الرؤى؛ ضوابطُ وأحكامٌ "موافقة للتعميم"
عبدالمحسن بن محمد العامر
الحمدُ للهِ جعلَ في الرؤى بشارةً للمؤمنينَ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له؛ إله الأولينَ والآخرينَ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أتمَّ اللهُ عليه النعمَةَ، وأكملَ لهُ الشريعةَ والدينَ، صلى اللهُ وسلمَ عليه وعلى آله وصحبِهِ والتابعينَ، ومَنْ تَبعَهمْ بإحسانٍ إلى يومِ القيامِ لربِّ العالمينَ ..
أما بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ في السرِّ والعَلنِ، فمَنْ صَلَحَ باطنُه، واستقامَ ظاهرُه؛ طابتْ حياتُه، وحَسُنتْ خاتِمَتُه، وسَلِمَتْ آخرتُه "أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ*الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ"
معاشرَ المؤمنينَ: أوْلَتْ الشريعةُ الإسلاميةُ الرؤى والمناماتِ مكانةً مُعتَبرةً، واختصَّتها بأحكامٍ وضوابطَ، أبانتْ صادِقَها مِنْ كاذِبها، وما يُعْتَبرُ منها ومالا يُعتَبَرُ، وهذا إنما هو برهانٌ مِنْ براهينِ كمالِ الشريعةِ المحمَّديةِ وشمولِها؛ على صاحبِها أفضلُ الصلاةِ والسلامِ.
وفي رؤى الصالحينَ مِنَ المنافعِ ما اللهُ بهِ عليمٌ، فإذا تأمَّلنا رؤيا رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ في غزوةِ بدرٍ كمْ حصلَ بها مِنَ منافعَ، واندفعَ بها مِنْ مَضارَ، هكذا أيضاً رؤيـاهُ صلى الله عليه وسلم في الفتحِ، كمْ حصلَ بها مِنْ زيادةِ إيمانٍ وتمَّ بها مِنْ كمالِ إيقانٍ، وكانتْ مِنْ آياتِ اللهِ العظيمةِ، وتأملوا رؤيا عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ وعمرَ بنِ الخطابِ ـــ رضي اللهُ عنهما ـــ في الأذانِ والإقامةِ، وكيفَ صارت ْسبباً لِشرعِ هذهِ الشَّعيرَةِ العظيمةِ التي هي مِنْ أعظمِ الشعائرِ الدِّينيَّةِ، ومرائي الأنبياءِ والصالحينِ لا يُحْصَى ما اشتملتْ عليهِ مِنَ المنافعِ المُهمَّةِ والثمراتِ الطيَّبةِ.
والرؤيا الصالحةُ مِنَ المُبشراتِ التي بقيَتْ لأمّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلمَ مِنْ بعدِه؛ عن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه قالَ:
"لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إلَّا المُبَشِّراتُ. قالوا: وما المُبَشِّراتُ؟ قالَ: الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ" رواهُ البخاريُّ.
وبناءً على هذه المكانةِ العظيمةِ للرؤيا، وهذا القدْرِ الكبيرِ لها؛ فقد جاء الوعيدُ الشديدُ على الكذبِ فيها، أو ادِّعَاءِ روياً لم تَرَهَا العينانِ، ويشملُ هذا الوعيدُ الهَزَلَ والمُزاحَ الكاذِبَ الذي قدْ يتَّخِذُه البعضُ وسيلةً لإضحاكِ الآخرينَ وممازحتِهم؛ عن عبدِ اللهِ بنِ عبّاسٍ رضي اللهُ عنهما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلّمَ: "مَن تَحَلَّمَ بحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ كُلِّفَ أنْ يَعْقِدَ بيْنَ شَعِيرَتَيْنِ، ولَنْ يَفْعَلَ" رواه البخاريُّ ومسلمٌ.
معاشرَ المؤمنينَ: ينبغي لكلِّ مسلمٍ أنْ يَعْلمَ أنَّ الرؤى المناميّةَ ثلاثةُ أنواعٍ؛ دلّتْ أحاديثُ المصطفى عليه الصلاةُ والسلامُ عليها؛ فعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "إِنَّ الرُّؤْيَا ثَلاثٌ :مِنْهَا أَهَاوِيلُ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ بِهَا ابْنَ آدَمَ، وَمِنْهَا مَا يَهُمُّ بِهِ الرَّجُلُ فِي يَقَظَتِهِ فَيَرَاهُ فِي مَنَامِهِ، وَمِنْهَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ "رواه ابن ماجه وصححَه الألبانيُّ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللهُ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: "الرُّؤْيَا ثَلاثٌ: فَبُشْرَى مِنَ اللَّهِ، وَحَدِيثُ النَّفْسِ، وَتَخْوِيفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا تُعْجِبُهُ فَلْيَقُصَّ إِنْ شَاءَ وَإِنْ رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلا يَقُصَّهُ عَلَى أَحَدٍ وَلْيَقُمْ يُصَلِّي" رواهُ ابنُ ماجه وصححه الألبانيُّ.
فالنوع الأول: رؤيا الحقِّ وهي المنتظمةُ التي لا تَخليطَ فيها، وهي الصادقةُ الصّالحةُ الحسنةُ التي تُبشِّرُ، ويحصلُ بها تنبيهٌ على أمرٍ في اليقظَةِ واقعٍ.
والنوعُ الثاني: رؤيا حديثِ نفسٍ، وهي التي تكونُ عمَّا يُحَدِّثُ بهِ الإنسانُ نفسَه، أو يكونُ مهتمَّاً به، ومشغولاً بهِ في حالِ اليَقَظَةِ، فإذا نامَ رأى ذلكَ في منامِه .
النوعُ الثالثُ: رؤيا مِنَ الشيطانِ، وهي رؤيا تحزينٍ وتهويلٍ وتخويفٍ، يُدْخِلُ كلَّ ذلكَ الشيطانُ على الإنسانِ في نومِهِ ليشوِّش يَقَظَتَهُ، فيَستغِلُّ الشيطانُ المسلمَ في نومِه خاصةً إذا نامَ ولمْ يراعي آدابِ النومِ، ولم يَذْكِرِ اللهَ عزَّ وجلَّ، فيوسوسُ له في نومِه ويَتَلعَّبُ به بطرقٍ مُخْتَلِفَةٍ، وللشيطانِ في ذلك مِنَ المناماتِ والأحلامِ صوراً وأمثلةً لا تحصى ولا تستقصى، ومما جاءَ في السنّةِ من ذلكَ مارواه جابرُ بن عبداللهِ رضي الله عنهما قالَ: "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، رَأَيْتُ في المَنَامِ كَأنَّ رَأْسِي ضُرِبَ فَتَدَحْرَجَ فَاشْتَدَدْتُ علَى أَثَرِهِ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِلأَعْرَابِيِّ: لا تُحَدِّثِ النَّاسَ بتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بكَ في مَنَامِكَ وَقالَ: سَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بَعْدُ، يَخْطُبُ فَقالَ: لا يُحَدِّثَنَّ أَحَدُكُمْ بتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ به في مَنَامِهِ" رواه مسلم
إذا علمنا ذلك ـــ عبادَ اللهِ ـــ فعلينا أنْ نتبصّرَ برؤانا وأحلامِنا، وأنْ نميّزَ ما كانَ منها مِنَ اللهِ، وما كانَ مِنها مِنَ الشيطانِ، ونعرفَ صالِحَها مِنْ غيره، وما كانَ منها مِنْ حديثِ نفسٍ ونحوه.
ويتأكدُ على المسلمِ عند رؤيةِ ما يكرهُ في منامِه ستُةُ أمورٍ؛ إنْ فعلَها كلَّها فذلك أنفعُ وأحسنُ، وكلُها وردتْ بتوجيهاتٍ نبويَّةٍ كريمةٍ: أولها: أنْ يتعوَّذَ باللهِ مِنْ شرِّها ويسألَهُ مِنْ خَيْرِها. الثاني: أنْ يتعوَّذَ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيمِ ثلاثاً. الثالثُ: النَّفْثُ أو التَّفْلُ أو البَصْقُ عنْ يسارِه ثلاثاً. الرابعُ: عدمُ ذكرِهَا لأحدٍ أبداً لا لِمُحِبٍّ ولا لِغِيرِه، فلا يجوزُ له أنْ يتكلَّم بها نهائيَّاً. الخامسُ: الصلاةُ بعد الرؤيا. السادسُ :التَّحوُّلُ عن جنبِه الذي كانَ عليه؛ إذا كانَ ينامُ على جنبِه الأيمنِ، أوْ على ظهْرِه، أو على جنبه الأيسرِ؛ يَتَحوَّلُ عن جنبِه الذي كانَ عليه. فمَنْ فعلَ هذه الأمورَ السِّتَّةَ أوْ ما استطاعَ منها عندما يرى ما يكرَهُ؛ فإنَّها لا تضرُّهُ بإذنِ اللهِ.
باركَ اللهُ لي ولكم بالكتابِ والسنَّةِ، ونفعنا بما صرَّف فيهما مِنَ العبرِ والحكمةِ..
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ الله لي ولكم إنَّه كانَ غفّاراً.
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ مُقدّرِ الأقدارِ، يفعلُ ما يشاء ويختارُ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له العزيزُ الغفَّارُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه؛ النبيُّ المختارُ، والشّافِعُ يومَ التّخلِّي والفرارِ، صلى اللهُ وسلم عليه وعلى آله الأطهارِ، وصحابتِه الأبرارِ، وعلى التابعينَ ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ البَعْثِ للمِلكِ الجبارِ.
أما بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ "وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ"
معاشرَ المؤمنينَ: شُغِلَ الناسُ في هذا الزمانِ برؤاهُمْ وأحلامِهِم، واقتَطعوا مِنْ أوْقاتِهم الشيءَ الكثيرَ، بحثاً عن تعبيرٍ، وتَلَمُسَاً لتأوِيلٍ، وفي المُقَابِلِ أَشْغَلَ المُعَبِّرُوْنَ الناسَ بالتعبيرِ، وتَنَوَّعَتْ وسائلُ إيصَالِ ذلكَ التعبيرِ بيَن وسائِلِ التّواصلِ الاجتماعيِّ، والجوَّالاتِ، والفضائياتِ، فأشْغَلَ بعضُهُم بعضاً، وصارَ كلُّ واحدٍ يبحثُ عن الآخرِ، ووقعتْ الفتنةُ، فالباحثونَ عن التعبيرِ أقْلَقَهُمْ ما يرونَهُ في مَنَاماتِهم، وسَبَحَوا في فَضَاءِ التَّأمُلاتِ والأمَاني، وتَلَقَّاهُم المُعَبِّرونَ، وأشْهَرُهُمْ صنفانِ :
صِنْفٌ معبِّرونَ تُجَّارٌ، سَحَبُوا ما في جُيُوبِ الحَالِمِينَ مِنْ أموالٍ مُقَابِلَ التَّعْبِيْرِ .
وصِنْفٌ باحِثونَ عن الشُّهْرَةِ .
ومن تأمل حالَ الطرفينِ عَلِمِ مدى السُّوءِ الذي وصلتْ لهُ الأمورُ؛ مِنْ تَضْييعٍ للأوقاتِ، وتعلُّقٍ بأوهامٍ وخيَالاتٍ، واتِّكَاءٍ على المَنامَاتِ مَعَ تَركِ الواجباتِ في اليَقَظَةِ .
ماشرَ المؤمنينَ: علْمُ الغيبِ مما اختصَّ به اللهُ عزَّ وجلَّ فلا يعلمُ الغيبَ إلا اللهُ وحده قال تعالى: "قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ "
وتعبيرُ الرؤى علمٌ له قواعدُه وأدواتُه وضوابطهُ؛ يعطيهِ اللهُ مَنْ يشاءُ، وهو يَدْخلُ في دائرةِ العلمِ الظنِّيِّ، وليسَ كلُّ تعبيرٍ يصيبُ، فقدْ يخطئ المُعبِّرُ، وليسَ ذلك نقصاً فيه، ولا عيباً يضرُّه، فقد أصابَ أبوبكرٍ رضي اللهُ عنه في التعبيرِ وأخطأ؛ فقد قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأبي بكرٍ: "أصَبْتَ بَعْضًا وأَخْطَأْتَ بَعْضًا" رواه البخاريُّ
ولا يجوزُ لكلِّ أحدٍ أنْ يخوضَ في تعبيرِ الرؤى مِنْ غيرِ علمٍ ودرايةٍ؛ قِيلَ للإمامِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: أَيُعَبِّرُ الرُّؤْيَا كُلُّ أَحَدٍ؟، فَقَالَ: أَبِالنُّبُوَّةِ يُلْعَبُ؟ وَقَالَ أيضاً ـــ رحمه الله ــ : لَا يُعَبِّرُ الرُّؤْيَا إِلَّا مَنْ يُحْسِنُهَا، فَإِنْ رَأَى خَيْرًا أَخْبَرَ بِهِ، وَإِنْ رَأَى مَكْرُوهًا؛ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أَوْ لِيَصْمُتْ، قِيلَ: فَهَلْ يُعَبِّرُهَا عَلَى الخَيْرِ، وَهِيَ عِنْدَهُ عَلَى المَكْرُوهِ؛ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا عَلَى مَا أُوِّلَتْ عَلَيْهِ؟، فَقَالَ: لَا، ثُمَّ قَالَ: الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ، فَلَا يُتَلَاعَبُ بِالنُّبُوَّةِ. انتهى.
وبعدُ عبادَ اللهِ: مِنْ علاماتِ الساعةِ أنَّ رؤيا المؤمنِ تصدقُ في آخرِ الزمانِ عن أبي هريرة رضي اللهُ عنه قالَ قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إذا اقترب الزمانُ لم تكدْ رؤيا الرجلِ المسلمِ تكذبُ، و أصدقُهم رؤيا أصدقُهم حديثًا" رواه مسلمٌ، وقالَ ابنُ سيرينَ ـــ رحمهُ اللهُ:(أحسنوا في يقظتِكم، يُحْسِنُ لكمْ في منامِكم(
فالصدقُ والإيمانِ متلازمانِ ومِنْ ثمرتهما: صدقُ الرؤيا.
اللهم ارزقنا إيماناً خالصاً، ويقينا صادقاً، وعملاً صالحاً.
هذا وصلوا وسلموا على رسولِ اللهِ كما أمركم بذلك اللهُ فقالَ: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا"