﴿الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾.
عاصم بن محمد الغامدي
الحمد لله، شَرَحَ صدورَ المؤمنينَ فانقادوا لطاعَتِهِ، وحَبَّبَ إليهمُ الإيمانَ وزيَّنَهُ في قلوبِهم، فلم يَجِدُوا حَرَجًا في الاحتكامِ إلى شريعتِهِ، وأشهدُ أنْ لَا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ وسلَّم وباركَ عليهِ، وعلى آلهِ وصحْبِهِ، والتابعينَ ومنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ، أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فتقوى الله عليها المُعوَّل، وعليكم بما كان عليه السلفُ الصالحُ والصدرُ الأول، سارِعوا إلى مغفرة ربِّكم ومرضاته، وأجيبُوا داعِي ربِّكم إلى دار كرامتِه وجنَّاته، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
مَنْ عَظَّمَ اللهَ عَظُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْصِيَه، وَمَنْ وَقَّرَ اللهَ شَقَّ عَلَيْهِ أَنْ يُخالِفَ أَمْرَه، وما أَدْمَنَ التوبةَ إِلا تَقِيّ، وما خَافَ الذُّنُوبَ إلا مُؤمِن، قَالَ ابنُ مَسْعودٍ رضي الله عنه: (إنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأنَّهُ قاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخافُ أنْ يَقَعَ عليه، وإنَّ الفاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبابٍ مَرَّ علَى أنْفِهِ فقالَ به هَكَذا).
عباد الله:
قصةٌ خلَّدها القرآن، وبثَّت تفاصيلَها كتبُ السنَّةِ، واستخلصَ العبرَ منها أهلُ العلمِ، وانتفعَ بها أهلُ الإيمانِ.
المكانُ: مدينةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
الزمانُ: شهرُ رجبٍ منَ السنةِ التاسعةِ، حينَ اشتدَّ الحرُّ، وطابتِ الثمارُ، وأحبَّ الناسُ المقامَ في ظلالِهم، وكرِهوا الشُّخوصَ على هذهِ الحالِ.
الحَدَثُ: غزوةُ تبوكٍ، إذ جمعَ الرومُ جموعًا كثيرةً بالشامِ، فاستنفرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَهُ، وكانَ قلَّما يخرجُ في غزوةٍ إلا كنَّى عنْها، وَوَرَّى بغيرِهَا، إلَّا غزوةَ تبوكٍ لبُعدِ الشُّقَّةِ، وشدَّةِ الزَّمانِ.
ولأنَّ أمرَ النبي صلى الله عليه وسلم كانَ واضحًا، فقد استجابَ أكثرُ المؤمنينَ، مَا عدَا أهلَ الأعذارِ المقبولةِ، أمَّا المنافقونَ فأرجَفوا كعادتِهم، فمنهُم من قدَّم للنبيِّ صلى الله عليه وسلم عذرًا كاذبًا قبلَ سفرِه، فجاءَ إليهِ، ﴿يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾، ومنهُمْ من خرجَ معَ النبيِّ مخذِّلاً للمؤمنينَ قائلاً: أتحسِبون جلادَ بني الأصفرِ كقتالِ العربِ بعضِهِمْ لبعضٍ، والله لكأنَّا بكُمْ غدًا مقرَّنين في الحِبالِ، ومنْهُم من تلكَّأ عنِ الإجابةِ حتَّى سافرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وكان يلتَمِسُ في أحاديثِهِ العذرَ لنفسِهِ وإخوانِهِ، قائلاً: ﴿لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ﴾، ويجَهِّزُ أعذارَ الكذبِ لحينِ عودةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم منْ غزوَتِهِ ﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾.
وكانَ من المؤمنينَ من لا يجدُ زادًا ولا راحلةً، فطلبَ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يعينَهُ، فقال لهم: «وَاللهِ لَا أَحْمِلُكُمْ، وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ» فـ ﴿تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾.
وكانَ منَ المؤمنينَ ثلاثةُ نفرٍ لمْ يستأذِنوا، ولم ينفِروا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، ولم يكنْ لهم عذرٌ، بل تأخَّروا عن الإجابةِ، حتى فاتَهُم المسيرُ، أحدُهم كعبُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه، وقدْ أخبرَ عنْ خَبَرِهِ بنفْسِهِ، وأخْبرَ عمَّا رآهُ مِنْ مجيءِ المخلَّفِينَ بعدَ عودةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لتقديمِ أعذارِهِمْ، وتعضيدِها بأيْمَانِهِمْ، وكانُوا بِضْعَةً وثمانينَ رجلاً، وعمَّا رآهُ من قَبولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم علانِيَتَهُمْ، ومُبايَعَتِهِمْ والاستغفارِ لَهُمْ، مُوكِلاً إلى الله سرَائرَهم، ثم جاءَ كعبٌ وقالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي وَاللهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، لَرَأَيْتُ أَنِّي سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا، وَلَكِنِّي وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُ، لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ، إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عُقْبَى اللهِ، وَاللهِ مَا كَانَ لِي عُذْرٌ، وَاللهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا هَذَا، فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فِيكَ»، فتبعه رجالٌ يؤَنِّبونَه، ويحثُّونه على العودةِ والاعتذار بما اعتذرَ به غيره، حتى همَّ بالرجوعِ وتكذيبِ نفسِه، ولكنَّ الله ثبَّتهُ على الصدقِ لمَّا علم أنَّ اثنينِ شَهِدَا بدرًا، قدْ وَقَعَا فيمَا وَقَعَ فِيهِ.
ثمَّ كانتْ عقوبةُ هؤلاءِ الثلاثةِ، مِنْ أشدِّ العقوباتِ على النفسِ، فَقَدْ نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم المسلمينَ عنِ الكلامِ معهُمْ، فاجتنَبَهُمُ الناسُ، وتغيَّروا لهُمْ، لا يكلِّمُهُمْ أحدٌ، ولا يتحدثُ معهم خَمْسِينَ ليلةً، قال كعبٌ رضي الله عنه: كنت أخرج فأشهدُ الصلاة مع المسلمينَ، وأطوفُ في الأسواقِ، ولا يكلِّمني أحدٌ، وآتي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأسلِّمُ عليه وهو في مجلسِهِ بعد الصلاة، فأقولُ في نفسي، هل حرَّك شفتيه بردِّ السلام عليَّ أمْ لا، وكنتُ أسارقه النظرَ، فإذا أقبلتُ على صلاتي أقبلَ إليَّ، وإذا التفتُّ نحوَهُ أعرضَ عنِّي، فلما طالتْ عليَّ جفوةُ المسلمينَ، تسوَّرت جدارَ ابنِ عمِّي أبي قتادةَ، وهوَ أحبُّ الناسِ إليَّ، فسلَّمتُ عليهِ فوالله ما ردَّ السلامَ عليَّ، فقلتُ لهُ: يا أبا قتادةَ! أنشدُكَ بالله، هل تَعْلَمُنِي أحبُّ الله ورسولَهُ؟ فَسَكَتَ، فَعُدتُّ فنَاشَدْتُه، فَسَكَتَ، فَعُدتُّ فنَاشَدْتُه فقالَ: الله ورسولُه أعلَمُ، فَفَاضَتْ عينَايَ، وتولَّيْتُ حتَّى تَسَوَّرْتُ الجدارَ. ولما انقضتْ أربعون ليلةً، وَرَدَ لكلِّ واحدٍ منَ الثلاثةِ رسولٌ من عندِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يأمرُه أنْ يعتزلَ امرأته.
وبعدَ صلاةِ الفجرِ، حين كَمُلَتْ خمسونَ ليلةً من بدايةِ الهجرِ، كان كعبٌ جالسًا على سطح بيتٍ له، قد ضاقَتْ عليهِ نفسُه، وضاقَتْ عليهِ الأرضُ بما رَحُبَتْ، فإذْ بصارخٍ من فوقِ جبلِ سَلْعٍ ينادي بأعْلى صَوْتِهِ: يا كعبَ بنَ مالكٍ أبشر، فخرَّ كعبٌ ساجدًا، حين علم أنْ قدْ جاء فرجٌ من الله، ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبله هو وأصحابه يهنئونه بتوبَةِ الله عليهِ، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يَبْرُقُ من السُّرورِ: «أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ» فقَالَ: أَمِنْ عِنْدِكَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَقَالَ: «لَا، بَلْ مِنْ عِنْدِ اللهِ».
وتلا النبي صلى الله عليه وسلم قولَه تعالى: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:
فإنَّ الهجرَ من أصعبِ العقوباتِ، لأنَّ الإنسانَ بطبيعته يأنسُ بالآخرينَ، ويستوحشُ منَ الانفرادِ، ولو أنَّ شخصًا يشهدُ الصلاةَ مع المسلمينَ، ثم يذهبُ لعملِهِ، ثم يخرجُ للسوقِ، ويمشي في الطرقاتِ، ويرى الناسَ في كلِّ مكانٍ يتحدثونَ، فإذا رأوهُ أشاحُوا عنهُ ولم يُجبْ أحدُهم حتَّى على تحيَّتِه، لضاقتْ عليهِ نفسُهُ، والأرضُ بما رحُبَتْ، فكيفَ إذا استمرَّ هذا الهجرُ خمسينَ ليلةً، وعُقِّب بهجرِ الأهلِ والأحبابِ.
وقد خلَّد الله عزَّ وجلَّ قصَّةَ الثلاثةِ الذينَ خُلِّفوا، ليعلمَ المؤمنُ إذا حضرتْ له فرصةُ القربةِ والطاعةِ أنَّ الحزمَ في انتهازِها والمبادرةِ إليها، والعجزَ في تأخيرِها والتسويفِ بها، والله سبحانه يعاقبُ من فتحَ له بابًا من الخيرِ فلم ينتهزْهُ، ومنْ لم يستجبْ لله ورسولِهِ إذا دعاهُ استحقَّ العقابَ، حتى لو لم يحصلْ من تأخُّرِهِ ضررٌ يذكَرُ على الدِّينِ، فقد بقي النبي صلى الله عليه وسلم في تبوكٍ ما بقيَ، ثم رجعَ دونَ قتالٍ، ولم يكنْ لغيابِ الذينَ خُلِّفوا أثرٌ يذكرُ، ومع ذلكَ وقعتْ عليهمُ العقوبةُ، ثم تابَ الله عليهِمْ.
ومن هذه القصةِ نعلَمُ أنَّ الناسَ مع أوامرِ الله جلَّ جلالُه ثلاثةُ أقسامٍ، قسمٌ صَدَقُوا الله في إيمانِهم وجهادِهم، فرضيَ عنهُم، وقسمٌ تأخَّروا ثمَّ تابوا وصدَقوا في توبَتِهم فتابَ عليهم، وقسمٌ تخلَّفوا بلا عذرٍ، وكَذَبُوا على ربِّهم وعلى أنفسِهِمْ، وحلَفُوا على كذبِهم فغضبَ عليهم، ومن كانَ يبحثُ في نصرةِ دينِهِ عنْ طريقٍ مُعَبَّدٍ لا صُعوبةَ فيهِ، ولا أذىً، فهو يطلبُ ما لم يُعطَ للأنبياءِ والرسلِ عليهمُ الصلاةُ والسلامُ، إذْ لا تخلو نصرةُ الدينِ من صعوباتٍ وعقباتٍ، تُبقي المؤمنَ مرتبطًا بربِّهِ متوكلاً عليهِ.
إنَّ التأخرَ عن نصرةِ الإسلامِ، منْ أبرزِ أسبابِ كثرةِ الغُثاءِ، في المواقعِ الإلكترونيةِ والشبكاتِ الاجتماعيةِ، والميادينِ المختلفةِ، وردُّ الناسِ لدينِهم، وربطُهم بربِّهم، والتزاحمُ في ذلكَ واجبٌ لا يجوزُ التواكلُ فيهِ حتَّى يضيعَ فرضُ الكفايةِ، ويُخشى على المتأخرِ عنْهُ منَ العقوبةِ، ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
ألا فاتقوا الله يا عباد الله وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة، فإن الشقي من حرم رحمة الله عياذًا بالله، وتقربوا إلى ربكم بعبادته، وأكثروا في سائر أيامكم من طاعته، وصلوا وسلموا على خير الورى طرًّا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا.
المرفقات
1706207580_﴿الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾..docx
1706207580_﴿الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾..pdf
1706207580_﴿الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾. للجوال.pdf