الرزق

عنان عنان
1436/02/15 - 2014/12/07 22:05PM
( الرزق )

( الخُطبةُ الاولى )
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله-صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا-أما بعد:

عِبادَ اللهِ: اعملوا فكُلٌّ مُيسرٌ لما خُلِقَ لهُ، فواللهِ لوْ كانَ الرزقُ في أيدي النَّاسِ لبغى بعضُهم على بعضٍ، ولظلمَ بعضُهم بعضاً، ولِتَناحرَ بعضُهم على بعضٍ، فسبحانَ اللهِ الرزاقِ ذي القوةِ المتينِ، الذي جعلَ الرزقَ في يدِهِ، فاللهُ لا يَغفلُ ولا ينسى ولكنَّ العبدَ يغفلُ وينسى، اللهُ لا يظلمُ ولا يبغي بلْ يتفضلُ ويُنعِمُ ويُحسِنُ ويَرحمُ وهوَ اللطيفُ الخبيرُ قالَ تعالى: [وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ*وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ*فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ].

عِبادَ اللهِ: إنَّ همَّ الرزقُ قدْ أشغلَ قلوبَ وعقولَ النَّاسِ، وجعلهم يعملونَ في اليومِ أكثرَ مِنْ عملٍ، جعلهم ينغمسونَ في المادياتِ ويطغونها على الروحانياتِ، جعلَ عندهم هلعاً وجزعاً وطَمَعاً عندما يسمعونَ بإرتفاعِ الاسعارِ، جعلَ عندَهم حِرصاً على الدنيا، وكأنَّهم لا يعلمونَ أنَّ اللهَ تكفَّلَ بالرزقِ لجميعِ خلقهِ إنسِهم وجنِّهم ومؤمنِهم وكافِرهم وقويِّهم وضعيفِهم وكبيرِهم وصغيرِهم، قالَ تعالى: [وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ]، جاءَ أحدُهم إلى أحدِ الصالحينَ يشتكي مِنْ إرتفاعِ الاسعارِ والاثمانِ، قالَ الصَّالحُ: واللهِ ما أُبالي لوْ أنَّ حبةَ الشعيرِ بدينارٍ عليَّ أنْ أعبدَهُ كما أمرَني وعليهِ أنْ يرزقَني كما وعدني، قالَ تعالى: وما خلقتُ الجنَّ والانسَ إلَّا ليعبدونِ-ما أُريدُ منهم مِنْ رزقٍ وما أُريدُ أنْ يُطعمونَ-إنَّ اللهَ هُوَ الرزاقُ ذو القوةِ المتينِ.

عبادَ اللهِ: إنَّ ارزاقَنا قدْ كُتِبتْ ونحنُ في بطونِ أُمهاتِنا، قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( إنَّ أحدَكم يُجمعُ في بطنِ أمِّهِ أربعينَ يوماً نطفةً، ثُمَّ يكونُ علقةً مثلَ ذلكَ، ثُمَّ يكونُ مُضغةً مثلَ ذلكَ، ثُمَّ يُرسَلُ إليهِ الملكُ فيؤمرُ بأربعِ كلماتٍ، بكتبِ رزقهِ وأجلهِ وذكرٍ أوْ أنثى أوْ شقيِّ أوْ سعيدٍ" متفقٌ عليهِ".

عِبادَ اللهِ: تعالوا لِنَعيشُ في أجواءِ تلكَ الحديثِ العظيمِ، قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (( إنَّ روحَ القُدسِ-أيْ جبريلَ نفثَ في رَوعيِّ-أي نفَسي- فقالَ: لنْ تموتَ نفساً حتى تستكملَ رزقَها وأجلَها، فأجملوا في الطلبِ، ولا يحملنَّ أحدُكم إستبطاءَ الرزقِ، فإنَّ ما عندَ اللهِ لا يَنالُ إلَّا بِطاعتهِ" حديثٌ صحيحٌ".
ينبغي أنْ تعلمَ أنَّ اللهَ تكفَّلَ بالارزاقِ، وأنَّ الارزاقَ مقسومةٌ، وأنَّ الاجالَ محتومةٌ، قالَ تعالى: (( وما مِنْ دابةٍ في الارضِ إلَّا على اللهِ رزقُها )) مِنَ النملةِ إلى الفيلِ، وتأملْ أنَّ الرزقَ آتيكَ آتيكَ ولو هَربتَ منهُ، قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: لوْ أنَّ ابنَ ادمَ هَرَبَ مِنْ رزقِهِ كما يَهرُبُ مِنَ الموتِ، لأدركَهُ الرزقُ كما يُدركُه الموتُ" حديثٌ صحيحٌ".
وقِيلَ لإحدِ الحكماءِ: لو أتينا برجلٍ فحبسناهُ في بيتٍ وأغلقنا عليهِ البابَ مِنْ أينَ يأتيهِ رزقُهُ؟ قالَ: مِنْ حيثُ يأتيهِ أجلُهُ.

عِبادَ اللهِ: اسمعوا لِهذهِ القصةَ وتأملوا بالنملةِ التي أيقنتْ أنَّ اللهَ لا يُضيعُ رزقَ مَنْ خلقَهُ،
قيلَ إنَّ نبيَّ اللهِ سليمانَ عليهِ السلامُ سألَ نملةً : كمْ تأكلينَ في العامِ؟ قالتْ: آكلُ حبتينِ مِنَ القمحِ، فوضعَ لها نبيُّ اللهِ سليمانَ حبتينِ مِنَ القمحِ، ومضى عامٌ كاملٌ، فنظرَ إليها فوجدَها قدْ أكلتْ حبةً واحدةً منَ القمحِ وأبقتْ على الأخرى، فقالَ لها: أيتها النملةُ ألمْ تخبريني أنكِ تأكلينَ في كلِّ عامٍ حبتينِ مِنَ القمحِ؟! فلماذا أكلتِ حبةً واحدةً؟ فقالتْ النملةُ: يا نبيَ اللهِ سليمانَ، كنتُ آكلُ حبتينِ مِنَ القمحِ وأنا متيقنةٌ وواثقةٌ بأنَّ الله َالرازقُ سيبعثُ إليّ بغيرها، لكنني لما علمتُ أنك الذي توليتَ أمَر رزقي خِفتُ أنْ تنساني فأكلتُ حبةً وادخرتُ الحبةَ الأخرى للعامِ القادمِ.

عِبادَ اللهِ: أمَّا قولُهُ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فأجملوا بالطلبِ، أيْ أُطلبوا الرزقَ بالحلالِ لا بالحرامِ، ولا يحمِلنَّ أحدُكم إستبطاءَ الرزقِ، بعضُ النَّاسِ يتعجلُ في قضيةِ الرزقِ، فإذا أبطأَ عليهِ الرزقُ أخذهُ بغيرِ ما أحلَّ اللهُ، وصارَ همُّهُ الحصولَ على الرزقِ بما شُرعَ وبما لمْ يُشرعْ، وهذا يأتي مِنْ ضِعفِ الثقةِ والايمانِ بأنَّ اللهَ هوَ الرزاقُ ذو القوةِ المتينِ، فيبدأُ بالتشكي وعدمِ الرضا، كتبَ عمرٌ إلى أبي موسى الاشعري رضيَ اللهم عنهم جمعياً أما بعدُ: فإنَّ الخيرَ كلَّهُ في الرضا، فإنِ إستطتعتَ أنْ ترضى وإلَّا فاصبر.
وما أجملَ قولَ ابنِ القيمِ حينَ قالَ:
وإذا اعترتْكَ بليةٌ فاصبرْ لها * * صــبرَ الكريمِ فإنَّه بكَ أكرمُ
وإذا شكوتَ إلى ابْنِ آدمَ إنما * * تشكو الرَّحيمَ إلى الذي لا يرحم.
وأسمعوا لهذهِ القصةَ الجميلةَ: دخلَ الإمامُ عليٌّ بنُ أبي طالبٍ رضيَ اللهُ عنهُ مسجدَ الكوفةَ يوماً وقالَ لرجلٍ كانَ واقفاً على باب ِالمسجدِ : أمسكْ بغلتي فأخذَ الرجلُ لجامَ البغلةِ وتركها فخرجَ الإمامُ عليٌّ منَ المسجدِ وفي يدهِ درهمينِ ليكافئَ بهما الرجلُ على إمساكهِ بغلتَه فوجدَ البغلةَ واقفةً بغيرِ لجامٍ فركبها ومضى ثم دفعَ لغلامهِ الدرهمينِ ليشتري بهما لجاماً جديداً للبغلةِ فلما ذهبَ الغلامُ إلى السوقِ وجدَ اللجام َفي السوقِ وقدْ باعه السارقُ بدرهمينِ فقالَ الإمامُ عليٌّ رضيَ اللهُ عنهُ : إنَّ العبدَ ليُحرمَ نفسَهُ الرزقَ الحلالَ بتركِ الصبرِ .
وبعضُ الناسِ يطلبُ الرزقَ الحرامَ، بحجةِ أنَّ اللهَ كتبَ عليهِ ذلكَ
أُتيَ بسارقٍ إلى أميرِ المؤمنينَ عمرَ بنِ الخطابِ -رضيَ اللهُ عنهُ-، فسألهُ عمرٌ: لمَ سرقتَ؟ فقالَ: قدرُ اللهِ ذلكَ. فقالَ عمرٌ -رضي الله عنه-: اضربوه ثلاثينَ سوطًاً، ثُمَّ اقطعوا يدَه) فقيلَ لهُ: ولِمَ؟ فقالَ: يُقطع لسرقتهِ، ويُضرب لكذبهِ على اللهِ.فنجدُ أنَّ هذا الرجلَ احتجَّ بالقدرِ على معصيةِ اللهِ، فأمرَ أميرُ المؤمنينَ عمرَ -رضي الله عنه- بجلده ِثلاثينَ جلدةً، بالإضافةِ إلى قطعِ يدِهِ تعذيرًا له، لأنَّهُ كذبَ على اللهِ.
قال أحدهم :
جُمع الحرامُ على الحلالِ ليكثره * * * دخلَ الحرامُ على الحلالِ فبعثره

عِبادَ اللهِ: وأمَّا قولُه صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: فإنَّ ما عندَ لا ينالُ إلَّا بطاعتهِ، قدْ يقولُ قائلٌ: نحنُ نرى أنَّ الكفارَ والفجارَ بسطَ اللهُ لهم الرزقَ ووسع عليهم معيشتَهم في الحياةِ الدنيا، الجواب: هُوَ ما قالَهُ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: إذا رأيتَ اللهَ يُعطي العبدَ على ما يُحبُّ مِنَ النَّعمِ، والعبدُ مقيمٌ على معاصيهِ فاعلم أنَّما هُوَ إستدراجٌ مِنَ اللهِ، ثُمَّ قرأَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَّ فلمَّا نسوا ما ذُكِّروا به فتحنا عليهم أبوابَ كُلِّ شيءٍ حتى إذا فَرِحوا بما أُوتوا أخذناهم بغتةً فإذا هم فيهِ مُبلسونَ. رواه احمد".
وقالَ تعالى: سنتدرجهم مِنْ حيثُ لا يعلمونَ-وأُملي لهم إنَّ كيدي متينٌ. قالَ أهلُ التفسير: هُوَ العبدُ يَعصي اللهَ فيرزقهُ اللهُ نعمةً. لا تظنْ أنَّ اللهَ إذا رزقَ الكافرَ والفاجرَ هوَ راضٍ عنهُ كلا بلْ يرزقُهم لِعذِّبَهم في أموالِهم، قالَ تعالى: (( فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ))
وهذا مِنْ هوانِ الدنيا عندَ اللهِ، أنَّهُ يرزقُ مَنْ يكفرْ بهِ ويعصيهِ، قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم: لو كانتِ الدنيا تسوى عندَ اللهِ جناحَ بعوضةٍ، ما سقى منها كافراً شربةَ ماءٍ".
وأحياناً اللهُ عزَّ وجلَّ يُقللُ الرزقَ على العبدِ رحمةً بهِ، لأنَّ اللهَ يعلمُ ما في قلبِ هذا العبدِ، ويعلمُ أنَّهُ لوْ رزقهُ لطغى وفجرَ وأفسدَ في الارضِ، قالَ تعالى: (( ولوْ بسطَ اللهُ الرزقَ لِعبادِهِ لبغوا في الارضِ ولكنَّ اللهَ يُنزِّلُ بقدرٍ ما يشاءُ إنَّهُ بعبادهِ خبيرٌ بصيرٌ ))". وجاءَ في الاثرِ عَنِ ابنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ قالَ: يأتي الرجلُ فيقولُ يا ربِّ ارزقني ارزقني، فيقولُ اللهُ لملائكتهِ: اصرفوا عني عبدي فإنَّي لوْ رزقتُهُ لطغى".

أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فأستغفروه وتوبوا إليهِ إنَّهُ هُوَ التوابُ الرحيمُ

( الخُطبةُ الثانيةُ )

أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ: يقولُ عليٌّ رضيَ اللهُ عنه: الرزقُ رزقانِ، رزقٌ يأتيك ولوْ على ضِعفكَ، ورزقُ لا يأتيك الا بسعيكَ، فالاولُ مِنْ فضلِ اللهِ، والاخرُ مِنْ عدلِ اللهِ".

عِبادَ اللهِ: وصايا أخيرةٌ أوصي نفسي وإياكم بها
إياكم إياكم أنْ تأكلوا المالَ الحرامَ، قالَ أهلُ العلمِ: مَنْ أكلَ الحرامَ ابتلاهُ اللهُ بإولادهِ، لإنَّهُ أكلَ الحرامَ لإجلِهم، فكانَ الجزاءُ مِنْ جنسِ العملِ. وقالوا: هناك ذنوبٌ لا تُكفَّرُ إلَّا بالابناءِ.
وإحدى زوجاتِ الصالحينَ توصي زوجها وهُوَ ذاهبٌ لطلبِ الرزقِ، فتقولُ لهُ: اتقِ اللهَ فينا فإنَّا نصبِرُ على الجوعِ، ولا نصبِرُ على عذابِ اللهِ. لا إلهَ إلَّا اللهُ.

إياكم أنْ يَلهيَكم الرزقُ عَنْ طاعةِ اللهِ، قالَ تعالى: (( يايها الذينَ امنوا لا تُلهكم أموالُكم ولا أولادُكم عَنْ ذكرِ اللهِ ومَنْ يفعلْ ذلكَ فأولئكَ هم الخاسرونَ ))".

وإياكم أنْ تغتروا بكثرةِ الرزقِ، ويورثُ لكم الكبرَ والعُجبَ، فنتظروا إلى النَّاس على أنَّهم حثالةٌ، وهذا داءٌ انتشرَ بكثرةٍ في هذا الزمنِ، وخاصةً في المصلينَ، قال أبو وهب المروزي:-
سألتُ ابنَ المبارك: ما الكبرُ؟
قالَ: أن~ تزدري الناسَ.
فسألته عنِ العُجْبِ؟
قال: أن ترى أنَّ عندك شيئًا ليسَ عندَ غيرِكَ، لا أعلمُ في المصلينَ شيئًا شرًّا من العُجْبِ.
((سيرُ أعلامِ النبلاءِ))

هذه الدنيا لا تحتاج منَّا لهذه الافعالِ القذرةِ، لإنَّ الدنيا حقيرةٌ وفانيةٌ وزائلةٌ، وهيَ دارُ التواءٍ لا دارَ استواءٍ،
وما أجملَ ما قالَ الشاعرُ عنها:
يقول الشاعر: هكذا الدنيا:
صغير ود لو كبرا *** وشيخ ود لو صغرا
وخال يشتهى عملا *** وذو عمل به ضجرا
ورب المال في لعب *** وفى تعب من افتقرا
وهم لو آمنوا *** بالله رزاقا ومقتدرا
لما لاقوا الذي *** لا قوة لا هما ولا كدرا".
المشاهدات 5058 | التعليقات 0