الرضا بالقدر باب للسعادة كبير

عبدالرحمن السحيم
1445/01/16 - 2023/08/03 15:44PM

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا عزّ إلا في طاعته، ولا سعادة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في ذكره، الذي إذا أُطيع شَكر، وإذا عُصي تاب وغفر، والذي إذا دُعي أجاب، وإذا استُعيذَ به أعاذ. أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا مزيدا. أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللَّهَ –عباد الله- حَقَّ التَّقْوَى، فَأَعْمَارُكُمْ تَمْضِي، وَآجَالُكُمْ تَدْنُو (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)

عباد الله: حديثنا اليوم عن باب من أبواب جنة الدنيا، ومستراح من مستراحات العابدين، حديثنا اليوم عن الرضا بالقضاء والقدر ذلكم الموقف النفسي العظيم الذي ما امتلأ به قلب عبدٌ لله إلا ملأ الله صدره غنىً وأمناً، وفرَّغ قلبه لمحبته سبحانه، والإنابةِ إليه، والتوكلِ عليه، ومن فاته حظُّه من الرضا امتلأ قلبُه بضدِ ذلك، واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه.

أيها الإخوة: ما قضى الله لا محالة آتٍ للعبد، وقضاء الله عدل لا حيف فيه.. وما دام الأمر كذلك فعلى العبد أن يرضى بما قدر الله -سبحانه- وقد حث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- على ذلك بطريقة من طرق تعليمه الجميلة؛ فقَالَ فيما رواه ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: "كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا فَقَالَ: "يَا غُلَامُ إِنِّي مُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ تَعَرَّفْ إلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ, يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ". والشاهد من الحديث قوله: "وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ, لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ, وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ, لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ, رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ, وَجَفَّتْ الصُّحُفُ.." (رواه الترمذي).

لقد أكد النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا الغلام مع صغر سنّه أن البشر لا يضرونه ولا ينفعونه إلا بحدود ما كتبه الله له.

وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- أكثر من ستين فائدة للرضا، منها: أن قضاء الله –تعالى- للعبد خير له على كل حال كما قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» (رواه مسلم). وهذا للمؤمن فقط؛ لأنه يعلم أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (ما أبالي على أي حال أصبحت على ما أحب أو على ما أكره؛ لأني لا أدري الخير فيما أحب أو فيما أكره) مع ما في ذلك من عظيمَ الأجورِ، وقد قيل: لَوْلَا الْمصائِبُ لَوَرَدَ النَّاسُ لِرَبِّهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَفَالِيسَ.

ومنها: أن الرضا عن الله في جميع الحالات يثمر للعبد رضى الله عنه وأكرم بها من مرتبة ﴿ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) فإن الجزاء من جنس العمل، وقد جاء في السنن من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أن رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ, مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْط"

ومنها: أن السخط باب الهمِ والغم والحزن وشتات القلب وكدر البال وسوء الحال, والظنِ بالله خلاف ما هو أهله، والرضى يخلصه من ذلك كله، ويفتح له باب جنة الدنيا قبل جنة الآخرة.  ومنها: أن الرضا يوجب له الطمأنينة والسكينة وطيب العيش وبرد القلب وسكونه وقراره، والسخط يوجب اضطراب قلبه وريبته وانزعاجه وعدم قراره.تجد صاحبه يشكو من كلِّ شيءٍ، ولا يعجبُه شيءٌ، يَتكدَّرُ لأتْفَهِ الأسبابِ، ولو كان غنيًّا صحيحًا فهو منزعجٌ قلقٌ، دائمُ النكدِ، عابسُ الوجهِ، بائسُ القلبِ
ومنها: أن الرضا يفتح له باب السلامة فيجعل قلبه سليمًا نقيًّا من الغش والدغل.. ولا ينجو من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليم..

وسلامة القلب مستحيلة مع السخط وعدم الرضا، وكذلك الحسد هو ثمرة من ثمار السخط، وسلامة القلب منه من ثمرات الرضا.

ومنها: أن من ملأ قلبه من الرضا بالقدر؛ ملأ الله صدره غنىً وأمناً وقناعةً وفرغَ قلبَه لمحبتهِ والإنابةِ إليه والتوكلِ عليه، ومن فاته حظه من الرضا؛ امتلأ قلبه بضد ذلك واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه؛ فالرضا يفرغ القلب لله.. والسخط يفرغ القلب من الله.. وفي الحديث: (وارض بما قسَم الله لك، تكن أغنى الناس)   ومنها: أن الرضا يثمر الشكر الذي هو من أعلى مقامات الإيمان بل هو حقيقة الإيمان فيكون من الراضين الشاكرين.. والسخط يثمر ضده وهو كفر النعم، وربما أثمر له كفر المنعم عياذاً بالله..

وللهِ في أثناء كُلِّ مُلمَّةٍ *** وإنْ آلَمتْ لُطْفٌ يَحُضُّ على الشُّكرِ

ومنها: أن الرضا ينفي عن العبد آفات الحرص والكَلَب على الدنيا، وذلك رأس كل خطيئة وأصل كل بلية وأساس كل رزية، فرضاه عن ربه في جميع الحالات؛ ينفي عنه مادة هذه الآفات.

ومنها: أن الشيطان إنما يظفر بالإنسان غالبًا عند السخط والشهوة فهناك يصطاده ولاسيما إذا استحكم سخطه؛ فإنه يقول ما لا يرضى الرب، ويفعل ما لا يرضيه، وينوي ما لا يرضيه؛ ولهذا قَالَ النبيُ -صلى الله عليه وسلم-: لَمَّا دَخَلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ: «إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ» (رواه البخاري).

فإذا نزلت بالعبد مصيبة تعين عليه أن يصبر وأن يحبس نفسه عن التسخط وأعلى من ذلك رتبة: الرضا؛ بأن يكون حاله بعد المصيبة كحاله قبلها، وأعلى الرتب وهي مندوبة: الشكر عند المصيبة.

أما التجزع والتسخط فهو محرم وسوء أدب مع الله بالإضافة إلى أنه لا يغير من القدر شيئا بل هو يجمع للإنسان مصيبة على مصيبة، وهمًا على هم،

وليعلم العبد بأن خيرة الله خيرٌ من خيرته لنفسه (وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)والرضى لا يعني العجز والكسل بل هو داعٍ للفأل وباعث على العمل وطارد للهم والحزن، ملأ الله قلوبنا وقلوبكم رضًا.

أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.  أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حقَّ التقوى؛ فالتقوى هي النجاةُ غدًا والزادُ أبدًا. (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)

أيها الإخوة: لقد كان سلفنا الصالح -رحمهم الله- أهدى الناس قلوباً، يشهد بذلك كل من نظر في أحوالهم وتأمّل عباراتهم؛ وهذه الهداية جاءت عندما استقرّ الإيمان في قلوبهم، وعرفوا الله حق معرفته، وقدروه حقّ قدره، فجعل الله لهم فرقاناً يميّزون به بين الحق والباطل، وبصيرةً يُدركون بها بواطن الأمور، مصداقاً لقوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، قال علقمة -رحمه الله-: "هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله، فيسلّم لها ويرضى".

أحبتي: لِننظر سويّاً إلى إيمانهم بالقضاء والقدر كيف كان أثره على كلماتهم؟ وكيف عبّروا عنه بإشراقةِ لفظٍ وجمالِ عبارةٍ وعميقِ معنى، حتى صارت حِكَماً تدور على ألسنة الخلق، ويُهتدى بها إلى الحق.

رُيَ عن علي بن أبى طالب -رضي الله عنه- أنه زار أحد المبتلين فقال له: "يا عدي، إنه من رضي بقضاء الله جرى عليه فكان له أجر، ومن لم يرض بقضاء الله جرى عليه فحبط عمله".

وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إن الله -تبارك وتعالى- بقسطه وعلمه جعل الرَوح والفرج في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط".

وقال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "ما كنتُ على حال من حالات الدنيا فيسرني أني على غيرها"، ومما حُفظ عنه قوله: "أصبحت وما لي سرورٌ إلا في مواضع القضاء والقدر".. واشتُهرت عنه دعواتٍ كان يُكثر من تردادها: "اللهم رضّني بقضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أُحب تعجيلَ شيءٍ أخّرته، ولا تأخيرَ شيءٍ عجّلته".

وقال عبد الواحد بن زيد: "الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين".

وبعد أحبتي: ما أحوجنا دوماً وعند تكالب الهموم والبلايا إلى الرضا عن الله.. لنكن بالله، أكثر علاقة، وبالتحلي بالرضا أكثر اتصافاً، وعن السخط والتذمر أكثر بعداً..

لك الحمد ربنا حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا..  اللهم رضّنا بقضائك، وبارك لنا في قدرك، حتى لا نُحب تعجيلَ شيءٍ أخّرته، ولا تأخيرَ شيءٍ عجّلته..

هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على النبي المصطفى فإنه من صلى عليَّه صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً.  اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بفضلك وجودك يا أكرم الأكرمين..

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين، وأصلح أحوال المسلمين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين.

اللهم فرِّج همَّ المهمومين ونفس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا،واجعل عملهم في رضاك.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار..

عباد الله! اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 

المرفقات

1691066731_الرضا بالقدر باب من أبواب السعادة كبير.doc

1691066732_الرضا بالقدر باب من أبواب السعادة كبير.pdf

المشاهدات 1102 | التعليقات 0