الذهاب إلى المتنزهات .. أحكام وآداب

أ.د عبدالله الطيار
1440/03/02 - 2018/11/10 15:34PM

الخطبة الأولى:

إنّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ، ونعوذ باللهِ منْ شرورِ أنفسنَا ومنْ سيئاتِ أعمالنا منْ يهدهِ اللهُ فلَا مُضلّ لهُ ومنْ يُضلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ بعثهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وأصحابهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ: فاتّقوا اللهَ أيها المؤمنونَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}[آل عمران:102].

عباد الله: لقد هبّ نسيمُ الشتاء بهوائهِ العليلِ، وهطلتْ أمطارُ الخيرِ الغزيرةُ -بفضلِ اللهِ تعالى – على مناطقَ كثيرةٍ في بلادِنا حرسَها اللهُ، فأدّى نزولُ هذه الأمطار إلى جريانِ الأوديةِ والشعابِ في أغلبِ المناطقِ، فتجملتْ الأجواءُ بالأمطارِ، وتجملتْ الأرضُ بالخضرةِ والأزهارِ، فراحَ كثيرٌ من الناسِ يستغلون هذه الفرصةِ الرائعةِ في الخروجِ والتنزهِ والتمتعِ بجمالِ البرِّ .. فالحمدُ للهِ الذي بنعمتِه تتمُّ الصالحاتُ.

ودينُنا وللهِ الحمدِ لا يمنعُ المسلمَ من الترويحِ عن النفسِ، وقضاءِ أوقاتِ راحةٍ واستجمامٍ ما دامَ أنّهُ لا يترتبُ عليه تضييعُ واجبٍ أو وقوعٌ في محرَّمٍ. فقدْ كانَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ يصنعُ ذلكَ، كما في حديثِ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها مرفوعًا: (أنّ النبيّ صلى اللهُ عليهِ وسلّم كانَ يبدو إلى السلاعِ"(رواه أبو داود). والسلاعُ هو مجرى ماءٍ من أعلى الوادي إلى أسفلِهِ. فيباحُ للمسلمِ أنْ يستجمَّ من ضجيجِ الحاضرةِ وشواغِلها وزحامِها، فيخرجُ إلى البرِّ للتنزهِ والترفيهِ عن النَّفْسِ، ونيلِ قسطٍ من الراحةِ، والتمتعِ بأجواءِ الشتاءِ الباردِ والسّماءِ الممطرةِ، والتلذذِ بالمناظرِ الزاهرةِ، ويُدخلُ السرورَ على نفسِهِ وأهلِهِ وعيالِهِ.

عبادَ اللهِ: وهذهِ الرّحلاتُ الطيبةُ لها فوائدُ جمَّةٌ في حياةِ المسلمِ إذا صلحتْ نيتُه، ومنْ ذلك:

أولاً: النظرُ في آياتِ اللهِ الكونيةِ، والتفكرُ في عظيمِ خلقهِ وقدرتِه، فيتأملُ مشاهدَ شروقِ الشّمسِ وغروبِها، وطلوعِ القمرِ واستنارتِهِ وجمالهِ، وسكونُ اللّيلِ وتلألأه بالنجومِ الزّاهراتِ، ويقلبُ ناظريهِ فيما حولهُ منَ الجبالِ والسُّهولِ والتِّلالِ والرِّمالِ، ومجامعِ المياهِ والأزهارِ والورودِ والأشجارِ، فيزيدُ إيمانُه ويقينُه بأنّ كلَّ ما في هذهِ الدارِ دليلٌ على حكمتِه وعظمتِه وقدرتِه.

ثانياً: الاستجمامُ والراحةُ والاستمتاعُ بعبقِ الهواءِ الصّافي، وإخراجُ ما في النفس من رواسبِ الحياةِ وضغوطِها، والخروجُ من كدرِ الحاضرةِ وشواغِلها إلى بساطةِ البريَّةِ وفوائدِها.

ثالثاً: إدخالُ السرورِ على النفسِ والأهلِ والعيالِ بالترفيهِ المباحِ.

رابعاً: شكرُ اللهِ جلَّ وعلا على نعمتِهِ وفضلِهِ وكرمِهِ بما يَسَّرَ من وجودِ تلك الأماكنِ، والتنزهِ فيها، والاستمتاعِ بمناظرِها الخلابةِ وهوائِها العليلِ.

عبادَ اللهِ: إنّ الخروجَ إلى المتنزهاتِ نعمةٌ عظيمةٌ ومنَّةٌ كبيرةٌ منَّ اللهُ جلّ وعلا بها على عبادِهِ، وهي من المباحاتِ التي أحلَّها اللهُ تعالى لعبادِه، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ..}[الأعراف:32]. يقولُ ابنُ جماعةَ رحمهُ اللهُ: "ولا بأسَ أنْ يريحَ نفسَه وقلبَه وذهنَه بتنزهٍ وتفرجٍ في المتنزهاتِ بحيثُ يعودُ على حالِهِ ولا يضيعُ عليهِ زمانُه"، قال: وكان بعضُ أكابرِ العلماءِ يجمعُ أصحابَه في بعضِ أماكنِ التنزهِ في بعضِ أيامِ السنةِ، ويتمازحونَ بما لا يضرُّهم في دينِ ولا عرضِ".

أيُّهَا المؤمنونَ والمؤمنات: ومن أرادَ الخروجَ إلى تلك المتنزهاتِ أو البر فهناك توجيهاتٌ يحسنُ أنْ يأخذَ بها فهي تعينُه على كلِّ خيرٍ وتصرفُ عنهُ كلَّ شرٍّ، ومنْ ذلكَ:

أولًا: النيةُ الطيبةُ، واختيارُ الوقتِ والمكانِ المناسبين؛ فينبغي على المسلمِ أنْ ينويَ بخروجهِ ونزهتِه التفكرَ في ملكوتِ اللهِ، والتّقَوِّي على طاعتِه، والتمتعِ بالمباحاتِ، وإعطاءِ النفسِ حقَّها، وأنْ يخرجَ في أوقاتٍ لا تكثرُ فيها الرياحُ والأمطارُ، فربما يضرُّه ذلكَ ويضرُّ منْ معهُ، وعليه باختيارِ المكانِ المناسبِ والبعيدِ عن الزِّحامِ، ومجاري السيولِ، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تنزلوا على جوادِّ الطريقِ ولا تقضوا عليها الحاجاتِ) (رواه ابن ماجة وصححه الألباني).

ثانياً: اختيارُ الصحبةِ الصالحةِ: فهي نعمَ المعينُ بعدَ اللهِ على الخيرِ، وقدْ نبّهَ لذلك نبينَا صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ بقولِهِ:(إِنَّما مثَلُ الجلِيس الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ: كَحَامِلِ المِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحًا طيِّبةً، ونَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَن يَحْرِقَ ثِيابَكَ، وإمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا مُنْتِنَةً)(متفق عليه).

ثالثًا: الأخذُ بأسبابِ الأمانِ والسّلامةِ؛ كمعرفةِ الطّريقِ، والأماكنِ التي يُذهبُ إليها، وتجهيزُ متطلباتِ الرحلةِ من طعامٍ وشرابٍ وفرشٍ وغيرِ ذلكَ منَ الضّروراتِ والمباحاتِ.

رابعاً: ذكرُ اللهِ تعالى عندَ النزولِ في المكانِ المناسبِ؛ فيحسنُ بالمسلمِ أنْ يقولَ دعاءَ نزولِ المنزلِ، لما روى مسلمٌ عن خولةَ بنتِ حكيمٍ رضي الله عنها أنَّها سمعتْ النبيَّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم يقولُ: (إذا نزلَ أحدُكم منزلاً؛ فليقل: أعوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّاتِ من شرّما خلَقَ؛ فإنه لا يضرّه شيءٌ حتّى يرتحلّ منه)(رواه مسلم).

خامساً: الالتزامُ بحسنِ الخلقِ؛ فهذا يزيدُ المودةَ والتحابَّ بين رفقاءِ الرحلةِ، ويُبعدُ عنهم تسلّطَ الشيطانِ، وعلى أولياءِ الأمورِ ممن يخرجون بأسرِهم أنْ يلتزموا الرفقَ والتواضعَ عند تعاملِهم مع أبنائِهم، فذلك يزيدُ الألفةَ والمودةَ والمحبةَ بينهم.

سادساً: الالتزامُ بآدابِ قضاءِ الحاجةِ، وعدمِ تلويثِ الأماكنِ بالغائطِ والبولِ وحفائضِ الأطفالِ، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في المواردِ، وقارعةِ الطريقِ، والظلِّ)(رواه أبو داود وحسّنه الألباني).

سابعاً: الحرصُ على أداءِ الصلاةِ في وقتِها، ورفعِ الأذانِ لها، ويجوزُ للمسلمِ قصرُ الصلاةِ وجمعُها إذا كانت المسافةُ تبعدُ عن بلدهِ أكثرَ من ثمانينَ كيلو مترًا، ويجوزُ لهُ التيمُّمَ إذا لمْ يجدْ الماءَ، أو كان الماءُ قليلاً لا يكفي إلّا للشربِ.

ثامناً: تحرّي القبلةَ عندَ أداءِ الصلاةِ، وآلاتُ معرفةِ القبلةِ أصبحتْ ميسرةً وللهِ الحمدُ والمنةُ، ومنْ لمْ يكنْ لديهِ شيءٌ يدلُّهُ عليها فليجتهدْ في معرفتِها وليُصلّ، وإذا تبيَّنَ لهُ أنّهُ صلى خلافَ القبلةِ فصلاتُهُ صحيحةُ ولا إعادةَ عليهِ.

تاسعاً: غضُّ البصرِ وحسنُ الجوارِ؛ ببذلِ المعروفِ وكفِّ الأذى، لقولِهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (المسلمُ منْ سَلِمَ المسلمونَ منْ لسانِهِ ويدِهِ)(رواه مسلم)، وقولِه:(من آذى المسلمينَ في طرقهمْ وجبتْ عليهِ لعنتُهم)(رواه الطبراني وحسنه).

عاشراً: يجبُ على أولياءِ الأمورِ حفظُ نسائهمْ، وعدمُ تركهنَّ لأصحابِ القلوبِ المريضةِ كيْ لا يتعرضوا لهنَّ وخاصةً في تلكَ الأماكنِ، وعليهمْ أنْ يأمروهنَّ بالحجابِ ويمنعونهنَّ من التبرجِ والسُّفورِ ورفع الأصواتِ، فهنّ أمانةٌ عند أوليائهنّ، قال صلى الله عليه وسلم (والرجلُ راعٍ ومسؤولٌ عنْ رعيتِهِ)(متفق عليه)، وعلى كلِّ امرأةٍ مسلمةٍ تؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ أن تتقيَ اللهَ، وأن تحفظَ دينَها في نفسِها وفيمن تعولُ، فاللهُ جلَّ وعلا سائلُهَا عن ذلك .

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور}[الحديد:20]. باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكمْ بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكرِ الحكيمِ أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفر لي ولكم إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلين، نبيِّنا محمد صلى الله عليه وآلهِ وصحبهِ أجمعين، أما بعدُ:

فاتقوا اللهَ عبادَ اللهَ: واعلموا أنَّ من التوجيهات الهامة للمتنزهينَ ما يلي:

أحد عشر: تجنبُ الاختلاطِ بينَ الرجالِ والنّساءِ، فذلك يؤدي إلى مفاسدَ عظيمةٍ.

اثنا عشرَ: اجتنابُ التفحيطِ والتطعيس لأن ذلك يؤذي المسلمينَ، واللهُ جلّ وعلا نهى عن ذلك بقولِهِ:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}[الأحزاب:58].

ثلاثةَ عشرَ: المحافظةُ على نظافةِ المكانِ، وعدمِ إلقاءِ المخلفاتِ والفضلاتِ فيهِ، وتركِهِ نظيفاً كمَا كانَ.

أربعةَ عشرَ: إذا أرادَ المسلمُ المبيتَ في مكانهِ بالبرِّ فعليهِ أنْ يلتزمَ بأذكارِ النومِ، وإطفاءِ السرُج، وإغلاقِ المداخل، وتحصينِ المكانِ من العقاربِ والحيّاتِ وغيرِها، ولا يتْركُ النّارَ مشتعلةً ولا ينامُ قبلَ إطفائِها، فعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ هذهِ النّارَ إنما هي عدوٌ لكم، فإذا نمتمْ فأطفئوها عنكم) (رواه البخاري، ومسلم)  .

خمسةَ عشرَ: استغلالُ الوقتِ بما ينفعُ، وعدمُ إضاعتِهِ فيما يضرُّ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ عَن عُمُرِه فيما أفناهُ وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ) (رواه الترمذي).

عبادَ الله: أجهزةُ الدولةِ بجميعِ مؤسساتِها تبذلُ جهودًا كبيرةً في إقامةِ تلكَ المتنزهاتِ وتنظيفِها وتمهيدِها للناس، وإمدادها بما تحتاجه من إنارة ونظافة وماء، وتوفّر عمالَ النظافةِ وسياراتِ البلديةِ في طرقِ السياراتِ، وفي البرِّ وفي المتنزهاتِ لتنظيفِ تلك الأماكنِ ومتابعتِها لتكونَ مهيئةً للجميع. فحافظوا عليها واتركوها وهي على حالٍ أفضل مما كانتْ عليه حينَ وصلتمْ إليها، واحمدوا الله واشكروه على نعمهِ العظيمةِ.

هذا وصلّوا وسلّموا على الحبيبِ المصطفى فقدْ أمركم اللهُ بذلكَ فقالَ جلّ مِنْ قائلٍ عليمًا: {إِنَّ اللَّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).                            

الجمعة: 30/2/1440هـ

الخطبة الأولى:

إنّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ، ونعوذ باللهِ منْ شرورِ أنفسنَا ومنْ سيئاتِ أعمالنا منْ يهدهِ اللهُ فلَا مُضلّ لهُ ومنْ يُضلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ بعثهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وأصحابهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ: فاتّقوا اللهَ أيها المؤمنونَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}[آل عمران:102].

عباد الله: لقد هبّ نسيمُ الشتاء بهوائهِ العليلِ، وهطلتْ أمطارُ الخيرِ الغزيرةُ -بفضلِ اللهِ تعالى – على مناطقَ كثيرةٍ في بلادِنا حرسَها اللهُ، فأدّى نزولُ هذه الأمطار إلى جريانِ الأوديةِ والشعابِ في أغلبِ المناطقِ، فتجملتْ الأجواءُ بالأمطارِ، وتجملتْ الأرضُ بالخضرةِ والأزهارِ، فراحَ كثيرٌ من الناسِ يستغلون هذه الفرصةِ الرائعةِ في الخروجِ والتنزهِ والتمتعِ بجمالِ البرِّ .. فالحمدُ للهِ الذي بنعمتِه تتمُّ الصالحاتُ.

ودينُنا وللهِ الحمدِ لا يمنعُ المسلمَ من الترويحِ عن النفسِ، وقضاءِ أوقاتِ راحةٍ واستجمامٍ ما دامَ أنّهُ لا يترتبُ عليه تضييعُ واجبٍ أو وقوعٌ في محرَّمٍ. فقدْ كانَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ يصنعُ ذلكَ، كما في حديثِ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها مرفوعًا: (أنّ النبيّ صلى اللهُ عليهِ وسلّم كانَ يبدو إلى السلاعِ"(رواه أبو داود). والسلاعُ هو مجرى ماءٍ من أعلى الوادي إلى أسفلِهِ. فيباحُ للمسلمِ أنْ يستجمَّ من ضجيجِ الحاضرةِ وشواغِلها وزحامِها، فيخرجُ إلى البرِّ للتنزهِ والترفيهِ عن النَّفْسِ، ونيلِ قسطٍ من الراحةِ، والتمتعِ بأجواءِ الشتاءِ الباردِ والسّماءِ الممطرةِ، والتلذذِ بالمناظرِ الزاهرةِ، ويُدخلُ السرورَ على نفسِهِ وأهلِهِ وعيالِهِ.

عبادَ اللهِ: وهذهِ الرّحلاتُ الطيبةُ لها فوائدُ جمَّةٌ في حياةِ المسلمِ إذا صلحتْ نيتُه، ومنْ ذلك:

أولاً: النظرُ في آياتِ اللهِ الكونيةِ، والتفكرُ في عظيمِ خلقهِ وقدرتِه، فيتأملُ مشاهدَ شروقِ الشّمسِ وغروبِها، وطلوعِ القمرِ واستنارتِهِ وجمالهِ، وسكونُ اللّيلِ وتلألأه بالنجومِ الزّاهراتِ، ويقلبُ ناظريهِ فيما حولهُ منَ الجبالِ والسُّهولِ والتِّلالِ والرِّمالِ، ومجامعِ المياهِ والأزهارِ والورودِ والأشجارِ، فيزيدُ إيمانُه ويقينُه بأنّ كلَّ ما في هذهِ الدارِ دليلٌ على حكمتِه وعظمتِه وقدرتِه.

ثانياً: الاستجمامُ والراحةُ والاستمتاعُ بعبقِ الهواءِ الصّافي، وإخراجُ ما في النفس من رواسبِ الحياةِ وضغوطِها، والخروجُ من كدرِ الحاضرةِ وشواغِلها إلى بساطةِ البريَّةِ وفوائدِها.

ثالثاً: إدخالُ السرورِ على النفسِ والأهلِ والعيالِ بالترفيهِ المباحِ.

رابعاً: شكرُ اللهِ جلَّ وعلا على نعمتِهِ وفضلِهِ وكرمِهِ بما يَسَّرَ من وجودِ تلك الأماكنِ، والتنزهِ فيها، والاستمتاعِ بمناظرِها الخلابةِ وهوائِها العليلِ.

عبادَ اللهِ: إنّ الخروجَ إلى المتنزهاتِ نعمةٌ عظيمةٌ ومنَّةٌ كبيرةٌ منَّ اللهُ جلّ وعلا بها على عبادِهِ، وهي من المباحاتِ التي أحلَّها اللهُ تعالى لعبادِه، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ..}[الأعراف:32]. يقولُ ابنُ جماعةَ رحمهُ اللهُ: "ولا بأسَ أنْ يريحَ نفسَه وقلبَه وذهنَه بتنزهٍ وتفرجٍ في المتنزهاتِ بحيثُ يعودُ على حالِهِ ولا يضيعُ عليهِ زمانُه"، قال: وكان بعضُ أكابرِ العلماءِ يجمعُ أصحابَه في بعضِ أماكنِ التنزهِ في بعضِ أيامِ السنةِ، ويتمازحونَ بما لا يضرُّهم في دينِ ولا عرضِ".

أيُّهَا المؤمنونَ والمؤمنات: ومن أرادَ الخروجَ إلى تلك المتنزهاتِ أو البر فهناك توجيهاتٌ يحسنُ أنْ يأخذَ بها فهي تعينُه على كلِّ خيرٍ وتصرفُ عنهُ كلَّ شرٍّ، ومنْ ذلكَ:

أولًا: النيةُ الطيبةُ، واختيارُ الوقتِ والمكانِ المناسبين؛ فينبغي على المسلمِ أنْ ينويَ بخروجهِ ونزهتِه التفكرَ في ملكوتِ اللهِ، والتّقَوِّي على طاعتِه، والتمتعِ بالمباحاتِ، وإعطاءِ النفسِ حقَّها، وأنْ يخرجَ في أوقاتٍ لا تكثرُ فيها الرياحُ والأمطارُ، فربما يضرُّه ذلكَ ويضرُّ منْ معهُ، وعليه باختيارِ المكانِ المناسبِ والبعيدِ عن الزِّحامِ، ومجاري السيولِ، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تنزلوا على جوادِّ الطريقِ ولا تقضوا عليها الحاجاتِ) (رواه ابن ماجة وصححه الألباني).

ثانياً: اختيارُ الصحبةِ الصالحةِ: فهي نعمَ المعينُ بعدَ اللهِ على الخيرِ، وقدْ نبّهَ لذلك نبينَا صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ بقولِهِ:(إِنَّما مثَلُ الجلِيس الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ: كَحَامِلِ المِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحًا طيِّبةً، ونَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَن يَحْرِقَ ثِيابَكَ، وإمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا مُنْتِنَةً)(متفق عليه).

ثالثًا: الأخذُ بأسبابِ الأمانِ والسّلامةِ؛ كمعرفةِ الطّريقِ، والأماكنِ التي يُذهبُ إليها، وتجهيزُ متطلباتِ الرحلةِ من طعامٍ وشرابٍ وفرشٍ وغيرِ ذلكَ منَ الضّروراتِ والمباحاتِ.

رابعاً: ذكرُ اللهِ تعالى عندَ النزولِ في المكانِ المناسبِ؛ فيحسنُ بالمسلمِ أنْ يقولَ دعاءَ نزولِ المنزلِ، لما روى مسلمٌ عن خولةَ بنتِ حكيمٍ رضي الله عنها أنَّها سمعتْ النبيَّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم يقولُ: (إذا نزلَ أحدُكم منزلاً؛ فليقل: أعوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّاتِ من شرّما خلَقَ؛ فإنه لا يضرّه شيءٌ حتّى يرتحلّ منه)(رواه مسلم).

خامساً: الالتزامُ بحسنِ الخلقِ؛ فهذا يزيدُ المودةَ والتحابَّ بين رفقاءِ الرحلةِ، ويُبعدُ عنهم تسلّطَ الشيطانِ، وعلى أولياءِ الأمورِ ممن يخرجون بأسرِهم أنْ يلتزموا الرفقَ والتواضعَ عند تعاملِهم مع أبنائِهم، فذلك يزيدُ الألفةَ والمودةَ والمحبةَ بينهم.

سادساً: الالتزامُ بآدابِ قضاءِ الحاجةِ، وعدمِ تلويثِ الأماكنِ بالغائطِ والبولِ وحفائضِ الأطفالِ، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في المواردِ، وقارعةِ الطريقِ، والظلِّ)(رواه أبو داود وحسّنه الألباني).

سابعاً: الحرصُ على أداءِ الصلاةِ في وقتِها، ورفعِ الأذانِ لها، ويجوزُ للمسلمِ قصرُ الصلاةِ وجمعُها إذا كانت المسافةُ تبعدُ عن بلدهِ أكثرَ من ثمانينَ كيلو مترًا، ويجوزُ لهُ التيمُّمَ إذا لمْ يجدْ الماءَ، أو كان الماءُ قليلاً لا يكفي إلّا للشربِ.

ثامناً: تحرّي القبلةَ عندَ أداءِ الصلاةِ، وآلاتُ معرفةِ القبلةِ أصبحتْ ميسرةً وللهِ الحمدُ والمنةُ، ومنْ لمْ يكنْ لديهِ شيءٌ يدلُّهُ عليها فليجتهدْ في معرفتِها وليُصلّ، وإذا تبيَّنَ لهُ أنّهُ صلى خلافَ القبلةِ فصلاتُهُ صحيحةُ ولا إعادةَ عليهِ.

تاسعاً: غضُّ البصرِ وحسنُ الجوارِ؛ ببذلِ المعروفِ وكفِّ الأذى، لقولِهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (المسلمُ منْ سَلِمَ المسلمونَ منْ لسانِهِ ويدِهِ)(رواه مسلم)، وقولِه:(من آذى المسلمينَ في طرقهمْ وجبتْ عليهِ لعنتُهم)(رواه الطبراني وحسنه).

عاشراً: يجبُ على أولياءِ الأمورِ حفظُ نسائهمْ، وعدمُ تركهنَّ لأصحابِ القلوبِ المريضةِ كيْ لا يتعرضوا لهنَّ وخاصةً في تلكَ الأماكنِ، وعليهمْ أنْ يأمروهنَّ بالحجابِ ويمنعونهنَّ من التبرجِ والسُّفورِ ورفع الأصواتِ، فهنّ أمانةٌ عند أوليائهنّ، قال صلى الله عليه وسلم (والرجلُ راعٍ ومسؤولٌ عنْ رعيتِهِ)(متفق عليه)، وعلى كلِّ امرأةٍ مسلمةٍ تؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ أن تتقيَ اللهَ، وأن تحفظَ دينَها في نفسِها وفيمن تعولُ، فاللهُ جلَّ وعلا سائلُهَا عن ذلك .

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور}[الحديد:20]. باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكمْ بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكرِ الحكيمِ أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفر لي ولكم إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلين، نبيِّنا محمد صلى الله عليه وآلهِ وصحبهِ أجمعين، أما بعدُ:

فاتقوا اللهَ عبادَ اللهَ: واعلموا أنَّ من التوجيهات الهامة للمتنزهينَ ما يلي:

أحد عشر: تجنبُ الاختلاطِ بينَ الرجالِ والنّساءِ، فذلك يؤدي إلى مفاسدَ عظيمةٍ.

اثنا عشرَ: اجتنابُ التفحيطِ والتطعيس لأن ذلك يؤذي المسلمينَ، واللهُ جلّ وعلا نهى عن ذلك بقولِهِ:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}[الأحزاب:58].

ثلاثةَ عشرَ: المحافظةُ على نظافةِ المكانِ، وعدمِ إلقاءِ المخلفاتِ والفضلاتِ فيهِ، وتركِهِ نظيفاً كمَا كانَ.

أربعةَ عشرَ: إذا أرادَ المسلمُ المبيتَ في مكانهِ بالبرِّ فعليهِ أنْ يلتزمَ بأذكارِ النومِ، وإطفاءِ السرُج، وإغلاقِ المداخل، وتحصينِ المكانِ من العقاربِ والحيّاتِ وغيرِها، ولا يتْركُ النّارَ مشتعلةً ولا ينامُ قبلَ إطفائِها، فعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ هذهِ النّارَ إنما هي عدوٌ لكم، فإذا نمتمْ فأطفئوها عنكم) (رواه البخاري، ومسلم)  .

خمسةَ عشرَ: استغلالُ الوقتِ بما ينفعُ، وعدمُ إضاعتِهِ فيما يضرُّ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ عَن عُمُرِه فيما أفناهُ وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ) (رواه الترمذي).

عبادَ الله: أجهزةُ الدولةِ بجميعِ مؤسساتِها تبذلُ جهودًا كبيرةً في إقامةِ تلكَ المتنزهاتِ وتنظيفِها وتمهيدِها للناس، وإمدادها بما تحتاجه من إنارة ونظافة وماء، وتوفّر عمالَ النظافةِ وسياراتِ البلديةِ في طرقِ السياراتِ، وفي البرِّ وفي المتنزهاتِ لتنظيفِ تلك الأماكنِ ومتابعتِها لتكونَ مهيئةً للجميع. فحافظوا عليها واتركوها وهي على حالٍ أفضل مما كانتْ عليه حينَ وصلتمْ إليها، واحمدوا الله واشكروه على نعمهِ العظيمةِ.

هذا وصلّوا وسلّموا على الحبيبِ المصطفى فقدْ أمركم اللهُ بذلكَ فقالَ جلّ مِنْ قائلٍ عليمًا: {إِنَّ اللَّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).                            

الجمعة: 30-2-1440هـ

المشاهدات 1256 | التعليقات 0