الذهبي ومنهجه في سير أعلام النبلاء // بشار عواد معروف

احمد ابوبكر
1436/03/29 - 2015/01/20 04:39AM
[align=justify]سير أعلام النبلاء أحد الكتب التي استخرجها الذهبي (673هـ- 748هـ) من كتابه الضخم (تاريخ الإسلام)، ومن أمتع كتب التراجم وأجلها، مما لا يستغني عنها باحث أو قارئ، وصورة صادقة لأعلام الأمة على مدار سبعة قرون.



عنوان الكتاب وتأليفه:

سماه صلاح الدين الصفدي (الوافي بالوفيات) وابن دقماق (ترجمان الزمان): (تاريخ النبلاء)، وابن شاكر الكتبي (فوات الوفيات): (تاريخ العلماء النبلاء)، وتاج الدين السبكي (طبقات الشافعية): (كتاب النبلاء)، وسبط ابن حجر (رونق الألفاظ): (أعيان النبلاء).

وسماه كل من الحسيني (الذيل على ذيل العبر)، وابن ناصر الدين (الرد الوافر)، وابن حجر (الدرر الكامنة)، والسخاوي (الإعلان بالتوبيخ): (سير النبلاء).

أما سير أعلام النبلاء فقد جاء مخطوطًا على طراز المجلدات الموجودة في مكتبة السلطان أحمد الثالث، ذوات الرقم 2910/ a، وهي النسخة الأولى التي نسخت عن نسخة المؤلف التي بخطه وكتبت في حياته في السنوات 739- 743 هـ، وهو العنوان الأكثر دقة وكمالا.



زمن تأليف الكتاب:

وقد ألف الذهبي كتابه سير أعلام النبلاء بعد كتابه العظيم (تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام)، الذي انتهى من تأليفه أول مرة سنة 714هـ ثم أعاد النظر فيه، وبيض قسمًا منه سنة 726هـ. وقد أشار المؤلف إلى بعض كتبه الأخرى، وأحال عليها في كتابه (السير).

حيث بدأ الذهبي في تأليف كتابه سير أعلام النبلاء سنة 732هـ أو قبيلها بقليل، وأول نسخة من الكتاب قد بدأ الذهبي بنسخها في سنة 739هـ وانتهى من المجلد الثالث عشر في أوائل سنة 743هـ، وهذا يعني أن المؤلف كان قد انتهى من تأليف كتابه سنة 739هـ، أو قبلها.



نطاق الكتاب وعدد مجلداته:

جعل الذهبي كتابه (سير أعلام النبلاء) في أربعة عشر مجلدًا راعى فيها التناسق من حيث عدد الأوراق، ولم يراع في الأغلب ناحية تنظيمية أخرى، لذلك وجدنا النساخ فيما بعد لم يلزموا أنفسهم بتقسيم المؤلف.

وقد أفرد الذهبي المجلدين الأول والثاني للسيرة النبوية الشريفة وسير الخلفاء الراشدين، لكنه لم يعد صياغتهما، وإنما أحال على كتابه العظيم (تاريخ الإسلام) ليؤخذا منه ويضما إلى (السير) فقد جاء في طرة المجلد الثالث من نسخة أحمد الثالث الأولى تعليق بخط الذهبي كتب على الجهة اليسرى منها نصه: "في المجلد الأول والثاني سير النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة تكتب من تاريخ الإسلام".



ترتيب كتاب سير أعلام النبلاء:

نظم الذهبي كتاب سير أعلام النبلاء على الطبقات، فجعله في أربعين طبقة تقريبا، وآخر ما في المجلد الثالث عشر من نسخة ابن طوغان هي آخر الطبقة الخامسة والثلاثين ولا أستبعد أن يتضمن المجلد الرابع عشر خمس طبقات إذا قايسنا ذلك ببقية المجلدات.

وقد استعمل المؤلفون المسلمون هذا الأسلوب في عرض التراجم منذ فترة مبكرة من تاريخ الحركة التأليفية، وهو فيما يرى روزنتال (علم التاريخ عند المسلمين): "تقسيم إسلامي أصيل قد يبدو أقدم تقسيم زمني وجد في التفكير التاريخي الإسلامي، ولم يكن نتيجة مؤثرات خارجية، بل هو نتيجة طبيعية لفكرة: صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالتابعون.. إلخ"، ومما يؤيد هذا حديث أورده البخاري ونصه: «خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»، وقد أشار العيني في شرحه (عمدة القاري) إلى أن خير القرون الصحابة ثم التابعون ثم أتباع التابعين.

وهذا المفهوم يظهر واضحا في كتب الإمام ابن حبان البستي (ت: سنة 354هـ) حيث قسم الرواة في كتابيه (الثقات) و(مشاهير علماء الأمصار) إلى ثلاث طبقات هم: الصحابة، والتابعون، وأتباع التابعين، فصارت الطبقة هنا تعني الجيل. وقد حاول بعض العلماء أن يجعل للطبقة تحديدًا زمنيًا واضحًا، فجعلها بعضهم عشرين سنة، وجعلها آخرون أربعين سنة، وهلم جرا.

نظم الإمام الذهبي مجموعة من كتابه على الطبقات إضافة إلى سير أعلام النبلاء منها: (تذكرة الحفاظ)، و(معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار)، و(المعين في طبقات المحدثين)، وتشير دراستنا لكتاب سير أعلام النبلاء أن الذهبي لم يراع إيجاد تقسيم واحد في عدد الطبقات بين هذه الكتب، ولا راعى التناسق في عدد المترجمين بين طبقة وأخرى في الكتاب الواحد، كما لم يلتزم بوحدة زمنية ثابتة للطبقة في جميع كتبه فيما عدا (تاريخ الإسلام) الذي لا يدخل في هذا التنظيم، فقد الذهبي استعمل الطبقة للدلالة على القوم المتشابهين من حيث اللقاء أي: في الشيوخ الذين أخذوا عنهم، ثم تقاربهم في السن من حيث المولد والوفاة تقاربا لا يتناقض مع اللقيا، وهو أمر يتيح تفاوتا في وفيات المترجمين من جهة، وتفاوتا في عدد الطبقات أيضا.

وقد وجدنا الذهبي في سير أعلام النبلاء كثيرا ما يجمع تراجم الأقرباء في مكان واحد، ولا سيما الإخوة والآباء والأبناء، وهو بعمله هذا إنما راعى الوحدة التاريخية، لكنه في الوقت نفسه كان على حساب الطبقة والزمان.

فحينما ترجم الذهبي لعاقل بن البكير أحد شهداء بدر أتبعه بتراجم إخوته الثلاثة: خالد بن البكير الذي استشهد يوم الرجيع سنة أربع، وإياس بن البكير المتوفى سنة 34 هـ، وعامر الذي استشهد يوم اليمامة.

وهذا الذي ذكرته عن الجمع بين الأقرباء وتجاوز الطبقة منهج سار عليه الذهبي في جميع الكتاب، وإن لم يلتزم به دائما، وقد وجدناه في الأقسام الأخيرة من كتابه يتبع هذا النهج، فحينما ترجم للسلطان الهمام صلاح الدين يوسف المتوفى سنة 589 هـ ترجم معه لأبنائه: العزيز المتوفى سنة 595 هـ، والظاهر المتوفى سنة 613 هـ، والأفضل المتوفى سنة 622 هـ وهلم جرا.



طبيعة تراجم السير وأسس انتقائها:

عرفنا من دراستنا لسيرة الذهبي أنه كان عالما، واسع الاطلاع، غزير المعارف ولا سيما في التراجم، وهو الحقل الذي ألف فيه مجموعة من الكتب وبرع فيه البراعة التي جعلت العلماء يجمعون على أنه مؤرخ الإسلام، وألف كتابه العظيم (تاريخ الإسلام) الذي احتوى على قرابة أربعين ألف ترجمة، وبذلك كانت لديه حصيلة ضخمة من التراجم كان عليه أن ينتقي منها ما يراه مناسبا لكتابه (السير)، فهل كانت لديه خطة معينة سار عليها في ذلك؟ والجواب: إن دراستنا للكتاب تبين أنه سار وفق خطة مرسومة في الانتقاء، سواء أكان ذلك في انتقاء التراجم أم في انتقاء المادة المذكورة في كل ترجمة، وقد انطلق في كل ذلك من ميزانه الذي وزن به المترجم من جهة، والأخبار التي تجمعت لديه عنه من جهة أخرى، وهو في كل ذلك إنما يصدر عن مفهومه المعين لفائدة كتاب من مثل سير أعلام النبلاء.



ولعلنا نستطيع فيما يأتي أن نتبين أسس انتقاء التراجم:

1- العلمية: كان الذهبي قد أورد في (تاريخ الإسلام) جميع المشاهير والأعلام، ولم يورد المغمورين والمجهولين، وقد استعمل الذهبي لفظ " الأعلام ليدل على المشهورين جدًا بعرفه هو لا بعرف غيره، ذلك أن مفهوم العلم يختلف عند مؤلف وآخر استنادا إلى عمق ثقافته.

2- الشمول النوعي: ولم يقتصر الذهبي في سير أعلام النبلاء على نوع معين من الأعلام، بل تنوعت تراجمه فشملت كثيرا من فئات الناس، من الخلفاء، والملوك، والأمراء والسلاطين، والوزراء، والنقباء، والقضاة، والقراء، والمحدثين، والفقهاء، والأدباء، واللغويين، والنحاة، والشعراء، وأرباب الملل والنحل والمتكلمين والفلاسفة، ومجموعة من المعنيين بالعلوم الصرفة.



ومع أن المؤلف قصد أن يكون السير شاملا لجميع أعلام الناس، إلا أننا وجدناه يؤثر المحدثين على غيرهم، لذلك جاءت الغالبية العظمى من المترجمين من أهل العناية بالحديث النبوي الشريف رواية ودراية.



3- الشمول المكاني: وقد عمل المؤلف أن يكون كتابه شاملا لتراجم الأعلام من كافة أنحاء العالم الإسلامي من الأندلس غربا إلى أقصى المشرق، وهو شمول قل وجوده في كثير من الكتب العامة التي تناولت تراجم المسلمين.



4- طول التراجم وقصرها: وهذه من الأمور الواضحة لمطالع الكتاب، فقد نجد ترجمة لا تزيد على بضعة أسطر، بينما نجد ترجمة أخرى قد تبلغ صفحات عديدة.



صياغة تراجم سير أعلام النبلاء وعناصرها:

تختلف المادة الموجودة في ترجمة ما من تراجم سير أعلام النبلاء عن الأخرى حسب طبيعة المترجم له وقيمته العلمية أو الأدبية أو مكانته السياسية من جهة، وتتوحد في الأسس العامة لمكونات الترجمة من جهة أخرى.

ولا نجد تناقضا في ذلك، فالذهبي يعنى في معظم التراجم بذكر اسم المترجم ونسبه، ولقبه وكنيته ونسبته، ثم مولده أو ما يدل على عمره، ونشأته ودراسته وأخذه عن الشيوخ الذين التقى بهم وروى عنهم، وأفاد منهم، ثم تلامذته الذين أخذوا عنه وانتفعوا يعلمه، وتخرجوا به، وما خلف من آثار علمية أو أدبية أو اجتماعية، ويبين بعد ذلك منزلته العلمية وعقيدته من خلال أقاويل العلماء الثقات فيه جرحا وتعديلا ممن كان وثيق الصلة به، ثم غالبا ما ينهي الترجمة بتحديد تاريخ وفاة المترجم ويدقق في ذلك تدقيقًا بارعًا.

والمؤلف في الوقت نفسه يذكر في كل ترجمة أمورا متفرقة تتصل بطبيعتها، فهو يعنى مثلا بإيراد أعمال الخلفاء والملوك والأمراء والمتولين في تراجمهم، ويركز عنايته على ما قاموا به من نشر عدل أو بث ظلم أو سفك دماء.

وهو يعنى بإيراد نماذج من شعر الشعراء ومختارات من نثر الأدباء، وأقوال للمتفلسفين وأرباب المقالات بما ينبئ عن حسن عقيدتهم أو سوئها ونحو ذلك.



المنهج النقدي عند الذهبي في السير:

وقد اعتنى الذهبي في سير أعلام النبلاء بكل أنواع النقد، فلم يقتصر على مجال واحد من مجالاته، فقد عني بنقد المترجمين، وتبيان أحوالهم، وأصدر أحكاما وتقويمات تاريخية، وانتقد الموارد التي نقل منها، ونبه إلى أوهام مؤلفيها، وبرع في إصدار الأحكام على الأحاديث إسنادًا ومتنًا، وسحب ذلك على الروايات التاريخية.

1- نقد المترجمين:

يقوم نقد المترجم عند الذهبي عادة على إصدار حكم في الرجل وتبيان حاله جرحا أو تعديلا، وفي مثل هذه الحال قد يكتفي بآرائهم، أو يرد عليها، أو يرجح رأيا منها، وتكون نتيجة التعديل أو التجريح إصدار أحكام بعبارات فنية لها دلالاتها الدقيقة جدا نحو ثقة وصدق، ووصويلح، ودجال، ومتروك، وكذاب، ومجهول، وما إلى ذلك مما فصله في مقدمة كتابه النفيس (ميزان الاعتدال).



2- نقد الأحاديث والروايات:

أكثر الإمام الذهبي من إيراد الأحاديث النبوية الشريفة في كتبه التاريخية وغيرها، ومنها كتابه (سير أعلام النبلاء). وقد عني دائما بالتعليق على هذه الأحاديث من حيث الإسناد والمتن ما استطاع إلى ذلك سبيلا، قال تلميذه الصلاح الصفدي: "وأعجبني منه ما يعانيه في تصانيفه من أنه لا يتعدى حديثا يورده حتى يبين ما فيه من ضعف متن أو ظلام إسناد، أو طعن في رواته، وهذا لم أر غيره يراعي هذه الفائدة فيما يورده".

وقد انتقد الإمام الذهبي الحافظين: أبا نعيم الأصبهاني والخطيب البغدادي، وذنبهما بروايتهما الموضوعات في كتبهما وسكوتهما عنها.

3- التعصب والإنصاف في النقد:

كان من منهج الذهبي نقل آراء الموافقين والمخالفين في المترجم ليقدم صورة كاملة عنه، وهو طابع عام في كتابه تجده في كل ترجمة من تراجمه، بينما اقتصر آخرون على إيراد المدائح في كتبهم مثل السبكي (ت: 771 هـ) وغيره.

وقد عرفنا من حياة الذهبي أنه رافق الحنابلة، وتأثر بشيخه ابن تيمية لا سيما في العقائد، فكان شافعي الفروع، حنبلي الأصول، ولذلك عني عند النقد بإيراد العقائد على طريقة أهل الحديث، وعدها جزءا منه كما بينا قبل قليل.

ووجدنا في البيئة الدمشقية في الوقت نفسه من يتعصب للأشاعرة غاية التعصب. وبسبب العقائد انتقد الذهبي من بعض معاصريه لا سيما تلميذه تاج الدين عبد الوهاب السبكي (728- 771هـ)، في غير موضع من كتابه "طبقات الشافعية الكبرى"، وفي كتابه الآخر (معيد النعم)، فقال في ترجمته من الطبقات: "كان شيخنا، والحق أحق ما قيل، والصدق أولى ما آثره ذو السبيل شديد الميل إلى آراء الحنابلة، كثير الازدراء بأهل السنة، الذين إذا حضروا كان أبو الحسن الأشعري فيهم مقدم القافلة، فلذلك لا ينصفهم في التراجم، ولا يصفهم بخير إلا وقد رغم منه أنف الراغم. صنف التاريخ الكبير، وما أحسنه لولا تعصب فيه، وأكمله لولا نقص فيه وأي نقص يعتريه".

وقد أثارت انتقادات السبكي هذه نقاشا بين المؤرخين، فرد عليه السخاوي (ت: 902هـ) حيث اتهم السبكي بالتعصب الزائد للأشاعرة، ونقل قول عز الدين الكناني (ت: 819هـ) في السبكي: "هو رجل قليل الأدب، عديم الإنصاف، جاهل بأهل السنة ورتبهم".

وقال يوسف بن عبد الهادي (ت: 909هـ) في معجم الشافعية: "وكلامه هذا في حق الذهبي غير مقبول فإن الذهبي كان أجل من أن يقول ما لا حقيقة له... والإنكار عليه أشد من الإنكار على الذهبي لا سيما وهو شيخه وأستاذه فما كان ينبغي له أن يفرط فيه هذا الإفراط".

ومع ذلك فإن هذه القضية جديرة بالدرس لأنها توضح أهمية كتاب الذهبي من جهة، ومنهجه ومدى عدالته في النقد والتحري من جهة أخرى.

ومع ما كان للذهبي من إعجاب بشيخه ابن تيمية فإنه أخذ عليه: "تغليظه وفظاظته وفجاجة عبارته وتوبيخه الأليم المبكي المنكي المثير النفوس"، كما أخذ عليه: "الكبر والعجب وفرط الغرام في رياسة المشيخة والازدراء بالكبار".

وقد رأى في بعض فتاويه انفرادا عن الأمة، قال: "وقد انفرد بفتاوى نيل من عرضه لأجلها، وهي مغمورة في بحر علمه فالله تعالى يسامحه ويرضى عنه فما رأيت مثله، وكل أحد من الأمة فيؤخذ من قوله ويترك فكان ماذا".

وقد بلغ حرص الذهبي في النقد وشدة تحريه أنه تكلم في ابنه أبي هريرة عبد الرحمن فقال: "إنه حفظ القرآن، ثم تشاغل عنه حتى نسيه".

المصدر: بشار عواد معروف: مقدمة تحقيق سير أعلام النبلاء للذهبي، الناشر: مؤسسة الرسالة- بيروت، الطبعة: الثالثة 1405 هـ/ 1985م.

التصنيف: تراجم العلماء[/align]
المشاهدات 1158 | التعليقات 0