الرزاق

عبدالله اليابس
1437/12/28 - 2016/09/29 18:53PM
الرزاق الجمعة 29/12/1437هـ
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب, أظهر الحق بالحق وأخزى الأحزاب, وأتمَّ نوره، وجعل كيد الكافرين في تباب, أرسل الرياح بشرًى بين يدي رحمته وأجرى بفضله السحاب, وأنزل من السماء ماء، فمنه شجر، ومنه شراب, جعل الليل والنهار خلفة فتذكر أولو الألباب, وأشهد أن لا إله إلا الله العزيزُ الوهاب, الملُك فوق كل الملوك ورب الأرباب, الحَكَمُ العدل يوم يُكشف عن ساق وتوضع الأنساب, غافرُ الذنب وقابلُ التوب شديدُ العقاب, خلق الناس من آدم وخلق آدم من تراب, خلق الموت والحياة ليبلونا وإليه المآب, وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المستغفِر التواب, المعصوم صلى الله عليه وسلم في الشيبة والشباب, خُلُقه الكتاب، ورأيه الصواب، وقوله فصل الخطاب, قدوة الأمم، وقمة الهِمَم، ودرة المقربين والأحباب, عُرضت عليه الدنيا بكنوزها، فكان بلاغه منها كزاد الركاب, ركب البعير، ونام على الحصير، وخصف نعله ورتق الثياب, أضاء الدنيا بسنته، وأنقذ الأمة بشفاعته، وملأ للمؤمنين براحته من حوضه الأكواب, اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى الآل والأصحاب, ما هبت الرياح بالبشرى وجرى بالخير السحاب, وكلما نبت من الأرض زرع، أو أينع ثمر وطاب.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم .. موعدنا اليوم مع الملك .. نعطر مجلسنا بذكره والثناءِ عليه .. موعدنا اليوم مع الملك .. ليس ملِكاً من ملوك الدنيا .. وإنما ملك الملوك جل جلاله ..
يا جهولا بربّه يا غفولاً *** عن صريح الآيات والبيّنات
كم ترى في حياتنا من فنونٍ *** ورســـومٍ خلاّبةٍ هائمات
أين عيناك عن تملّي جمالٍ *** في أفانين فضله الناطقات
إنه الله سلوةً وضياءً *** في سماءِ العُبّادِ والعابداتِ
لله تعالى الأسماء الحسنى والصفات العليا: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}.
أسماء الله تعالى كلها حسان .. تدل على عظم المسمى جل جلاله.
نتوقف اليوم بإذن الله مع اسم من أسماء الله تبارك وتعالى.. (الرازق.. الرزاق).
ورد هذا الاسم في كتاب الله تعالى بصيغة التفضيل خمس مرات: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}, وقال - جل وعلا -: {وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} ، وقال - جل وعلا -: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}
وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما عند أحمد وأبي داوود: (إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق)
واللهُ وهابٌ لكلِ عبادِه *** واللهُ رزاق لِمَنْ أَنشاه
الرزاق هو الذي بيده أرزاق العباد وأقواتُهُم، وهو -جل وعلا- الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، الذي بيده أزِمَّة الأمور ومقاليد السموات والأرض، قال الله تعالى-: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا}, وقال - جل وعلا -: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، وقال - جل وعلا -: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً}.
أرزاق العباد كلُّها بيد الله، أقوات العباد: طعامهم، شرابهم، غذاؤهم، جميع أمورِهم، كلُّ ذلك بيد الله - جل وعلا -، فهو المعطي المانع، القابض الباسط، الذي بيده جميع الأمور، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم.
الرزاق .. يرزق الثعبان في جحره, والطير في وكره, والنحل في خليتها, والسمك في بحره, والجنين في بطن أمه, يرزق الإنس والجن, يرزق الصغار والكبار, الرجال والنساء, بيده وحده الأرزاق سبحانه وتعالى عما يشركون.
لن تموت نفس حتى تأخذ رزقها وافياً كاملاً.. لن ينقص منه شيء, روى ابن الأثير وصححه الشيخ الألباني من حديث ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبي أمامة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ روحَ القدُسِ نفثَ في رَوعي أنَّهُ لَن تموتَ نفسٌ حتَّى تستَكمِلَ رزقَها فاتَّقوا اللَّهَ وأجمِلوا في الطَّلَبِ) .
رزقك مكتوب مقدر منذ كنت في بطن أمك, جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ خَلْقَ أحدِكم يُجمعُ في بطنِ أُمِّهِ أربعين يومًا أو أربعين ليلةً، ثم يكونُ علقةً مثلَه، ثم يكونُ مضغةً مثلَه، ثم يُبعثُ إليه المَلَكُ، فيُؤذنُ بأربعِ كلماتٍ، فيكتبُ: رزقَه، وأجَلَه، وعملَه، وشقيٌّ أم سعيدٌ).
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}, من آمن باسم الله هذا حق الإيمان أورثه ذلك محبة الله تبارك وتعالى, وإفراده سبحانه بالعبادة.
من آمن باسم الله الرزاق حق الإيمان أورثه ذلك صدق التوكل على الرزاق سبحانه وتعالى, أورثه التعلق بالله جل جلاله .. مع فعل الأسباب الشرعية في طلب الرزق وعدم التعلق بها, لأنه سبحانه خالق الأسباب ومسبباتها, من آمن بهذا الاسم حق الإيمان أورثه ذلك الطمأنينة في القلب والسكينة وعدم الهلع والخوف من الرزق: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}.
لو سألت أي مسلم الآن من الذي يرزقك؟ لقال لك على البديهة: الله سبحانه وتعالى, ولو ضيق عليه في الرزق تجده يقول: سوف يقطع رزقي, وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن نقص الإيمان عند كثير من الناس بأن الله تعالى هو الرزاق.
من آمن باسم الله الرزاق حق الإيمان ترك الأسباب المحرمة في كسب الرزق, واستعلى عن الباطل وأهله عند مساومته على رزقه في ترك الحق أو فعل الباطل, {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ}.
أيها الإخوة .. إذا كان الرزق المتبادر إلى الأذهان عند إطلاقه هو الرزق الدنيوي فإن هناك نوعًا ثانياً من الرزق, يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله تعالى: "ورزقه لعباده نوعان: رزق عام شمل البر والفاجر, والأولين والآخرين, وهو رزق الأبدان. ورزق خاص وهو رزق القلوب وتغذيتها بالعلم والإيمان والرزق الحلال الذي يعين على صلاح الدين, وهذا خاص بالمؤمنين على مراتبهم منه بحسب ما تقتضيه حكمته ورحمته", قال ابن القيم رحمه الله:
وكـذلك الرزّاق مـن أسمـائـه *** والرّزق مـن أفعـاله نوعــان
رِزقٌ على يـد عبـده ورسـوله *** نوعان أيضًـا ذان معـروفــان
رزقُ القلوب العلم والإيمان والـ *** ــرّزقُ المـعـدّ لهـذه الأبــدان
هذا هـو الرّزق الحـلال وربّـُنا *** رزّاقـه والفـضــل للمـنّـان
والثّاني سَوقُ القوت للأعضـاء في *** تلك المجــاري سوقـه بِـوِزَان
هذا يكون مـن الحلال كما يكـ *** ـون من الحـرام كلاهـما رزقان
والله رازقـه بـهـذا الاعـتـبا *** ر وليس بالإطـلاق دون بيـان
ينبغي للإنسان أن يحرص على كسب الرزق الحقيقي النافع, الرزق الباقي, وهو الإيمان ونور القلب, وصلاح الدين, هذا هو الرزق الحقيقي, والمكسب الطيب الذي ينفع الإنسان في حياته وبعد مماته, روى الشيخان من حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يتبَعُ الميِّتَ ثلاثةٌ، فيرجعُ اثنان ويبقَى معه واحدٌ: يتبعُه أهلُه ومالُه وعملُه، فيرجِعُ أهلُه ومالُه ويبقَى عملُه).
والسؤال الذي ينبغي أن نسأله أنفسنا: هل حزننا على ضياع رزق الدين كحزننا على ضياع رزق الدنيا؟
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ وراقبوه في السر والنجوى, واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى .
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. يحزن الإنسان عند نقصان رزقه, أو ضياع شيء من ماله, أو فوات شيء مما كان يؤمل, لا يلام أحد على ذلك, فهذا الحزن أمر طبيعي, لكن اللوم يقع حين يسخط الإنسان, ويظن أن رزقه حين ذاك قد قُطع, ومستقبله ضيق عليه.
رزقك في السماء من عند الله وليس عند أحد من المخلوقين كائناً من كان, {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}, وما كتب لك لن يستطيع أحد أن يمنعه, روى الترمذي وغيره وصححه الشيخ الألباني رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: (واعلمْ أنَّ الأمةَ لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيءٍ، لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك، وإنِ اجتمعوا على أن يضُرُّوك بشيءٍ لم يضُروك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ عليك).
توكل على الله فهو الرزاق حقًا: روى عمر بن الخطاب كما عند الترمذي وهو صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرُزقتم كما يُرزّق الطير, تغدو خماصاً وتروح بطاناً).
اسأل الله أن يصلح لك دينك ودنياك وادع بما ورد عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقول (اللهمَّ! أَصلِحْ لي ديني الذي هو عصمةُ أمري, وأصلِحْ لي دنيايَ التي فيها معاشي, وأصلِحْ لي آخرتي التي فيها مَعادي, واجعلِ الحياةَ زيادةً لي في كلِّ خيرٍ , واجعلِ الموتَ راحةً لي من كلِّ شرٍّ ).
وتأمل هذا الحديث الذي رواه أبو داوود وغيره من حديث أبن عمر رضي الله عنهما قال: (لم يكن رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يدَعُ هؤلاءِ الدَّعواتِ حين يُمسي وحين يُصبح: اللهمَّ إني أسألُك العافيةَ في الدنيا والآخرةِ، اللهمَّ إني أسألك العفوَ والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهمَّ استُرْ عوْرتي وآمِنْ رَوْعاتي؛ اللهمَّ احفَظْني من بين يديَّ ومِن خلْفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذُ بعظَمتِك أن أُغتالَ مِن تَحتي).
ادع الله دائماً بالبركة في رزقك, روى النووي بإسناد صحيح أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه قال: أتيتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بوَضوءٍ فتوضَّأَ ، فسَمِعْتُهُ يَدعو يقولُ: (اللَّهمَّ اغفِرْ لي ذنوبي، ووسِّع لي في داري، وبارِكْ لي في رِزقي). فَقُلتُ: يا نبيَّ اللَّهِ لَقد سَمِعْتُكَ تَدعو بِكَذا وَكَذا، قالَ: (وَهَل تَراهُنَّ ترَكْنَ من شيءٍ؟)
أحسن تدبير أموالك وتجنب التبذير والإسراف فإنها خصلة شيطانية وممحقة للمال: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}.
عند ارتفاع الأسعار أو قلة الأموال لا ينفع اللوم أو التحسر, فإنه كلام يطير في الهواء ولا ينفع .. وإنما الذي ينفع الاعتماد على الله والاقتصاد في المعيشة, جعل الله تعالى رزقنا مدراراً ورزقنا البركة والتوفيق.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فاللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المرفقات

الرزاق 29-12-1437.docx

الرزاق 29-12-1437.docx

المشاهدات 1560 | التعليقات 1

أحسنت ياشيخ عبدالله .

نفع الله بكم وفتح لكم قلوب عباده