَ إِلَيْهِ، وَانْجِذَابَ قُوَى الإِرَادَةِ وَالْحُبِّ كُلِّهَا إِلَيْهِ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ عِبَادَتَهُ وَالإِخْلاَصَ لَهُ.
وَالرِّضَا بِرُبُوبِيَّتِهِ يَتَضَمَّنُ الرِّضَا بِتَدْبِيرِهِ لِعَبْدِهِ، وَيَتَضَمَّنُ إِفْرَادَهُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالاِسْتِعَانَةَ بِهِ، وَالثِّقَةَ بِهِ، وَالاِعْتِمَادَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِكُلِّ مَا يُفْعَلُ بِهِ.
فَالأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ رِضَاهُ بِمَا يُؤْمَرُ بِهِ. وَالثَّانِي يَتَضَمَّنُ رِضَاهُ بِمَا يُقَدَّرُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الرِّضَا بِنَبِيِّهِ رَسُولاً فَيَتَضَمَّنُ كَمَالَ الاِنْقِيَادِ لَهُ، وَالتَّسْلِيمِ الْمُطْلَقِ إِلَيْهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ أَوْلَى بِهِ مِنْ نَفْسِهِ، فَلاَ يَتَلَقَّى الْهُدَى إِلاَّ مِنْ مَوَاقِعِ كَلِمَاتِهِ، وَلاَ يُحَاكِمُ إِلاَّ إِلَيْهِ، وَلاَ يُحَكِّمُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، وَلاَ يَرْضَى بِحُكْمِ غَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ، لاَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَلاَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَذْوَاقِ حَقَائِقِ الإِيمَانِ وَمَقَامَاتِهِ.
وَأَمَّا الرِّضَا بِدِينِهِ: فَإِذَا قَالَ، أَوْ حَكَمَ، أَوْ أَمَرَ، أَوْ نَهَى: رَضِيَ كُلَّ الرِّضَا، وَلَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ حَرَجٌ مِنْ حُكْمِهِ، وَسَلَّمَ لَهُ تَسْلِيمًا وَلَوْ كَانَ مُخَالِفًا لِمُرَادِ نَفْسِهِ أَوْ هَوَاهَا.
وَلِذَلِكَ كَانَ الرِّضَا بَابَ اللهِ الأَعْظَمِ، وَجَنَّةَ الدُّنْيَا، وَمُسْتَرَاحَ الْعَارِفِينَ، وَحَيَاةَ الْمُحِبِّينَ، وَنَعِيمَ الْعَابِدِينَ، وَقُرَّةَ عُيُونِ الْمُشْتَاقِينَ. انْتَهَى كَلامُهُ رَحِمَهُ اللهُ.
فَإِذَا صَحَّ الإِيمَانُ بِهَذِهِ الثَّلاَثِ، وَوَقَرَ الإِيمَانُ بِهَا فِي الْقَلْبِ، فَاضَتْ ثَمَراتُهَا عَلَى حَيَاةِ صَاحِبِهَا، إِنْ مَشَى عَلَى الأَرْضِ مَشَى سَوِيًّا، وَإِنْ سَارَ سَارَ تَقِيًّا، مَحْبُوبٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ النَّاسِ، قَالَ اللهُ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَاسْتَمْسِكُوا بِدِينِ اللهِ الَّذِي ارْتَضَاهُ لَكُمْ. أَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَنَا إِيمَانًا صَادِقًا وَقَلْبًا خَاشِعًا وَلِسَانًا ذَاكِرًا وَتَوْبَةً نَصُوحًا قَبْلَ الْمَمَاتِ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذنْبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.. أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: الرِّضَا بِاللهِ، وَبِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَبِمَا قَسَمَهُ اللهُ لِعِبَادِهِ مِنْ رِزْقٍ سَبِيلٌ مُبَاشِرٌ لِتَحْقِيقِ السَّعَادَةِ، وَهُوَ جَوْهَرُ السَّعَادَةِ، وَعُنْوَانُ الْفَلاَحِ، وَبِهِ يَجِدُ الْعَبْدُ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ، عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَمَنْ رَضِيَ بِاللهِ تَعَالَى رَبًّا لَمْ يَطْلُبْ غَيْرَهُ، وَمَنْ رَضِيَ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَسُولاً لَمْ يَسْلُكْ إِلاَّ مَا يُوَافِقُ شَرِيعَتَهُ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ خَلَصَتْ حَلاَوَةُ الإِيمَانِ إِلَى قَلْبِهِ، وَذَاقَ طَعْمَهُ. وَانْشَرَحَ صَدْرُهُ، وَقَوِيَ تَحَمُّلُهُ، وَأَنِسَ بِرَبِّهِ تَعَالىَ، وَوَثِقَ بِمَوْعُودِهِ، وَرَضِيَ بِقَدَرِهِ، وَعَظَّمَهُ بِاللُّجُوءِ إِلَيْهِ، وَبِالتَّضَرُّعِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَبِمَعْرِفَتِهِ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، فَيَكُونُ الْعَبْدُ بِذَلِكَ مُعَظِّمًا لِشَعَائِرِ اللهِ تَعَالَى، فَيُحِلُّ مَا أَحَلَّ، وَيُحَرِّمُ مَا حَرَّمَ، وَإِنْ خَالَفَ هَوَاهُ وَرَغَبَاتِهِ.
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَامْتَثِلُوا تَحْقِيقَ الرِّضَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا لِتَفُوزُوا بِرِضَاءِ رَبِّكُمْ، وَتَدْخُلُوا جَنَّتَهُ، وَتَسْعَدُوا بِلِقَائِهِ؛ ثَبَّتَكُمُ اللهُ عَلَى الإِسْلاَمِ، وَرَزَقَكُمْ إِخْلاَصَ الْعِبَادَةِ للهِ، وَصِدْقَ الْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
المرفقات
327812
327812
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق