الرشـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوة (تعميم) 1444/10/29ه
يوسف العوض
الخطبة الأولى
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: نَهَى الْإِسْلَامُ عَنْ كُلِّ وَسِيلَةٍ يُنْتَصَرُ فِيهَا لِلْبَاطِلِ عَلَى الْحَقِّ، أَوْ تَضِيعُ بِهَا حُقُوقُ النَّاسِ، وَلَمَّا كَانَتِ الرِّشْوَةُ أَحَدَ الْوَسَائِلِ الَّتِي تُبْطِلُ الْحَقَّ أَوْ تُحِقُّ الْبَاطِلَ فَقَدْ حَرَّمَ الْإِسْلَامُ طَلَبَهَا، وَبَذْلَهَا، وَقَبُولَهَا، وَجَعَلَهَا مِنَ السُّحْتِ الْحَرَامِ، وَمِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ، كَمَا يَحْرُمُ عَمَلُ الْوَسِيطِ بَيْنَ الرَّاشِي وَالمُرْتَشِي، وَهِي حَرَامٌ عَلَى الآخِذِ وَالمُعْطِي؛ فَقَدْ تَوَعَّدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَعَاطِيَ لِلرِّشْوَةِ وَالْمُتَعَامِلَ بِهَا بِالطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ عَنْ رَحْمَةِ اللهِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ " الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الآخِذُ فِي وَظِيفَةٍ مِنَ الْوَظَائِفِ الْعَامَّةِ أَوِ الْخَاصَّةِ أَوْ غَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّهَا أَكْلٌ لِلْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَآكِلُهُ مُتَوَعَّدٌ بِالنَّارِ؛ فَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ:وَمَعْنَى الرِّشْوَةِ هي كُلُّ مَا يُعْطَى لِإِبْطَالِ حَقٍّ، أَوْ لِإِحْقَاقِ بَاطِلٍ وعلى هذا فَهِي- إذاً- تُفْسِدُ الذِّمَمَ وَالْقِيَمَ، وَتُخَرِّبُ الشُّعُوبَ وَالْأُمَمَ، وَتَجْعَلُ الْحَقَّ بَاطِلًا وَالْبَاطِلَ حَقًّا ، إِنَّ بَذْلَ الرِّشْوَةِ لِلْحُصُولِ عَلَى عَمَلٍ أَوْ مَنْصِبٍ أو نجاحٍ أو ماشابه ذلك فيُعْتَـبَـرُ خِيَانَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَغِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ، حَيْثُ يُؤَدِّي هَذَا إِلَى إِسْنَادِ الْأَمْرِ إِلَى غَيْرِ الْأَكْفَاءِ، وَكَفَى بِهِ تَضْيِيعًا لِلْأَمَانَةِ، وَتَقْوِيَةً لِلتَّلَاعُبِ وَالْخِيَانَةِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: والْأَصْلُ فِي الْهَدِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ هُوَ الاسْتِحْبَابُ؛ لِمَا تَجْلِبُهُ مِنَ الْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ، غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ حَالَاتٍ يَحْرُمُ فِيهَا بَذْلُ الْهَدِيَّةِ وَقَبُولُهَا؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ صُورَةً مِنْ صُوَرِ الرِّشْوَةِ، وَمِنْ تِلْكَ الْحَالَاتِ: مَنْ تَوَلَّى عَمَلًا أَوْ مَنْصِبًا يَتَعَلَّقُ بِشُؤُونِ النَّاسِ وَمَصَالِحِهِمْ، لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَغِلَّ مَنْصِبَهُ فَيَأْخُذَ شَيْئًا بِاسْمِ الْهَدِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا مُقَابِلَ الْقِيَامِ بِوَاجِبِهِ الْمُوكَلِ إِلَيْهِ، أَوْ لِجَرِّ مَنْفَعَةٍ مَا؛ لِئَلَّا يُتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى إِبْطَالِ حَقٍّ أَوْ إِحْقَاقِ بَاطِلٍ؛ لِحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسْدٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الأُتَبِيَّةِ عَلَى صَدَقَةٍ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى المِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ العَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ: هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي، فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ»، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ -أَيْ بَيَاضَهُمَا- «أَلا هَلْ بَلَّغْتُ»- ثَلَاثًا - رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: وَمِنْهَا: مَا يُعْطِيهِ بَعْضُ الطُّلَّابِ أَوْ أَوْلِيَاؤُهُمْ لِبَعْضِ الْمُدَرِّسِينَ مُقَابِلَ الْحُصُولِ عَلَى النَّجَاحِ أَوْ زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ، أَوِ الْحُصُولِ عَلَى الشَّهَادَاتِ الْعِلْمِيَّةِ الْمُزَوَّرَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: "وَلَا تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" .
الخطبة الثانية
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ:احْرِصُوا عَلَى الطَّيِّبِ مِنَ الرِّزْقِ وَالْحَلَالِ مِنَ الْمَالِ؛ فَإِنَّ فِيمَا أَحَلَّ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى غُنْـيَةً عَمَّا حَرَّمَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: "كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي .وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى"، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْكَسْبَ الْحَرَامَ لَهُ آثَارٌ سَيِّئَةٌ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ، فَمِنْ تِلْكَ الْآثَارِ: أَنَّهُ يُعْمِي البَصيرَةَ، وَيُقَسِّي القُلُوبَ، وَيُضْعِفُ الدِينَ، وَيُصعّبُ الطَّاعَةَ، وَتُنْزَعُ الْبَرَكَةُ مِنْ الرْزَقَ، وَيُحْرَمُ قَبُولَ الدُّعَاءِ، وَيَنْتَشِرُ الْفَسَادُ، وَتَكْثُرُ المَظَالِمُ. وَإِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: "يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ" وَقَالَ: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ" ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ ، يَا رَبِّ ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.