الرضا باب من أبواب السعادة كبير. 61/11/1437هـ
عبد الله بن علي الطريف
1437/11/16 - 2016/08/19 08:50AM
الرضا باب من أبواب السعادة كبير. 61/11/1437هـ
أما بعد أيها الإخوة: حديثنا اليوم عن باب من أبواب جنة الدنيا، ومستراح من مستراحات العابدين، وعن قرة عيون المشتاقين.. حديثنا اليوم عن الرضا بالقضاء والقدر ذلكم الموقف النفسي العظيم الذي ما امتلأ به قلب عبد من عباد الله إلا ملأ الله صدره غنىً وأمناً، وفرَّغ قلبه لمحبته سبحانه، والإنابةِ إليه، والتوكلِ عليه، ومن فاته حظُّه من الرضا امتلأ قلبُه بضدِ ذلك، واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه.
أيها الإخوة: ما قضى الهم لا محالة آتٍ للعبد.. وما دام الأمر كذلك فعلى العبد أن يرضى بما قدر الله سبحانه وقد حث المصطفى صلى الله عليه وسلم على ذلك بطريقة من طرق تعليمه الجميلة فقَالَ: فيما رواه ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: (كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَالَ: "يَا غُلَامُ إِنِّي مُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ تَعَرَّفْ إلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ, يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ.. والشاهد من الحديث قوله: وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ, لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ, وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ, لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ, رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ, وَجَفَّتْ الصُّحُفُ.." رواه الترمذي وصححه الألباني.
لقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الغلام مع صغر سنه أن البشر لا يضرونه ولا ينفعونه إلا بحدود ما كتبه الله له. ولذلك قال بعض العارفين: (لا تقلق من تدابير البشر فأقصى ما يستطيعون فعله معك هو تنفيذ إرادة الله). وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أكثر من ستين فائدة للرضا نذكر منها: أن قضاء الله تعالى للعبد خير له على كل حال كما قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» رواه مسلم عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه.
وهذا للمؤمن فقط؛ لأنه يعلم أن كل شيء بقضاء الله وقدره، ولذا يقولون: إن ظاهرة التخلص من مشاكل الدنيا بالانتحار -عياذاً بالله- أقل ما تكون في المسلمين، وأكثر ما تكون في غير المسلمين؛ لأن الكافر لا يؤمن بقضاء الله ولا بقدره، فإذا أصيب في تجارة، أو أصيب بعاهة، أو أصيب في ولده، أو غير ذلك، فلا يجد أمامه إلا أن يهرب من الدنيا، أما المؤمن فيعلم أن هذا قدر الله عليه، فإن صبر عليه فله الأجر.
يقول بعض العلماء: لو قيل: إن هذا الحديث نصف الإسلام لما كان في ذلك مبالغة.لأنه يجمع للإنسان أطراف كل الفوائد والمعارف.
ومنها: أن الرضى عن الله في جميع الحالات يثمر للعبد رضى الله عنه فإن الجزاء من جنس العمل قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ, مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْط". رواه الترمذي وأحمد وابن ماجة وصححه الألباني عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه.
ومنها: أن السخط باب الهمِ والغم والحزن وشتات القلب وكسف البال وسوء الحال والظنِ بالله خلاف ما هو أهله، والرضى يخلصه من ذلك كله، ويفتح له باب جنة الدنيا قبل جنة الآخرة.
ومنها: أن الرضى يوجب له الطمأنينة وبرد القلب وسكونه وقراره، والسخط يوجب اضطراب قلبه وريبته وانزعاجه وعدم قراره.
ومنها: أن الرضى ينزل على المرء السكينة التي لا أنفع له منها، ومتى نزلت عليه السكينة استقام وصلحت أحواله، وصلح باله.
أما السخط فيبعده من السكينة بحسب قلته وكثرته، وإذا ترحلت عنه السكينة ترحل عنه السرور والأمن والدعة والراحة وطيب العيش.. فمن أعظمِ نعم الله على عبده تنزل السكينة عليه ومن أعظم أسبابها الرضى عنه في جميع الحالات.
ومنها: أن الرضى يوجب للعبد الطمأنينة وبرد القلب وسكونه وقراره والسخط يوجب اضطراب قلبه وريبته وانزعاجه وعدم قراره.
ومنها: أن الرضى يفتح له باب السلامة فيجعل قلبه سليما نقيا من الغش والدغل والغل.. ولا ينجو من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليم.. وكذلك تستحيل سلامة القلب مع السخط وعدم الرضى وكلما كان العبد أشد رضى كان قلبه أسلم فالخبث والدغل والغش قرين السخط، وسلامة القلب وبره ونصحه، قرين الرضى.
وكذلك الحسد هو ثمرة من ثمار السخط وسلامة القلب منه من ثمرات الرضى.
ومنها: أن من ملأ قلبه من الرضى بالقدر؛ ملأ الله صدره غنىً وأمناً وقناعةً وفرغَ قلبَه لمحبتهِ والإنابةِ إليه والتوكلِ عليه، ومن فاته حظه من الرضى؛ امتلأ قلبه بضد ذلك واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه؛ فالرضى يفرغ القلب لله.. والسخط يفرغ القلب من الله..
ومنها: أن الرضى يثمر الشكر الذى هو من أعلى مقامات الإيمان بل هو حقيقة الإيمان.. والسخط يثمر ضده وهو كفر النعم، وربما أثمر له كفر المنعم عياذاً بالهّ..
فإذا رضي العبد عن ربه في جميع الحالات؛ أوجب له ذلك شكره؛ فيكون من الراضين الشاكرين.. وإذا فاته الرضى؛ كان من الساخطين وسلك سبيل الكافرين.
ومنها: أن الرضى ينفي عن العبد آفات الحرص والكلب على الدنيا، وذلك رأس كل خطيئة وأصل كل بلية وأساس كل رزية فرضاه عن ربه في جميع الحالات؛ ينفي عنه مادة هذه الآفات.
ومنها: أن الشيطان إنما يظفر بالإنسان غالبا عند السخط والشهوة فهناك يصطاده ولاسيما إذا استحكم سخطه؛ فإنه يقول مالا يرضى الرب، ويفعل مالا يرضيه، وينوي مالا يرضيه؛ ولهذا قَالَ النبيُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ: «إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ» رواه البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
ذلك أن موت البنين من العوارض التي توجب للعبد السخط على القدر؛ فأخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لا يقول في مثل هذا المقام الذي يَسْخَطُهُ، أكثرُ الناسِ؛ فيتكلمون بما لا يرضي الله، ويفعلون مالا يرضيه.. وإنما يقول ويفعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يرضي الهن تبارك وتعالى.. اللهم رضّنا بقضائك، وبارك لنا في قدرك، حتى لا نُحب تعجيلَ شيءٍ أخّرته، ولا تأخيرَ شيءٍ عجّلته.. وصلى الهى وسلم..
الثانية:
أما بعد أيها الإخوة: لقد كان سلفنا الصالح رحمهم الله أهدى الناس قلوباً، يشهد بذلك كل من نظر في أحوالهم وتأمّل عباراتهم؛ وهذه الهداية جاءت عندما استقرّ الإيمان في قلوبهم، وعرفوا الله حق معرفته، وقدروه حقّ قدره، فجعل الله لهم فرقاناً يميّزون به بين الحق والباطل، وبصيرةً يُدركون بها بواطن الأمور، مصداقاً لقوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التغابن:11] قال علقمة رحمه الهن: "هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله، فيسلّم لها ويرضى".
أحبتي: لِننظر سويّاً إلى إيمانهم بالقضاء والقدر كيف كان أثره على كلماتهم؟ وكيف عبّروا عنه بإشراقةِ لفظٍ وجمالِ عبارةٍ وعميقِ معنى، حتى صارت حِكَماً تدور على ألسنة الخلق، ويُهتدى بها إلى الحق.
رُيَ عن علي بن أبى طالب رضي الله عنه أنه زار أحد المبتلين فقال له: "يا عدي، إنه من رضي بقضاء الله جرى عليه فكان له أجر، ومن لم يرض بقضاء الله جرى عليه فحبط عمله".
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "إن الله تبارك وتعالى بقسطه وعلمه جعل الرَوح والفرج في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط".
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه اله": "ما كنتُ على حال من حالات الدنيا فيسرنى أني على غيرها"، ومما حُفظ عنه قوله: "أصبحت وما لي سرورٌ إلا في مواضع القضاء والقدر".. واشتُهرت عنه دعواتٍ كان يُكثر من تردادها: "اللهم رضّني بقضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أُحب تعجيلَ شيءٍ أخّرته، ولا تأخيرَ شيءٍ عجّلته".
وقال عبد الواحد بن زيد: "الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين".
وأختم بقول الإمام ابن القيّم رحمه الله: "الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين، وقرة عيون المشتاقين، ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر، ملأ الله صدره غنىً وأمناً، وفرَّغ قلبه لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه، ومن فاته حظُّه من الرضا ، امتلأ قلبه بضدِ ذلك واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه". وبعد أحبتي: ما أحوجنا دوماً وهذه الأيام خصوصاً للرضا فقد تكاثرت علينا الهموم وكثرت الأقاويل وأرجف علينا المرجفون.. لنكن بالله، أكثر علاقة وبالتحلي بالرضا أكثر اتصافاً وعن السخط والتذمر أكثر بعداً.. لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضا.. وصلوا وسلموا..
أما بعد أيها الإخوة: حديثنا اليوم عن باب من أبواب جنة الدنيا، ومستراح من مستراحات العابدين، وعن قرة عيون المشتاقين.. حديثنا اليوم عن الرضا بالقضاء والقدر ذلكم الموقف النفسي العظيم الذي ما امتلأ به قلب عبد من عباد الله إلا ملأ الله صدره غنىً وأمناً، وفرَّغ قلبه لمحبته سبحانه، والإنابةِ إليه، والتوكلِ عليه، ومن فاته حظُّه من الرضا امتلأ قلبُه بضدِ ذلك، واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه.
أيها الإخوة: ما قضى الهم لا محالة آتٍ للعبد.. وما دام الأمر كذلك فعلى العبد أن يرضى بما قدر الله سبحانه وقد حث المصطفى صلى الله عليه وسلم على ذلك بطريقة من طرق تعليمه الجميلة فقَالَ: فيما رواه ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: (كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَالَ: "يَا غُلَامُ إِنِّي مُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ تَعَرَّفْ إلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ, يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ.. والشاهد من الحديث قوله: وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ, لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ, وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ, لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ, رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ, وَجَفَّتْ الصُّحُفُ.." رواه الترمذي وصححه الألباني.
لقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الغلام مع صغر سنه أن البشر لا يضرونه ولا ينفعونه إلا بحدود ما كتبه الله له. ولذلك قال بعض العارفين: (لا تقلق من تدابير البشر فأقصى ما يستطيعون فعله معك هو تنفيذ إرادة الله). وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أكثر من ستين فائدة للرضا نذكر منها: أن قضاء الله تعالى للعبد خير له على كل حال كما قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» رواه مسلم عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه.
وهذا للمؤمن فقط؛ لأنه يعلم أن كل شيء بقضاء الله وقدره، ولذا يقولون: إن ظاهرة التخلص من مشاكل الدنيا بالانتحار -عياذاً بالله- أقل ما تكون في المسلمين، وأكثر ما تكون في غير المسلمين؛ لأن الكافر لا يؤمن بقضاء الله ولا بقدره، فإذا أصيب في تجارة، أو أصيب بعاهة، أو أصيب في ولده، أو غير ذلك، فلا يجد أمامه إلا أن يهرب من الدنيا، أما المؤمن فيعلم أن هذا قدر الله عليه، فإن صبر عليه فله الأجر.
يقول بعض العلماء: لو قيل: إن هذا الحديث نصف الإسلام لما كان في ذلك مبالغة.لأنه يجمع للإنسان أطراف كل الفوائد والمعارف.
ومنها: أن الرضى عن الله في جميع الحالات يثمر للعبد رضى الله عنه فإن الجزاء من جنس العمل قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ, مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْط". رواه الترمذي وأحمد وابن ماجة وصححه الألباني عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه.
ومنها: أن السخط باب الهمِ والغم والحزن وشتات القلب وكسف البال وسوء الحال والظنِ بالله خلاف ما هو أهله، والرضى يخلصه من ذلك كله، ويفتح له باب جنة الدنيا قبل جنة الآخرة.
ومنها: أن الرضى يوجب له الطمأنينة وبرد القلب وسكونه وقراره، والسخط يوجب اضطراب قلبه وريبته وانزعاجه وعدم قراره.
ومنها: أن الرضى ينزل على المرء السكينة التي لا أنفع له منها، ومتى نزلت عليه السكينة استقام وصلحت أحواله، وصلح باله.
أما السخط فيبعده من السكينة بحسب قلته وكثرته، وإذا ترحلت عنه السكينة ترحل عنه السرور والأمن والدعة والراحة وطيب العيش.. فمن أعظمِ نعم الله على عبده تنزل السكينة عليه ومن أعظم أسبابها الرضى عنه في جميع الحالات.
ومنها: أن الرضى يوجب للعبد الطمأنينة وبرد القلب وسكونه وقراره والسخط يوجب اضطراب قلبه وريبته وانزعاجه وعدم قراره.
ومنها: أن الرضى يفتح له باب السلامة فيجعل قلبه سليما نقيا من الغش والدغل والغل.. ولا ينجو من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليم.. وكذلك تستحيل سلامة القلب مع السخط وعدم الرضى وكلما كان العبد أشد رضى كان قلبه أسلم فالخبث والدغل والغش قرين السخط، وسلامة القلب وبره ونصحه، قرين الرضى.
وكذلك الحسد هو ثمرة من ثمار السخط وسلامة القلب منه من ثمرات الرضى.
ومنها: أن من ملأ قلبه من الرضى بالقدر؛ ملأ الله صدره غنىً وأمناً وقناعةً وفرغَ قلبَه لمحبتهِ والإنابةِ إليه والتوكلِ عليه، ومن فاته حظه من الرضى؛ امتلأ قلبه بضد ذلك واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه؛ فالرضى يفرغ القلب لله.. والسخط يفرغ القلب من الله..
ومنها: أن الرضى يثمر الشكر الذى هو من أعلى مقامات الإيمان بل هو حقيقة الإيمان.. والسخط يثمر ضده وهو كفر النعم، وربما أثمر له كفر المنعم عياذاً بالهّ..
فإذا رضي العبد عن ربه في جميع الحالات؛ أوجب له ذلك شكره؛ فيكون من الراضين الشاكرين.. وإذا فاته الرضى؛ كان من الساخطين وسلك سبيل الكافرين.
ومنها: أن الرضى ينفي عن العبد آفات الحرص والكلب على الدنيا، وذلك رأس كل خطيئة وأصل كل بلية وأساس كل رزية فرضاه عن ربه في جميع الحالات؛ ينفي عنه مادة هذه الآفات.
ومنها: أن الشيطان إنما يظفر بالإنسان غالبا عند السخط والشهوة فهناك يصطاده ولاسيما إذا استحكم سخطه؛ فإنه يقول مالا يرضى الرب، ويفعل مالا يرضيه، وينوي مالا يرضيه؛ ولهذا قَالَ النبيُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ: «إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ» رواه البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
ذلك أن موت البنين من العوارض التي توجب للعبد السخط على القدر؛ فأخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لا يقول في مثل هذا المقام الذي يَسْخَطُهُ، أكثرُ الناسِ؛ فيتكلمون بما لا يرضي الله، ويفعلون مالا يرضيه.. وإنما يقول ويفعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يرضي الهن تبارك وتعالى.. اللهم رضّنا بقضائك، وبارك لنا في قدرك، حتى لا نُحب تعجيلَ شيءٍ أخّرته، ولا تأخيرَ شيءٍ عجّلته.. وصلى الهى وسلم..
الثانية:
أما بعد أيها الإخوة: لقد كان سلفنا الصالح رحمهم الله أهدى الناس قلوباً، يشهد بذلك كل من نظر في أحوالهم وتأمّل عباراتهم؛ وهذه الهداية جاءت عندما استقرّ الإيمان في قلوبهم، وعرفوا الله حق معرفته، وقدروه حقّ قدره، فجعل الله لهم فرقاناً يميّزون به بين الحق والباطل، وبصيرةً يُدركون بها بواطن الأمور، مصداقاً لقوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التغابن:11] قال علقمة رحمه الهن: "هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله، فيسلّم لها ويرضى".
أحبتي: لِننظر سويّاً إلى إيمانهم بالقضاء والقدر كيف كان أثره على كلماتهم؟ وكيف عبّروا عنه بإشراقةِ لفظٍ وجمالِ عبارةٍ وعميقِ معنى، حتى صارت حِكَماً تدور على ألسنة الخلق، ويُهتدى بها إلى الحق.
رُيَ عن علي بن أبى طالب رضي الله عنه أنه زار أحد المبتلين فقال له: "يا عدي، إنه من رضي بقضاء الله جرى عليه فكان له أجر، ومن لم يرض بقضاء الله جرى عليه فحبط عمله".
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "إن الله تبارك وتعالى بقسطه وعلمه جعل الرَوح والفرج في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط".
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه اله": "ما كنتُ على حال من حالات الدنيا فيسرنى أني على غيرها"، ومما حُفظ عنه قوله: "أصبحت وما لي سرورٌ إلا في مواضع القضاء والقدر".. واشتُهرت عنه دعواتٍ كان يُكثر من تردادها: "اللهم رضّني بقضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أُحب تعجيلَ شيءٍ أخّرته، ولا تأخيرَ شيءٍ عجّلته".
وقال عبد الواحد بن زيد: "الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين".
وأختم بقول الإمام ابن القيّم رحمه الله: "الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين، وقرة عيون المشتاقين، ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر، ملأ الله صدره غنىً وأمناً، وفرَّغ قلبه لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه، ومن فاته حظُّه من الرضا ، امتلأ قلبه بضدِ ذلك واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه". وبعد أحبتي: ما أحوجنا دوماً وهذه الأيام خصوصاً للرضا فقد تكاثرت علينا الهموم وكثرت الأقاويل وأرجف علينا المرجفون.. لنكن بالله، أكثر علاقة وبالتحلي بالرضا أكثر اتصافاً وعن السخط والتذمر أكثر بعداً.. لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضا.. وصلوا وسلموا..
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق