الرضا والقناعة-19-7-1436هـ-محمد راتب النابلسي-موسوعة النابلسي-بتصرف

محمد بن سامر
1436/07/26 - 2015/05/15 03:42AM
[align=justify] إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله-صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا-أما بعد:
فيا أيها الإخوة، لو أن المسلمين في هذا العصر زهدوا في الدنيا وانقطعوا للعبادة ورضوا باليسير منها ففاتهم ركب التقدم والحضارة لقيل لهم: ليس المسلم الحقيقي من ترك دنياه لآخرتِه، ولا آخرتَه لدنياه، وإنما المسلم الحق من يتزود منهما معًا فإن الأولى مطيةٌ وجسرٌ وعبورٌ للثانية.
ولكن المسلمين اليوم في حال عجيب, لقد أقبلوا على الدنيا بكل قلوبهم, وتطلعوا إلى زينتها وزخرفها بمِلْء عيونهم, واحتفلوا بعرَضها بكل جارحة من جوارحهم, وتنافسوا على أبيضها وأصفرها, وجعلوا كسبَ المال أكبرَ همهم، والانغماسَ في متعها الحسية مبلغَ علمهم، وتفاخروا بما حصَّلوا منها، وتمايلوا طربا لما فازوا فيها، وماتوا غمًا وهمًا لما فاتهم منها.
أيها الإخوة: لو وقف المسلمون وهم في غمرة اندفاعهم هذا على الدنيا، لو وقفوا عند حدود ما أحل الله لهم، لهانت المصيبة ولكان علاجها يسيرا، وعناؤها قليلا، ولكن المسلمَ-اليومَ-أو من يدَّعي أنه مسلم لا يبالي أكان كسبه حلالا أو حراما، فيأكل الربا أو يوكله، ويقتني المحرمات أو يتاجر بها، ولا يتحرج من سلوك يسلكه أمستقيما كان أم منحرفا؟، ولا يعنيه إلا لذةٌ يقتنصها، أو متعةٌ يغتنمها، أو مسكنٌ يزهو به، أو مركبٌ يتيه فيه، ولمثل هذا يقال: ما ينتظر الإنسان من الدنيا إلا غنى مطغيا أو فقرا منسيا أو مرضا منهكا أو موتا مهلكا.
ويقال: عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت ومن شئت فإنك مفارق, واعمل ما شئت فإنك مجزيٌ به.
ويقال: خذ من الدنيا ما شئت، وخذ بقدره همَّا.
ويقال: لو أن الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء.
الدنيا طريقُك إلى الآخرة فأحسنْ طريقَك: الاقتصادُ في المعيشةِ خيرٌ من بعض التجارةِ المحرمةِ، القائمةِ على الربا، الناميةِ على الاحتكار، الرائجةِ على الفساد.
هذه التجارة يُضيع بها المسلمَ دينَه ودنياه، وتجعله يلهثُ وراء المال ليكنزه، لا لينفقه، وليس له من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأبقى، وما سوى ذلك فهو لورثته الذين سينعمون به، وسيحاسب عليه، كيف جمعه، وفيمَ أنفقه؟.
أيها المبارك: لا تظن أن هذا معناه أن تقعد في بيتك، وتترك عملك، وتهمل واجبك، وتُضيع أسرتك، وتكون عالة على غيرك.
يا أخي: إن السدادَ والرشادَ أن تتعلمَ وتعملَ، وتجدَّ وتكدَ وتتقدمَ وترقى، وتكفي أسرتَك ومن تعول، وأن تكون يدُك هي العليا التي تنفقُ وتتصدقُ، كل ذلك في حدود ما أحل الله.
يا أخي: إن السدادَ والرشادَ أن تتخذَ من الدنيا مطيةً للآخرة، لا أن تكون الدنيا محطَّ رحالك، ومنتهى آمالك, فليكن علمُك وعملُك، جدُّك ولهوُك، تعبُك وراحتُك، فراغُك وشغلُك، في مرضاة الله، فقد ورد أن اللقمةَ التي تضعها في فمِ زوجتِك لك صدقة، قال-تعالى-: [وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ].
يا أخي: تأكد أن طيباتِ الدنيا سيكون لها طعمٌ جديدٌ في ظل الإيمان، فما أجملَ أن يسكنَ المؤمنُ إلى امرأة صالحة، تسرُّه إنْ نظرَ إليها، وتطيعه إن أمرَها، وتحفظه إنْ غابَ عنها، وما أجملَ أنْ يكسبَ المؤمنُ مالا من عمل شريف، من وظيفة أدى واجبها، ومن تجارة اتقى الله فيها, ومن مهنة أتقن أداءها.
وما أجمل أن ينفق المؤمن مالا ليحصنَ نفسه، وليكفيَ أسرته وليتقربَ إلى ربه، قال أبو ذر الغفاري-رضي الله عنه-كلاما معناه: "أحب المال لأصونَ به عرضي وأتقربَ به إلى ربي".
وما أجمل أن يكون للمرء, إلى جانب ذلك, صلةٌ بخالقه وسعادةٌ من قربه.
ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا
وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل.
أيها الإخوة: إن الذي يُتلف أعصابَ الناسِ تطلعُهم إلى من هو أعلى منهم في دنياهم، وتعاميهم عما في أيديهم، فالموظف مثلا يتمنى أن يكون تاجرا لأن صفقة واحدة برواتب عام بأكمله، والتاجر في غمرة أتعابه يتمنى أن يكون موظفا، ويرى أن راحة البال أغلى من ماله وثروته، والحقيقة أنَّ السعادةَ في الرضى، والشقاءَ في السخط، والغنى أن تزهدَ بما في أيدي الناس، والفقرَ أن تنظرَ إلى ما عندهم، قال-عليه وآله الصلاة والسلام-: "ارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس".
وقد قيل: "أنت من خوف الفقر في فقر".
وقالوا: "توقع المصيبة مصيبة أكبر منها".
وفوق ذلك؛ ابذل كل ما في وسعك لتحسين مستوى معيشتك، وحيثما انتهى بك السعي فارض بالذي وصلت إليه، واعتقد أن الغنى ليس عن كثرة ما تملك، ولكن الغنى غنى نفسك.
ولتكن هذه الآية نصب عينيك: [وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيما].
اشكر الله على نعمه عليك، وانظر في الدنيا إلى من هو أقل منك، فذلك يعرفك بقدر نعمة الله عليك، وانظر في أمر الآخرة إلى من هو أعلى منك لتتقوى عزيمتك وتسابقَه إلى الخير.
إخواني: إن الناس متساوون في جوهر الحياة، متفاوتون في أعراضها، فحاجات الجسد محدودة مهما توافر المال، فليس في وسعك-في وقت واحد-أن تأكل أكثر من وجبة واحدة، ولا أن ترتدي ثيابا كثيرة، ولا أن تأوي إلى أكثر من فراش واحد.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا".
فقبل أن تنظر إلى ما عند غيرك، هل نظرت إلى ما عندك، أعضاؤك وحواسك وأجهزتك تعمل بانتظام، وهناك أناس كثيرون ابتلوا بفقد بعضها، ولا يعلم إلا الله كم يحسّون من ألم، فهل تعدها نعمة قليلة.
إن الدنيا كلَّها أن تكون معافًى في جسمك، آمنًا في بيتك، عندك قوت يومك.
الخطبة الثانية
أخي الحبيب: هل تظن أن الحياة طويلةٌ جدا؟ هل قلت في نفسك يوما: أغلب ظني أن ما بقي من عمري أقلُّ مما مضى منه؟
وهل تعلم أنك إذا علَّقت بالدنيا كل الآمال فقد غامرت بسعادتك؟ وربما خسرتها.
سئل أحد الصالحين: ما الإنسان؟ فقال: هو بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه.
وقد يقول أحدهم: إن نفسي تواقةٌ إلى كل شيء، متمردةٌ على كل شيء، لا تسمع لترغيب و لا ترهيب، ولا تريد أن تعيش إلا في يومها، ولا يعنيها إلا متعتُها ولذتُها.
فيقال له: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ-: "مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ، جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ".
[/align]
المرفقات

الرضا والقناعة-19-7-1436هـ-محمد راتب النابلسي-موسوعة النابلسي-بتصرف.doc

الرضا والقناعة-19-7-1436هـ-محمد راتب النابلسي-موسوعة النابلسي-بتصرف.doc

الرضا والقناعة-19-7-1436هـ-محمد راتب النابلسي-موسوعة النابلسي-بتصرف.docx

الرضا والقناعة-19-7-1436هـ-محمد راتب النابلسي-موسوعة النابلسي-بتصرف.docx

المشاهدات 5535 | التعليقات 0