الرحـــــــــــــــــــــــــيل 1444/8/18ه
يوسف العوض
الخطبة الأولى
عِبَادَ اللهِ: إنَّ سَعَادَةَ المُؤْمِنِ الحَقِيقِيَّةَ هِيَ في الآخِرَةِ لَا في الدُّنْيَا، قَالَ تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الكَافِرِ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
لقد كان الإِمَامُ ابْنُ حَجَرٍ العَسْقَلَانِيُّ رَئِيسَ القُضَاةِ بِمِصْرَ، فَخَرَجَ يَوْمَاً بِأُبَّهَتِهِ، فَإِذَا بِرَجُلٍ يَهُودِيٍّ، في حَالَةٍ رَثَّةٍ، فَقَالَ اليَهُودِيُّ: قِفْ ، فَوَقَفَ ابْنُ حَجَرٍ، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ تُفَسِّرُ قَوْلَ رَسُولِكُمْ: «الدُنْيَا سِجْنُ المُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الكَافِرِ» وَهَا أَنْتَ تَرَانِي في حَالَةٍ رَثَّةٍ وَأَنَا كَافِرٌ، وَأَنْتَ في نَعِيمٍ وَأُبَّهَةٍ مَعَ أَنَّكَ مُؤْمِنٌ؟! فَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَنْتَ مَعَ تَعَاسَتِكَ وَبُؤْسِكَ تُعَدُّ في جَنَّةٍ، لِمَا يَنْتَظِرُكَ في الآخِرَةِ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ـ إِنْ مِتَّ كَافِرَاً ـ وَأَنَا مَعَ هَذِهِ الأُبَّهَةِ ـ إِنْ أَدْخَلَنِي اللهُ الجَنَّةُ ـ فَهَذَا النَّعِيمُ الدُّنْيَوِيُّ يُعَدُّ سِجْنَاً بِالمُقَارَنَةِ مَعَ النَّعِيمِ الذي يَنْتَظِرُنِي في الجَنَّاتِ ، فَقَالَ اليَهُودِيُّ: أَكَذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ اللهِ.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الغَفْلَةَ عَنْ هَذِهِ الحَقِيقَةِ ـ بِأَنَّ سَعَادَتَنَا في الآخِرَةِ لَا في الدُّنْيَا ـ تَجْعَلُ الكَثِيرَ مِنَ النَّاسِ يَغْفُلُونَ عَنْ يَوْمِ الرَّحِيلِ، لِذَا تَرَاهُمْ في لَهْوٍ وَفي غَفْلَةٍ، وَإِذَا ذُكِّرُوا يُسَوِّفُونَ وَيُسَوِّلُونَ، وَمَا عَلِمُوا بِأَنَّ المَوْتَ يَأْتِي بَغْتَةً، وَإِذَا جَاءَ لَا يَدَعُ صَاحِبَهُ يَسْتَدْرِكُ مَا فَاتَهُ، فَيَبْقَى في قَبْرِهِ مُرْتَهَنَاً بِعَمَلِهِ، مُتَحَسِّرَاً عَلَى مَا فَاتَهُ، وَمُتَمَنِّيَاً عَلَى اللهِ تعالى أَمَانِيَ لَا تُغْنِيهِ شَيْئَاً.
عِبَادَ اللهِ: يَا مَنْ أَكْرَمَكُمُ اللهُ تعالى بِنِعْمَةِ الإِيمَانِ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ، اسْتَعِدُّوا لِيَوْمِ الرَّحِيلِ مَا دَامَتِ الأَرْوَاحُ في الأَجْسَادِ، وَانْظُرُوا فِيمَنْ خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا وَنَدِمَ عَلَى مَا فَرَّطَ في جَنْبِ اللهِ تعالى، انْظُرُوا إِلَيْهِ مِنْ خِلَالِ كَلَامِ الصَّادِقِ الأَمِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
روى الطَّبَرَانِيُّ في الأَوْسَطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرٍ، فَقَالَ: «مَنْ صَاحِبُ هَذَا الْقَبْرِ؟».
فَقَالُوا: فُلَانٌ.
فَقَالَ: «رَكْعَتَانِ أَحَبُّ إِلَى هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ دُنْيَاكُمْ».
وفي رِوَايَةٍ لابْنِ المُبَارَكِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «رَكْعَتَانِ خَفِيفَتَانِ مِمَّا تَحْقِرُونَ وَتَنْفِلُونَ يَزِيدُهُمَا هَذَا فِي عَمَلِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ بَقِيَّةِ دُنْيَاكُمْ».
أُمْنِيَتُهُ وَهُوَ في قَبْرِهِ أَنْ يُمَدَّ لَهُ في أَجَلِهِ حَتَّى يَرْكَعَ للهِ تعالى رَكْعَتَيْنِ، وَكَأَنَّ هَذَا العَبْدَ شَاهَدَ مَصِيرَ تَارِكِ الصَّلَاةِ، مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ﴾.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الغَفْلَةَ عَنْ يَوْمِ الرَّحِيلِ تَجْعَلُ العَبْدَ في حَسْرَةٍ تَأْكُلُ فُؤَادَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، حَيْثُ يَتَمَنَّى أَنْ يَعُودَ إلى الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِيَكُونَ مِنَ الصَّالِحِينَ، لِيَعْمَلَ أَيَّ عَمَلٍ صَالِحٍ، لِيُصْلِحَ مَا أَفْسَدَ، وَيُطِيعَ اللهَ تعالى فِي كُلِّ مَا عَصَاهُ، لِيَذْكُرَ اللهَ تعالى وَلَو مَرَّةً، لِيُسَبِّحَ وَلَو تَسْبِيحَةً وَاحِدَةً، أَو يُهَلِّلَ تَهْلِيلَةً وَاحِدَةً، فَلَا يُؤْذَنُ لَهُ، يَكُونُ حَالُهُ حَالَ مَنْ قَالَ: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحَاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾، وَحَالَ مَنْ قَالَ: ﴿لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾ ، وَحَالَ مَنْ قَالَ: ﴿رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.
عِبَادَ اللهِ: نَحْنُ في أَعْظَمِ نِعْمَةٍ الآنَ، نِعْمَةِ الأَرْوَاحِ في الأَجْسَادِ، كَمْ وَكَمْ رَدَّ اللهُ تعالى أَرْوَاحَنَا إلى أَجْسَادِنَا؟ وَكَمْ وَكَمْ أَحْيَانَا بَعْدَ أَنْ أَمَاتَنَا؟
نَحْنُ الآنَ نَمْلِكُ نِعْمَةَ الحَيَاةِ، فَهَل نَزِيدُ مِنْ حَسَنَاتِنَا؟ وَهَلْ نَتُوبُ مِنْ سَيِّئَاتِنَا؟ وَهَلْ نَسْمَعُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اغْتَنِمْ خَمْسَاً قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ » رواه الحاكم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
عِبَادَ اللهِ: لِنَسْتَعِدَّ لِيَوْمِ الرَّحِيلِ قَبْلَ أَنْ نُوَسَّدَ في قُبُورِنَا، فَمَنْ وُسِّدَ في قَبْرِهِ لَنْ يَعُودَ إلى الدُّنْيَا، وَلَنْ يَسْتَطِيعَ أَنْ يَزِيدَ في حَسَنَاتِهِ؛ لِنَسْتَعِدَّ لِيَوْمِ الرَّحِيلِ مَا دُمْنَا في دَارِ العَمَلِ، فَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ فِيهَا نَدِمَ.
عِبَادَ اللهِ: مَا مِنْ مَيْتٍ قَصَّرَ في جَنْبِ اللهِ تعالى، وَمَاتَ وُهَوَ مُصِرٌّ عَلَى مَعْصِيَةِ اللهِ تعالى إِلَّا عَضَّ أَصَابِعَ النَّدَمِ، وَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إلى هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِيَعْمَلَ وَلَو حَسَنَةً وَاحِدَةً.
الخطبة الثانية
عِبَادَ اللهِ: مَا هِيَ إِلَّا أَيَّامٌ مَعْدُودَاتٌ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَاغْتَنِمُوهَا بِالحَسَنَاتِ قَبْلَ المَمَاتِ، وَبَادِرُوا بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ المَمَاتِ، قَبْلَ حُلُولِ الأَجَلِ، وَاعْتَبِرُوا مِمَّنْ قَالَ: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾.
وَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ الدَّقِيقَةَ التي تَمُرُّ عَلَيْنَا في حَيَاتِنَا الدُّنْيَا يَتَمَنَّى مِثْلَهَا مَلَايِينُ المَوْتَى لِيَسْتَثْمِرُوهَا في طَاعَةِ اللهِ تعالى، لِيُحْدِثُوا تَوْبَةً للهِ تعالى فِيهَا، لِيَذْكُرُوا اللهَ تعالى مَرَّةً وَاحِدَةً؛ وَلَكِنْ لَنْ تَتَحَقَّقَ لَهُمْ أَمَانِيهِمْ.
سَعَادَتُنَا هُنَا في طَاعَةِ اللهِ تعالى لَا في مَعْصِيَةِ اللهِ تعالى، فَمَنْ سَعِدَ هُنَا بِالطَّاعَاتِ وَتَرْكِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ، سَعِدَ هُنَاكَ بِجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا.