الذنوب لا تحابي أحداً .. أ. زياد الريسي – مدير الإدارة العلمية
الفريق العلمي
الحمدلله وكفى والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، وعلى آله وأصحابه النجباء ومن به اهتدى وعلى طريقه اقتدى، وسلم تسليما كثيرا؛ ما أنار نجم في دجى وتنفس صبح وأضاء، وبعد:
أيها الفضلاء: أمر الله بالمعروف وهو ما تعارفت عليه كافة الشرائع والمجتمعات ذات الطباع السليمة، ونهى الله عن المنكر وهو ما استنكرته كافة الشرائع والمجتمعات ذات الطباع السليمة.
ولقد حد الله -سبحانه- حدوداً وحذر من اقترابها وفرض أسواراً وتوعد من تجاوزها، قال تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[البقرة: 229]، ولم يقف الأمر عند منع المعاصي بكل الأساليب والتحذير منها بشتى العبارات؛ بل كرهها الله -تعالى- وأبغضها، قال الله -سبحانه-: (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ)[الحجرات: 7]، كما لم يرضها لعباده، قال سبحانه: (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ)[الزمر: 7].
وعليه يجب على العباد بغض ما أبغضه الله -تعالى- ورسوله وكرهاه، وحب ما أحبه الله -سبحانه- ورسوله وارتضياه، قال عز وجل: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)[آل عمران: 53]، وقال سبحانه: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ)[الحجرات: 7].
والذنوب -أيها الكرام- ليست على مرتبة واحدة؛ بل متفاوتة في قبحها وقذارتها فبعضها أقبح من الآخر، كما تختلف بعضها عن بعض في أنواعها ودرجاتها؛ فمنها الشرك والكفر والنفاق، وبعضها كبائر ومحرمات وبعضها دون ذلك صغائر وسيئات، قال الله -عز وجل-: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)[الشورى: 37]، وقال الله: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ)[النجم: 32]، وقال سبحانه: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا)[النساء: 31].
هذا بالنسبة لموقعها من الشرع ومنزلتها منه؛ أما من حيث آثارها وعقوباتها فتختلف كذلك؛ إذ منها ما يخلد صاحبها في النار، ومنها ما يعذب بقدرها حتى يتخلص من آثارها ثم نهايته الجنة، ومنها من تدرك أصحابها شفاعة الشافعين ولا يدخل النار، ومنها ما تكفر قبل ذلك في الدنيا، وأدلة ذلك وافرة ومستفيضة، والحريص يجدها مفصلة في كتب العقيدة والإيمان.
أيها الكرام: ينبغي أن يُعلم أن العبد مؤاخذ على كل مخالفة قارفها؛ سواء كانت فعل محظور أو ترك مأمور؛ يغفر الله لمن يشاء ويعذب من يشاء يعجِّل العقوبة على من يشاء ويؤخرها على من يشاء، قال الله -تعالى- في معرض رده على افتراءات أهل الكتاب: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)[المائدة: 18].
أحبتي: يجب أن يُعلم أن الحلال كما يشترك في إباحته والتجوز به الجميع لا يخرج فرد من ذلك الحكم إلا بدليل؛ فكذلك الحرام يشترك في حرمة ممارسته الكل ولا يستثنى أحد من ذلك إلا بدليل؛ فالمنكر يبقى منكرا لا ينفك عنه وصفه حتى لو قارفه جميع الناس، ومثله المعروف يبقى معروفا حتى لو تركه كل البشر؛ لأن مشرِّع الحلال والحرام هو الله ورسوله، وليس من عباده من يملك حق التشريع ولا أحقية التحليل والتحريم، قال تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)[الشورى: 21].
وليس لإنسان فسحة أو سعة أن يخالف ذلك، قال سبحانه: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ)[يونس: 59].
ويستثنى من هذا المنع ما كان متعلقا بأمور الدنيا؛ فقد أباح الشرع لنا حرية التصرف فيها بما لا يخالف قواعد الشرع وأصوله أو يتصادم مع كليات الدين وثوابته؛ فعن عائشة وأنس بن مالك -رضي الله عنهما- قال صلى الله عليه وسلم: "إذا كان شيءٌ من أمرِ دنياكم فأنتم أعلمُ به، وإذا كان شيءٌ من أمرِ دينِكم فإليَّ"(الألباني في صحيح الجامع (٧٦٧)).
وعليه فإن من ارتكب ذنباً استحق عقوبة الله -تعالى- ولا موجب على الله؛ يغفر لمن يشاء ويعفوا عمن يشاء من الذنوب التي يشاء في الوقت الذي يشاء، أو يهيئ سبحانه من الأقدار التي تمضي على عبده بقدره ما تكون كفارة له وماحية عنه.
وهنا نأتي إلى تقرير ما أثبتناه في عنوان هذه المقالة وهو أن الأصل أن الذنوب وتبعاتها لا تحابي أحدا وعقوباتها لا تستثني أحدا؛ لشخصه أو مكانته الاجتماعية أو الاقتصادية أو غيرها؛ فكما تجري آثارها على الرجل تجري على المرأة، وكما تنزل بالفاجر تنزل بالبر، وكما تأتي على الداعية تأتي على المدعوين، وكما تحيق بالأفراد تحيق بالمجتمعات، وكما تصيب الوضيع تصيب الشريف، وكما تأتي على اتباع الرسل تأتي على الرسل؛ هذا من حيث الأصل ولا يكون غير ذلك إلا بمانع أو مسوغ شرعي؛ يدعو للعفو والمغفرة ويحول دون الجزاء والمآخذة.
لكن مع هذا التأصيل ينبغي البسط أكثر حول بيان ما بدر عن أنبياء الله ورسله؛ كون هذا الصنف الكريم عصمه الله -تعالى- من مزاولة المحرمات والكبائر وكرمه من ممارسة الفسق والفجور؛ فلا يجوز في حقهم ذلك لأنهم بلغوا مرتبة الكمال البشري وصاروا ملائكة البشر، وهم معصومون عن معصية الله -تعالى- بطريقة متعمدة ومقصودة، قال الله: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ)[النمل: 59].
إذ لا يستساغ أن يكون المصطفون الأخيار قدوات للخلق يقتدى بهم وأسوات للبشر يهتدى بهم؛ ثم يشاركون قومهم فيما ابتلوا به من المعاصي بأنواعها، ثم يأمر الله الخلق باتباعهم ويوجب عليهم طاعتهم وهم على هذه الحال، ثم يعاقبهم على أخطائهم التي شابهوا الأنبياء فيها واستووا معهم فيها -وحاش لله ذلك-.
لكنه مع هذا الاصطفاء والاجتباء يجوز في حقهم فعل السيئات ومزاولة الخطيئات بحكم بشريتهم ودخولهم في قوله عليه الصلاة والسلام: " كلُّ بني آدمَ خطَّاءٌ وخيرُ الخطَّائينَ التوَّابونَ"(أنس بن مالك- الألباني)، وإن كانت سيئاتهم في حقهم ذنوباً للاعتبارات التي أوردنا ومقامهم الذي أشرنا.
وفي هذه الأسطر سنورد عددا من الأمثلة لبعض تلك المخالفات أو الأخطاء التي لا ترتقي إلى درجة المخالفات الصريحة أو الذنوب الكبيرة المتعمدة؛ بل كان لهم من وراء ذلك مصلحة شرعية أو دفعتهم الغيرة على الدين والحرمات أو لم يكونوا يعلموا حينها بكونها مخالفة، ومع ذلك جرى على بعضها العتب أو الجزاء.
فهذا آدم -عليه السلام -كانت مخالفته أكله من الشجرة وقد نهاه الله من ذلك؛ بتزيين الشيطان له وإغراء بالملك والخلود، (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ)[الأعراف: 20]، وقال الله: (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)[طه: 121].
وأما نوح -عليه السلام- فسؤاله ربه النجاة لابنه رغم أمر الله له أن يرُكِب في السفينة المؤمنين؛ قال الله: (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ)[هود: 40]، ولما جرت بالكافرين أمواج الماء كالجبال أشفق على ولده نوح؛ (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)[هود: 45-46]، فعاتبه الله على سؤاله عن غير علم ووعظه له ألا يكون من الجاهلين.
وأما يونس -عليه السلام- فعد خروجه من قومه دون أمر منه أو سماح له تجاوزاً؛ فالله لما أمره إنذار قومه عذابا واقعا عليهم بعد طول تكذيب وقوة إعراض أنذرهم وقوع العذاب بعد ثلاث ثم انطلق وهو غاضب عليهم، قال الله حاكيا عنه: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[الأنبياء: 87]؛ فالتقمه الحوت ليكون مكانه ومستقره؛ حتى ألهمه ربه لتوحيده وتسبيحه؛ قال الله: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ)[الصافات: 143 - 147]
وهذا إبراهيم -عليه السلام- وقع منه شيء من ذلك؛ حيث ورد في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لم يكذِبْ إبراهيمُ إلا ثلاثَ كِذْباتٍ قولُه حين دُعِيَ إلى آلهتِهم فقال إِنِّي سَقِيمٌ وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا وقوله لسارَةَ إنها أختي قال ودخل إبراهيمُ قريةً فيها ملِكٌ من الملوكِ أو جبارٌ من الجبابرةِ فقيل دخل إبراهيمُ الليلةَ بامرأةٍ من أحسنِ الناسِ قال فأرسل إليه الملِكُ أو الجبَّارُ من هذه معك قال أختي قال فأرسل بها قال فأرسل بها إليه وقال لا تكذبي قُولي فإني قد أخبرتُه أنك أختي..."(البخاري (٢٢١٧) ومسلم (٢٣٧١)).
وموسى -عليه السلام-؛ كان من شأنه أن رجلا من شيعته (إسرائيليا) استغاثه من ظلم قبطي له؛ فلما وكز موسى بيده عدوهما مات القبطي؛ فأيقن موسى خطأه فندم على فعله معترفا أنه من عمل الشيطان فاستغفر ربه؛ قال الله: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[القصص: 15، 16].
وكذا إلقاؤه الألواح وفيها التوراة، وجره أخاه بلحيته؛ كل ذلك كان دافعه الغضب لله لعبادة قومه العجل بعد غيابه فندم على هذا الفعل؛ قال الله: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[الأعراف: 150، 151].
ويعقوب -عليه السلام-؛ فإنه لما رفض ابتداء خروج يوسف مع إخوته للرعي، كان خوف أن يأكله الذئب، وغفل عن حفظ الله له ورعايته؛ قال الله: (قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ)[يوسف: 13]؛ فعوقب بغيابه عنه زمنا طويلا، فوعى هذا الدرس واستفاد منه لمستقبله، ولذلك لما سأله أولاده أن يرسل معهم بنيامين إلى مصر؛ كان رده مختلفا تماما؛ قال الله: (قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[يوسف: 64].
وأما يوسف -عليه السلام- فقوله لمن فسر له رؤياه وكان رفيقه في السجن اذكرني عند ربك؛ فكان الجزاء أن لبث في السجن بضع سنين؛ قال سبحانه: (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ)[يوسف: 42]. وأيضا وضعه صاعه المرصع في وعاء أخيه حيلة منه لأخذه كمعتدي؛ قال الله: (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)[يوسف: 76].
وهذا داوود -عليه السلام- لما دخل عليه الخصمان فجأة شاكيا أحدهما ظلم صاحبه؛ فاستعجل نبي الله داوود في الحكم قبل أن يسمع من الآخر؛ فاختفيا فجأة ففهم عند ذلك أنهما ملكان وأنهما مجرد اختبار؛ قال الله: (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ)[ص: 24].
وهذا سليمان -عليه السلام- تحدث بأنه سيطوف في ليلة على سبعين امرأة ولم يقل إن شاء الله؛ قال عليه الصلاة والسلام: "قالَ سُلَيْمانُ بنُ داودَ عليهما السَّلامُ: "لأطوفنَّ اللَّيلةَ علَى مائةِ امرأةٍ أو تِسعٍ وتِسعينَ كلُّهنَّ يأتي بفارسٍ يُجاهدُ في سبيلِ اللَّهِ فقالَ لهُ صاحبُهُ قُل إن شاءَ اللَّهُ فلَم يقُل إن شاءَ اللَّهُ فلَم يَحمَل منهنَّ إلَّا امرأةٌ واحدةٌ جاءَت بشقِّ رجُلٍ والَّذي نفسُ محمَّدٍ بيدِهِ لَو قالَ: إن شاءَ اللَّهُ، لجاهدوا في سبيلِ اللَّهِ فُرسانًا أجمعونَ"(عن أبي هريرة - البخاري 2819).
وأما النبي الكريم محمد فأمثلة كثيرة نشير إلى بعض منها؛ فعن أم سلمة هند بنت أبي أمية -رضي الله عنها- قال عليه الصلاة والسلام: "إنما أنا بشرٌ، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعلَّ بعضَكم أن يكون ألحنَ بحُجَّتِه من بعضٍ، فأقضي له على نحوِ ما أسمعُ، فمن قضيتُ له بحقِّ أخيه شيئًا فلا يأخذُه، فإنما أقطعُ له قطعةً من النارِ"(البخاري: (5/ 212) ومسلم: (1713)). وفي هذا دليل واضح على ورود الخطأ وإمكانية حدوث الزلل.
ومن أمثلة ذلك اجتهاده في أسرى بدر حيث ذهب وأبو بكر إلى أن يطلق سراحهم مقابل الفداء بدلا من قتلهم حتى يتألفهم وعشيرتهم. عن عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لمَّا كانَ يومُ بدرٍ فأخذَ يَعني النَّبيَّ -ﷺ- الفِداءَ أنزلَ اللَّهُ -عزَّ وجلَّ-: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) إلى قولِهِ: (لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ) منَ الفداءِ، ثمَّ أحلَّ لَهُمُ اللَّهُ الغَنائمَ"(الألباني صحيح أبي داود (٢٦٩٠).
ومنه تحريمه جاريته حتى لا تغضب زوجاته منه فيحصل حينها خلاف؛ فأنزل الله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ)[التحريم: 1].
ومنه اجتهاده في الاستغفار للمنافقين والصلاة عليهم رحمة بهم وشفقة عليهم وتأليفا لذويهم؛ فأنزل الله: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ)[التوبة: 84].
ومنه إخفاؤه تزويج الله له من زينب بنت جحش مستقبلا مراعاة لقومه؛ حيث كانوا لا يرون نكاح زوجة الولد بالتبني؛ فأنزل الله: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ)[الأحزاب: 37].
ومنه اجتهاده في تأخير الجلوس إلى ابن أم مكتوم بتقديمه الجلوس مع كبار قريش رجاء أن يؤلف قلوبهم لإسلامهم؛ فأنزل الله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى)[عبس: 1 - 7].
وهنا نلحظ -أهيا الأخوة- من هذه الصور وغيرها أن ما وقع فيه الأنبياء والرسل لا يعدو أن يكون زلات أو صغائر بحكم طبيعتهم البشرية، أو مخالفات كان دافعها ومقصودها شرعيا أو كانت توريات أو معاريض لتحقيق مصالح شرعية أو دفع مفاسد وأضرارا محققة أو غالبة.
كما يتضح لنا أن الصغائر في حق الكمَّل من عباد الله عظائم، وفي مقدمتهم المصطفين الأخيار والمتقين الأبرار والقدوات والأسوات؛ لأن في ممارستهم للمعاصي فتنة للخلق وتشريعا للاتباع؛ قال الله: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ)[الأحزاب: 30]، وفي المقابل ضاعف الله حسناتهم، قال الله: (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا)[الأحزاب: 31].
قال السعدي عند تفسيره لهذه الآية: "لما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، ذكر مضاعفة أجرهن، ومضاعفة وزرهن وإثمهن، لو جرى منهن، ليزداد حذرهن، وشكرهن الله -تعالى-، فجعل من أتى منهن بفاحشة ظاهرة، لها العذاب ضعفين. (تفسير السعدي: 663).
أيها الكرام: لقد حذر الله من الذنوب جميعها وجعل فيمن عاقبهم الآية والعبرة وأودع في ديارهم العظة والتذكرة؛ فحين عاقب الله قوم لوط وأنزل بهم بأسه، جعل منهم عبرة واتخذ منهم آية؛ قال الله: (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[العنكبوت: 34، 35].
وهدد نظراءهم ومن انتحل وصفهم ومارس جرمهم بمثيل ذلك؛ قال الله: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ )[هود: 82، 83].
ولما لم يستجب أصحاب الأيكة لخطيب الأنبياء شعيب وأكثروا عليه الجدال واستمروا في انحرافهم العقدي وفسادهم الاقتصادي؛ معتبرين ما دعاهم إليه نبيهم ونهاهم عنه تدخلا سافرا في شؤونهم وتطفلا محضا في حياتهم؛ فجاءهم الوعيد الشديد من الله بأن عقابه ليس بعيدا عنهم ولا مستحال في حقهم؛ فالأمم التي خالفت أمره سبحانه ممن سبقتهم أنزل بهم عقوبته وحل عليهم بطشه، وفي ذلك عبرة لهم؛ فقال الله: (وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ)[هود: 89].
ولما اشتد أذى كفار قريش على النبي -صلى الله عليه وسلم- وطال إعراضهم عن دعوته وزاد استكبارهم توعدهم الله -سبحانه- بقوله: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا)[محمد: 10]، وغير ذلك كثير منها قائم وحصيد.
ومن هنا -ياكرام- نعود لنقول الذنوب لا تحابي أحدا أياً كان مرتكبها؛ فليس بين الله وبين أحد من خلقه قرابة أو حسب أو نسب؛ قال الله: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)[الأحزاب: 62]؛ إنما هو للاعتبارات الشرعية والموانع الدينية من دين وتقوى وقربة
ولما تجادل المسلمون وأهل الكتاب وزعم كل منهم أن رسوله وكتابه أفضل؛ أنزل الله: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا)[النساء: 123].
نسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدينا إلى كل خير ويعصمنا من شرور أنفسنا ويوجه قلوبنا إليه ويدل عقولنا عليه ويسوق جوارحنا إليه.
وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه والتابعين.