الرجولة

أيها المؤمنون.. يخلط كثيرون بين مفهومي الذكورة والرجولة، فيعتقدون أن الأولى معبرة عن الآخرة، وهذا خلط واضح في كلا المفهومين؛ فالذكورة هي فقط ضد الأنوثة، وهي اللفظة التي تبين جنس الإنسان دون التعرض لما يعتنقه من مبادئ أو أخلاق أو قيم، أما الرجولة فشيء مختلف تمامًا، حيث تتجلى فيها أخلاقيات ومبادئ الشخص ومدى استعداده لتحمل المسؤوليات المختلفة ومدى التزامه بشريعة الله -عز وجل-والتضحية والبذل من أجلها وفي سبيلها.

الرّجولة الحقة جاء ذكرها في القرآن الكريم خمسا وخمسين مرة، وهي تعني: اتّصاف المرء بما يتّصف به الرّجل عادة من الإيمان والقوة والشدة والسعي والجلادة ومكارم الأخلاق والنجدة والشهامة والأخلاق الحسنة والمواقف البطولية وغيرها من الصفات المشابهة.

والرجولة تفيد القوة على الأعمال، ولهذا يقال في مدح الإنسان إنه رجل، وهذه صفات وأحوال الرجال، والتي قد نهى الشرع أن تتصف بها المرأة الأنثى وتتشبه بالرجل فيها، وفي الحديث: (لعن اللّه الرّجلة من النّساء) صححه الألباني، بمعنى المترجّلة، اللّاتي يتشبّهن بالرّجال في زيّهم وهيآتهم .

عباد الله .. والرجولة نعمة من نعم الله تعالى، يمتن بها الله عز وجل على من يشاء من عباده، ويدل على ذلك قول الرجل المؤمن الذي يعلّم صاحبه الكافر أن الرجولة نعمة من الله تستحق الشكر (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا).

والرجولة صفة كمال يتميز بها الرجال عن النساء، ويتمثل ذلك من عدة أمور منها: في العقل، والدية، والمواريث، والقوامة، والإمامة، والقضاء، والشهادة، والجهاد، والغنيمة، والطلاق، والرجعة، وقد أوضحت آيات القرآن الكريم هذا المعنى.

ورسل الله تعالى كلهم رجال، ويدل على ذلك قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم).

وصفات الرجولة التي تحلى بها الأنبياء هي أعلى وأرقى صفات الرجولة الكاملة التي لا يمكن أن يصل إليها غيرهم من البشر، وذلك من الإيمان والتقوى والصلاح والمروءة وخشية الله تعالى، وتبليغ رسالته، والصبر على تحمل الشدائد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومكارم الأخلاق.

أيها الكرام .. ومن صفات الرجولة الإيمانية التي ذكرها القرآن، قوله جل شأنه (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) فذكر الله في هذه الآية الصفات الإيمانية التي ينبغي أن يتحلى بها الرجال.

ومن ذلك (أنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة) فالمحافظة على ذكر الله والصلاة من أبرز صفاتهم، فقد ذكر الله تعالى في كتابه العزيز أنهم رجال أعمال، وتجار بيع وشراء، وأهل غنى وسعة في هذه الحياة الدنيا، ليس لديهم وقت للفراغ، لكن ومع ذلك كله كانت تجارتهم مع الله تعالى أغلى وأعز وأثمن وأربح، فكان ذكر الله تعالى عندهم أربح تجارة، وكانت الصلاة بالنسبة لهم أغلى وأثمن بيع يتاجرون فيه، فلم يكن يشغلهم شيء عن ذكر الله وعن الصلاة.

كما تشير الآية إلى أن الرجال لا تلهيهم المناصب والأعمال والمشاغل بمختلف أنواعها عن الصلاة والذكر وغيرها من الواجبات.

مر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بالسوق وقد أغلقوا حوانيتهم وقاموا ليصلوا في جماعة، فقال: فيهم نزلت: (رجال لا تلهييهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة).

ومن صفات الرجولة أيها الأحبة التي ذكرتها الآية أنهم (يخافون يوم الحساب)، في ذلك اليوم العظيم يخافون عذاب الآخرة، عندما يتحول الطفل إلى شيخ كبير السن شعره أبيض من شدة المخاوف، وتذهل فيه المرضعة عما أرضعت.

وقد ذكر القرآن الكريم عددا من صفات الرجولة الحقة؛ من ذلك الطهارة من الأحداث والجنابات والنجاسات المذمومة؛ طلبًا لمرضاة الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين)

ومن صفات الرجولة التي ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز: عمارة المساجد. كما قال سبحانه (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رجال)

وتحصل عمارة المسجد بأحد أمرين: بناؤها لقصد وجه الله عز وجل، وعمارتها بالتسبيح والتحميد والتهليل والصلاة.

أيها الكرام .. كما أن من صفات الرجولة التي ذكرها القرآن الكريم هي: إيتاء الزكاة التي جعلها الله حقًا في أموال الأغنياء للفقراء، (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ)

من صفات الرجولة الحقة التي جاء ذكرها في القرآن " الوفاء بالعهد والوعد " يقول ربنا سبحانه (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا).

والوفاء بالعهد خلق من أخلاق الإسلام، وسمة من سماته، عاهدوا الله ثم صدقوا في الوعد، واستمروا عليه، وتشبثوا به، وساروا غير مضطربين ولا متحيرين، لا تعيقهم العوائق، ولا تقف أمامهم الصعوبات ولا الشهوات، ولا الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام .

ومن صفات الرجولة الحقة الوقوف في الشدائد ونصرة الحق والدفاع عنه، والتضحية في سبيله مهما يكن الثمن، ويدل على ذلك قوله تعالى ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين ) وقال سبحانه ( وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين )  ذكر القرآن الكريم في هذه الآيات هذا النموذج الفريد في إيمانه وصدقه وإخلاصه وشجاعته في نصرة الحق، رجال المواقف في ميدان الرجولة النادرة التي تخلى عنها الكثيرون، أن يقف مثل هذا الموقف الخالد الذي سجله القرآن وأثنى الله تعالى عليهم.

ومن صفات الرجولة التي ذكرها القرآن الكريم الوقوف في وجه المنكر ومحاربته بكل صوره وأشكاله. قال تعالى في قصة لوط عليه السلام (وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ۚ قَالَ يَا قَوْمِ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ۖ أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ) إن ظهور الرجل الرشيد في الفئة الضالة يفتح باب الرشاد لهم، فيأمر بمعروف، وينهى عن منكر، ويدفع أهل الشر والبغي.

ومن خلال هذه الآية يتضح بأن المجتمعات البشرية بحاجة إلى الرجال الأقوياء الأشداء الذين يقفون في وجه المنكر ويحاربونه، وإذا خلي المجتمع من هؤلاء الرجال، استفحل فيهم المنكر، وصار المنكر عملًا يتباهى به السفلة دون أن يردعهم عن ذلك رادع من أنفسهم ولا من غيرهم.

عباد الله .. وتظهر الرجولة في الجهاد في سبيل الله، والجهاد سنة ماضية في سبيل الله، لا يقوم به إلا الرجال الأقوياء الصادقون، الذين نذروا أنفسهم وأموالهم لله تعالى، (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر).

روى أنس بن مالك رضي الله عنه قوله: غاب عمي أنس بن النضر عن بدر، فشق عليه، وقال: أول مشهد شهده رسول الله ﷺ غبت عنه، لئن أراني الله تعالى مشهدًا مع رسول الله ﷺ فيما بعد ليرين الله تعالى ما أصنع، فشهد يوم أحد، فاستقبله سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال: يا أبا عمرو إلى أين؟ قال: واها لريح الجنة أجدها دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية، ونزلت هذه الآية: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)

والخلاصة أيها المؤمنون في معنى الرجولة الحقة التي ذكرها القرآن الكريم" أن الرجولة ليست كما يظن البعض مال وثروة، وجاه وشهرة، وليست منصبًا أو وظيفةً، وليست الرجولة بناء الأجسام، ولا امتلاك العقارات والمراكب والأزياء، إنها الإيمان والثبات، والقيم والأخلاق والمبادئ، والعبادة والعمل، والصدق والوفاء، رسم ملامحها القرآن الكريم، إيمان يزن الجبال، وحفاظ على الصلاة، والذكر في بيوت الله، وجهاد في سبيل الله ودفاع عن الأوطان، وكلمة حق يراد بها وجه الله، فأمتنا اليوم في أمس الحاجة إلى هؤلاء الرجال، رجولة في كل المجالات وفي شتى الميادين، رجال كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وصهيب، وعمار، وياسر، وخالد، وصلاح الدين.

 

الخطبة الثانية

أيها المؤمنون: الرجولة مسؤولية وواجبات، ومن تلك المسؤوليات؛ مسؤولية الرجولة في الإمامة العامة والخاصة.

لقد فضل الله تعالى الرجل على المرأة في الولاية؛ فالله سبحانه وتعالى جعل الرجل قوامًا على المرأة؛ فالرجال قوامون على النساء، ولهذا لا يحل أن تتولى المرأة ولايةً عامةً؛ فالولاية العامة ليست من حقوق النساء، والمرأة لا تصلح لهذا المنصب؛ لأن المرأة ناقصة في أمر نفسها، حتى لا تملك النكاح، فلا تجعل إليها الولاية على غيرها، فلو كانت لهن القدرة على القيام بشؤون أنفسهن لما وكل الله أمرهن إلى الرجال. وقد قال عليه الصلاة والسلام (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) رواه البخاري.

ومن مسؤوليات الرجولة الإمامة في الصلاة. والإمامة موضع شرف ورفعة وعلو منزلة وتقدم على الناس في أهم أمر الدين، وأجل عبادة المسلمين، فلا يجوز أن تكون المرأة إمامًا للرجال.

ومن مسؤوليات الرجولة التي ذكرها القرآن الكريم القوامة، كما قال تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم)

المشاهدات 956 | التعليقات 0