الذكاء الاصطناعي.
عاصم بن محمد الغامدي
الحمد لله الذي علا وقهَر، وعزَّ واقتدَر، وفطر الكائناتِ بقُدرته فظهرتْ فيها أدلةُ وحدانية من فطَر، سبحانه من إلهٍ عظيم لا يُماثَلُ ولا يُضاهى ولا يُدركه بصَر، وتعالى من قادرٍ محيط لا تُنجي منه قوة ولا مفر، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً ندَّخرها ليومٍ لا ملجأ فيه ولا وزَر، ونرجو بها النجاة من نارٍ لا تُبقي ولا تذر.
وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله سيد البشر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه السادة الغُرر الذين جاهدوا في الله حقّ جهاده فما وهَى عزمُ أحدهم ولا فتَر، ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسَلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فهي وصيته للأولين والآخرين، وبها تكون النجاة في يوم الدين ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾.
مَنْ عَظَّمَ اللهَ عَظُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْصِيَه، وَمَنْ وَقَّرَ اللهَ شَقَّ عَلَيْهِ أَنْ يُخالِفَ أَمْرَه، وما أَدْمَنَ التوبةَ إِلا تَقِيّ، وما خَافَ الذُّنُوبَ إلا مُؤمِن، قَالَ ابنُ مَسْعودٍ رضي الله عنه: (إنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأنَّهُ قاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخافُ أنْ يَقَعَ عليه، وإنَّ الفاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبابٍ مَرَّ علَى أنْفِهِ فقالَ به هَكَذا).
عباد الله:
تعاني كثيرٌ من المجتمعاتِ الحِيرةَ، والتِّيهَ، والضَّياعَ النفسيَّ، فلا يتجهُ أفرادُها إلى وُجهةٍ صَحيحةٍ، وكلَّما جدَّ في حياتِهم جديدٌ، ازدادَ تخبُّطُهم وضياعُهم، وما ذلكَ إلا أثرٌ من آثارِ غِيابِ الإيمانِ، وخُواءِ الروحِ، والبُعْدِ عن دينِ الله.
مجتمعاتٌ آثرتِ الحياةَ الدُّنْيا على الآخرةِ؛ لأنَّها غائبةٌ عن نورِ الوحْيِ، وفاقدةٌ لهدايةِ القرآنِ.
وفي خِضَمِّ الثَّوْرَاتِ الصِّناعِيَّةِ المتتابِعَةِ، تبرزُ إلى الملأِ ثورةٌ ليستْ كسابِقَاتِها، يعرفُها الناسُ باسمِ "الذَّكاءِ الاصطناعيِّ"، ويلحظونَ آثارَها في أمورٍ كثيرةٍ، تبدأُ من هواتِفِهُمُ المحمولةِ، وتمرُّ بمواقِعِهِمُ الإلكترونيةِ، وتنتهي إلى مجالاتٍ ليستْ معروفةً لكلِّ أحدٍ.
وكان من آثارِ العلمِ بهذهِ الصِّناعةِ الجَديدةِ، انقسامُ النَّاسِ إلى قِسْميْنِ:
قسمٍ حمَّلها ما لا تحتملُ، ورأى فيها ما ليسَ فيها، من تحكُّمٍ بمصائرِ البشرِ، وقدرةٍ على قطعِ أرزاقِهِمْ، بإفْقادِهِم وظائفَهُم، والحلولِ مكانَهم في أعمالِهم، والله سبحانه يقول: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾.
بل بلغَ الغلوُّ ببعضِهِم حدَّ القناعةِ بأنَّ مآل هذهِ الصِّناعةِ هو القضاءُ على الإنسانِ، وخلافتُه في الأرضِ.
وقسمٍ استشعرَ قولَه تعالى: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾، فرأى في هذه الصناعَةِ بعضَ قدرةِ الله عزَّ وجلَّ، وشيئًا من أسبابِ جدارةِ الإنسانِ بالخلافةِ في الأرضِ، وهي قبولُه للتعليم، وقدرتُه على وضعِ علْمِهِ فيما يُعينُه على قضاءِ حاجاتِه وأعمالِهِ.
وهؤلاء همُ المؤمنونَ، الذين لا تُعمي أبصارَهم زخارفُ الدنيا، فهم يستشعرونَ معاني اللهُ أكبرُ، حين يقولونَها ويسمعونَها كلَّ يومٍ أكثرَ من ثلاثِمئةِ مرَّةٍ، في عباراتِ المؤذنينَ، وتكبيراتِ الصلاةِ، والأذكارِ بعدَها، وفي مواضعَ أخرى، ويعتقدون أنَّ تكرارَ هذا الذكرِ، والندبَ إليهِ، لهُ مقاصدُ عظيمةٌ عندَ الشارعِ الحكيمِ جلَّ جلالُه، قال صلى الله عليه وسلم: «لَأَنْ أَقُولَ سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» فإنَّ النفسَ مفطورةٌ على تعظيمِ الكبيرِ وتوقيرِه، وعدمِ الخروجِ عن أمرِه، وبقدرِ التعظيمِ تكونُ الطاعةُ، ومن استشعَرَ معاني التكبيرِ، لم يجدِ اليأسُ والانهزامُ إلى قلبِهِ سبيلاً، ولذلكَ لما دارتِ الدائرةُ على المسلمينَ في غزوةِ أحدٍ، وخَسِروا مواقعَهُم، وقُتلَ عددٌ كبيرٌ منهُم، أخذَ أبو سفيانَ يرتجزُ -وكان قائدَ المشركينَ وقتَها-، قائلاً: اعلُ هُبَل، اعلُ هُبَل، فأجَابَهُ المسلمونَ بأمرِ النبيِّ عليه الصلاة والسلام قائلينَ: اللهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ.
فالمستَيْقِنُ باللهِ لا يزعزعُ ثقَتَهُ بهِ ما يراهُ من تفوُّقِ الأعداءِ، أو ظهورِهِمْ، ولا ما يراه من تنوُّعِ الصناعاتِ وكثرتِها، بل يستشعرُ أنّ ذلكَ كلَّه في مُلكِ الله وتصرُّفِهِ: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:
فقد سَهُل على الناسِ التعاملُ معَ الذكاءِ الاصطناعيِّ، فأحسنَ بعضُهم استخدامَهُ في تطويرِ نفسِهِ وقدراتِهِ، ونفعِ الآخرينَ بنشرِ العلمِ النافعِ، وتطويرِ الوسائلِ المفيدةِ للمجتمعاتِ، وتَبْصيرِ الناسِ بشرعِ ربِّهم، وتعاليمِ دينِهِ القويمِ.
وأساءَ آخرونَ استغلالَه، إساءاتٍ متفاوتةً في الإثمِ والأثرِ، فمنهمْ من حاولَ التشغيبَ على المؤمنينَ، بِنَشْرِ ضلالاتِه وانحرافاتِه، المتضمنةِ للتشكيكِ في الخلاَّقِ العليمِ سبحانَه، محاولينَ خلعَ الخرافاتِ الإلحاديةِ على الذَّكاءِ الاصطناعيِّ، شاطحينَ في تصويرِ قدرتِه على التَّطورِ، حتى يكونَ المتحكِّمَ يومًا على الأرضِ وَمَنْ فِيها، مخالفينَ فطريةَ الإيمانِ في النفوسِ، متغافلينَ عن حقيقةٍ لا فِكاكَ مِنها، ولا مَفرَّ عنْها ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ﴾.
وربما استخدم بعضُهم وسائل الذكاء الاصطناعي في صنعِ مواقعَ تقدِّمُ معلوماتٍ خاطئةً عن الإسلامِ، وتنفِّرُ الناسَ من اتِّباعِهِ، وتشوِّهُ رموزَهُ وقياداتِه بتركيبِ الصورِ والمقاطعِ المرئيةِ الكاذبةِ.
ومنهم من استغلَّ وسائلَ الذكاءِ الاصطناعيِّ في التجسسِ والمراقبةِ؛ للإضرارِ بالناسِ، ومنهم من استخدَمها لمحاكاةِ أصواتِ العلماءِ -حيِّهمْ وميِّتِهمْ-؛ لزَعْزَعَةِ مكانَتِهمْ، أو تمريرِ معلوماتٍ شرعيةٍ غيرِ صحيحةٍ على ألسِنَتِهِمْ، غيرَ عابئينَ بقولِهِ عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾.
وربما نشروا إشاعاتٍ عن ولاةِ الأمورِ، أو بعضِ الشخصياتِ العامةِ، ودعَّموها بمقاطعَ ملفَّقةٍ، وصورٍ كاذبَةٍ.
ناهيكَ عنِ استخدامِ هذهِ الصناعةِ في تكوينِ رأيٍ عامٍ، أوْ إقناعِ مجتمعٍ بفكرةٍ على أساسِ كثرةِ المؤيدينَ لها، وهي في الحقيقةِ فكرةٌ ضالةٌ من منحرفٍ واحدٍ، يُحسنُ استخدامَ الذكاءِ الاصطناعيِّ.
والمؤمنُ كَيِّسٌ فطنٌ، يعرفُ من أينَ يأخذُ دينَهُ، وكيفَ يدافعُ عنهُ، وكيف يستعينُ بالوسائلِ الحديثةِ لنشرِهِ، ويُحسِنُ وضعَ الأمورِ في مواضِعِهَا، ولا تغريهِ البَهْرَجَةُ، ولا تَغُرَّهُ الزَّخَارِفُ، يرى هذهِ الوسائلَ فيزدادُ إيمانًا بِقُدرةِ الله، وتفتحُ له آفاقَ أخرى لفهمِ قولِهِ تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾.
ولا يتَتَبَّعُ عوراتِ المسلمينَ أو يبحثُ عنها، حَذَرًا من عقوبةِ الله سبحانه لهُ، فقد قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ»، وإذا رأى في مسلمٍ ما يسوؤه، أشاحَ عنهُ، وأعرضَ عن مروِّجيهِ، ولم يكنْ عونًا لهم على اختراقِ مجتمعِه، لا سيَّما إن كانَ المستهْدَفُ بعضُ رموزِهِ منْ علماء وولاةِ أمرٍ، مؤتمرًا بأمرِ الله عزَّ وجلَّ القائلِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾.
ألا فاتقوا الله يا عباد الله وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة، فإن الشقي من حرم رحمة الله عياذًا بالله، وتقربوا إلى ربكم بعبادته، وأكثروا في سائر أيامكم من طاعته، وصلوا وسلموا على خير الورى طرًّا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا.
المرفقات
1694714742_الذكاء الاصطناعي.docx
1694714742_الذكاء الاصطناعي.pdf
1694714742_الذكاء الاصطناعي للجوال.pdf