الراحمون يرحمهم الرحمن

د. محمود بن أحمد الدوسري
1443/02/15 - 2021/09/22 03:13AM

الراحمون يرحمهم الرحمن

د. محمود بن أحمد الدوسري

الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين, أمَّا بعد: الإسلام رِسالةُ خيرٍ وسَلامٍ ورحمةٍ للبشرية كُلِّها, دعا إلى التراحم, وجعل الرحمةَ من دلائل كمال الإيمان, والرحمةُ صِفَةُ هذه الأُمَّة, وتشملهم جميعاً؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» رواه مسلم.

عباد الله .. إنَّ الرحمةَ خُلُقٌ عظيم, ووصْفٌ كريم, أُوتيَه السُّعَداء, وحُرِمه الأشقياء, جَبَلَ اللهُ سبحانه الناسَ عليها؛ بل هذه الرحمة ضارِبةٌ في جُذور المخلوقات, ومُختلِطة بكيان الموجودات, وبها يرحم بعضُهم بعضاً؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ, قَسَمَ مِنْهَا رَحْمَةً بَيْنَ جَمِيعِ الْخَلاَئِقِ, فَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ, وَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ, وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى أَوْلاَدِهَا, وَأَخَّرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» صحيح – رواه ابن ماجه.

فما أحوجَ الناسَ إلى التخلُّق بالرحمة في هذا الزمان الذي غلبت فيه الأهواء, وأُعجِبَ فيه كُلِّ ذِي رأيٍ برأيه؛ فإنَّ الحياةَ لا تستقيمُ إلاَّ بالتَّراحم, وأوَّل مَنْ ينتفِع بالرحمة صاحبُها في الدنيا والآخرة, يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاَثَةٌ» - وذَكَرَ منهم: «رَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ» رواه مسلم.

والرحمة الكاملة الشاملة هي رحمةُ اللهِ, التي عمَّتْ جميعَ الكائنات, فما من مَوجودٍ إلاَّ ويرحمه اللهُ تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]. ورحمةُ اللهِ تعالى بعباده لا يُمكن حَصْرُها؛ ومن أمثلتِها: تكفُّل اللهِ تعالى برزق عباده؛ فلم يَكِلْ أحداً إلى أحد, وإنما تكفَّل بِرِزق الجميع, فلا الأولاد وُكِلُوا لآبائهم, ولا الآباء لأولادهم, بل الجميع تحت فضلِه وكرمِه وإحسانِه, كما قال تعالى: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت: 60].

ومن رحمته: أنْ سخَّرَ لنا ما في السموات والأرض جميعاً منه؛ لقيامِ مصالحِ حياتِنا, وانتظامِ معيشتِنا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج: 65].

ومن رحمته بِنَا: أنْ بعَثَ فِينا محمداً صلى الله عليه وسلم, فهو سيِّدُ الأوَّلين والآخِرين, وهو نَبِيُّ الرحمةِ للعالَمِين أجمين, {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107], بَعَثَه ربُّه فسَكَبَ في قلبِه من العلم والحِلم, وفي خُلُقِه من الإيناس والبِر, وفي طبعِه من السُّهولة والرِّفق, وفي يدِه من السَّخاوة والندى ما جعله أزكى عباد الرحمن رحمة, وأوسعهم عاطفة, وأرحبهم صدراً.

ومن رحمة الله بالعباد: إنزال الشريعة الكاملة في مبادئها ونُظُمِها وقِيَمِها وأخلاقِها, فهي شريعة شاملةٌ صالحةٌ ومُصْلِحةٌ لكلِّ زمانٍ وجِيلٍ من الناس: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

ومن رحمته تعالى: قبوله للتوبة, قال سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]. يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ, وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ.

ومن سَعَةِ رحمةِ اللهِ وشمولِها: رحمتُه لغير المؤمن في الدنيا؛ إذْ يتمتَّع فيها بالملذَّات, ويُمْهَل للتوبة, فإنْ ماتَ على غيرِ الإيمانِ فلا نصيب له في الآخرة, وأمَّا المؤمن فرحمةُ اللهِ عليه في الدنيا والآخرة: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156].

عباد الرحمن .. إنَّ رحمة الله ينالها المرءُ إذا أخذَ بأسباب الرحمة, فمَنْ أراد أنْ يرحمه اللهُ فَلْيَرْحَمْ عِبادَه, ففي الحديث: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ, ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ؛ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» صحيح – رواه الترمذي. وجاء أيضاً: «إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» رواه البخاري ومسلم.

والمُسلِمُ يلقى الناسَ وفي قلبه عطفٌ مدخور, وبِرٌّ مكنون, يُوَسِّع لهم, ويُخَفِّفُ عنهم, ويُواسِيهم؛ فعن أبي موسى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه؛ أنَّه سَمِعَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تَرَاحَمُوا» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كُلُّنَا رَحِيمٌ. قَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ صَاحِبَهُ, وَلَكِنْ رَحْمَةُ الْعَامَّةِ, رَحْمَةُ الْعَامَّةِ» صحيح – رواه الطبراني والحاكم.

وهذه الرحمة لا تُنزع إلاَّ مِنْ شقي؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلاَّ مِنْ شَقِيٍّ» صحيح – رواه أبو داود والترمذي. وقال أيضاً: «مَنْ لاَ يَرْحَمِ النَّاسَ لاَ يَرْحَمْهُ اللَّهُ» رواه مسلم. فلمَّا قست قلوبُهم لم يستحقُّوا الرحمة.

الخطبة الثانية

الحمد لله ... عباد الله .. إنَّ أَولى الناس بالرحمة: الرحمةُ بنفسِك, {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9, 10]. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» رواه مسلم.

والرحمة بالوالدين: فهما السبب في وجودك بعدَ اللهِ تعالى, ترحمهما رحمةً صادقة, تتذكَّر أفعالَهما الجميلة, وسيرتهما الفاضلة, وتِلكم الليالي والأيام التي أمضَيَاها في الإحسان إليكَ وتربيتِك وتهذيبِك, والإنفاقِ عليك, فترحمهما عند ضعف القوة, وقلة النشاط, والعجز عن الحركة, وتُحسن إليهما بالكلامِ الطيب, والرِّفقِ في المعاملة, والقيامِ بالواجب, {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23, 24].

والرحمة بالأولاد - ذكوراً وإناثاً: فتُحْسِنْ إليهم, وتعطف عليهم, وتُعامِلُهم بالحُسنى, وتُبَصِّرُهم طُرُقَ الهُدى, وتُحذِّرُهم من سُبُلِ الرَّدَى, فتلك التربية النافعة التي تجد نفعَها في حياتك وبعد موتك. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم رحِيماً رفيقاً بالأطفال؛ يُصَلِّي وبنت ابنته أُمَامَة بنت زينب تكون معه, إذا سَجَدَ وضَعَها, وإذا قام رفَعَها, ويأتي الحَسَنُ والحسينُ فيصعدان على ظهره وهو ساجد, فينتظرهما حتى ينزلا.

والرحمة بالزوجة: فتُحْسِنْ إليها, وتُحْسِنْ عِشرتها, وترحمها بأمرها بالخير, وحثِّها على الخير, وتوجيهها للخير, فليس عندك جَفَاء ولا غِلْظة, ولا قُبْح قولٍ ولا سوء معاملة, ولكن حِكمة ورِفق, وأَمْرٌ بخير, وتحذيرٌ من شر, ومن معايير خيرية الإنسان, أنْ يكون خَيِّراً لأهله, وأولهم الزوجة: يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ, وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي» صحيح – رواه الترمذي.

والرحمة بالأرحام: فتَصِلُهم بما تستطيع؛ فقير تُواسِيه, وغَنِيٌّ تزوره, وآخَر تُحْسِنْ إليه, «الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ؛ تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ, وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ» رواه مسلم.

والرحمة بالضُّعفاء: فترحم اليتيم, وتُحْسِنْ إليه, وتتفقَّدْ أحوالَه, وتسعى فيما يُصْلِحُ دِينَه ودُنياه, وترحم المريضَ والعاجِز؛ بمساعدته وإعانته, وتيسير شؤونه.

والرحمة بالعاصي: إذا زَلَّتْ به القَدَمُ فوقع في الرَّذائل, وابتُلِيَ بأصحاب السُّوء, فترحمه بالنصيحةِ والتوجيه, والدَّعوةِ إلى الخير, والتحذير من أسباب الشر. والرحمةُ بالعصاة لا تقتضي التَّغاضي عنهم ولا تجاهل حالهم, ولا النُّفور عنهم؛ بل تقتضي إصلاحَ أخطائهم, وتقويمَ ما اعْوَجَّ من سلوكهم, لإنقاذهم مما هم فيه من الضَّلال والعصيان الذي يُعَرِّضُهم لِسَخَطِ اللهِ سبحانه, وتقضي أيضاً الأخذَ على أيديهم, وإقامةَ حدودِ اللهِ عليهم, فهذه رحمةٌ تُخَفِّفُ إجرامَهم, وتُقلِّلُ من ذنوبِهم وأوزارِهم.  

عباد الله .. إنَّ نبيَّنا محمداً أعظم الناس غَيْرة على محارم الله, ومع هذا كُلِّه فهو أرحَمُ الناس حتى بالعُصاة والمُذنبين؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَكْرَانَ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ؛ فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ, وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ, وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ, فَلَمَّا انْصَرَفَ, قَالَ رَجُلٌ: مَالَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ» رواه البخاري.

 

    

 

المرفقات

1632280421_الراحمون يرحمهم الرحمن.docx

المشاهدات 741 | التعليقات 0