الدنيا متاع

أيها المسلمون:
عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله ﷺ بذي الحليفة - وهو ميقات أهل المدينة ومن مرّ بها من غير أهلها - فإذا هو بشاة ميتة شائلة برجلها فقال: (أترون هذه هينة على صاحبها؟ فوالذي نفسي بيده للدنيا أهونُ على الله من هذه على صاحبها، ولو كانت الدنيا تزن عند الله جناحَ بعوضة ما سقى كافرًا منها قطرةً أبدًا) رواه الترمذي والحاكم وصححه.
يقول بعض علماء الحديث:
(الكافر عدوّ لله -تعالى- والعدو لا يُعطَى شيئًا مما له قدر عند المعطي، فمن حقارة الدنيا عند الله -تعالى- أنه لا يعطيها لأوليائه، كما أشار إليه حديث الرسول ﷺ: (إن الله يحمي عبده المؤمن من الدنيا كما يحمي أحدكم المريض عن الماء) رواه الطبراني.
ولنفترض أيها السامعون أن أمامنا فقيرًا معدمًا لا يجد من أمور الدنيا ومتعها أيّ شيء، فأعطاه شخصٌ جناح بعوضة فما ثمنُ هذا الجناح عند الفقير من حيث قيمته ومقداره؟ لا شك أنه لا يساوي عنده شيئًا، فكذلك الدنيا عند ربنا -تبارك وتعالى- لا تساوي شيئًا: ﴿وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعلى﴾ [النحل: ٦٠]، الدنيا حقيرة عند الله - تعالى -، وإن مرّت عليها آلاف السنين، دول صالت وجالت، وحضارات سادت ثم بادت، وعمران وبشر لا يحصيهم إلا الله -تعالى- زخارف وزينات، ومتع وشهوات، ماض وحاضر ومستقبل، بناء وفضاء، وصحراء وماء. ومع ذلك فهي عند الله عزوجل أهون وأحقر من جناح بعوضة، والبعوضة حقيرة فكيف بجناحها؟
إن ذلك برهانٌ ساطع، ودليلٌ قاطع على عظمة الخالق -جلَّ وعلا- وكبريائه، وهو دليل على هوان الدنيا وحقارتها. وذلك برهان أيضًا على عظيم ما أعدّه الله عز وجل لعباده المؤمنين في الآخرة من الثواب العظيم، والنعيم المقيم.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (إني لأعلم آخر أهل النار خروجًا منها، وآخر أهل الجنة دخولًا، رجل يخرج من النار حَبْوًا؛ فيقول الله عزوجل له: اذهب فادخل الجنة فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع، فيقول: یا رب وجدتها ملأى، فيقول الله عزوجل له: اذهب فادخل الجنة فيأتيها، فيُخيّل إليه أنها ملأى فيرجع، فيقول: يا رب وجدتها ملأى؟ فيقول الله عزوجل له: اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها؛ أو إن لك عشرة أمثال الدنيا فيقول: أتسخر بي؟ أو أتضحك بي وأنت الملك؟ قال: فلقد رأيت رسول الله ضحك حتى بدت نواجذه، فكان يقول: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة) رواه مسلم.
أسأل الله عزوجل بأسمائه وصفاته أن يرزقنا الفوز بالجنة والنجاة من النار ووالدينا والمسلمين.
أيها المسلمون:
المؤمنون هم الذين يعرفون قدر الدنيا وَيَزْينُونها بميزان الشرع، فلا يتهاونون بشيء من أمور الدين لأجل الدنيا الفانية، وحطامها الزائل، ولا يصرفون جميع أوقاتهم في سبيل التزود من حطامها ومتعها، ولا يجعلون الحب والبغض من أجلها، فهم يعلمون علمًا يقينيًا سرعة زوالها، وفناء نعيمها، وتغير الأحوال فيها:
ما بين غمضة عين وانتباهتها

يغيّر الله من حال إلى حال

المؤمنون يقدّمون الآخرة على الدنيا، ولا يقدّمون الدنيا على الآخرة، ويراعون حق إخوانهم، مطبقين قول ربهم:﴿إِنَّمَا المُؤمِنونَ إِخوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠]، وقول نبيهم ﷺ: (المسلم أخو المسلم) رواه البخاري ومسلم، وهم لا يكتفون بمواساة إخوانهم، ولكنهم يؤثرونهم على أنفسهم لأنهم يقتدون بنبيهم ويتأسون بإمامهم -صلوات الله وسلامه عليه-.
في عودته ﷺ من غزوة حنين كثر عليه أهل البوادي يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه فوقف فقال: (أعطوني ردائي، لو كان لي عدد هذه العضاه - يعني الشجر - نعماً لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلًا ولا كذوبًا ولا جبانًا) رواه البخاري، والسمرة: الشجرة.
ويقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه : (ما سئل رسول الله ﷺ شيئًا قط فقال: لا) رواه البخاري ومسلم.
وكان -صلوات الله وسلامه عليه- يتحمل الجوع لكي يشبع غيره، ويتقلل من عدد الملابس ليلبس غيره.
وكان يقدّم الناس على نفسه وأهله وولده، وما كان يستأثر بشيء لنفسه دون أصحابه. كما كان نبي الله ﷺ يجد ما يجد أصحابه ويعاني ما يعانون، وكان يشاركهم في أحزانهم وهمومهم.
فهو يجوع كما يجوعون، ويحتاج إلى الملابس كما يحتاجون، وإذا أتاه الفرج والرزق آثر أصحابه ﭫ، أو شاركهم وقدّمهم على نفسه، فلم يكن يستأثر به دونهم، ولم يكن ليقدّم نفسه عليهم.
ولقد وجّه -صلوات الله وسلامه عليه- أهلَه وولَده وحملهم على ما يراه خيرًا لهم، وعلى ما فيه سعادتهم في الدارين، من البذل والعطاء والإيثار لكي يُكمِلَ الله أجورهم، وتعلو منازلُهم في الدار الآخرة.
ولقد سار الصحابة الكرام ﭫعلى نهجه واقتفوا أثره، كما أخبر الله عنهم في قوله -عز من قائل-: ﴿وَيُؤثِرونَ عَلى أَنفُسِهِم وَلَو كانَ بِهِم خَصاصَةٌ وَمَن يوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ المُفلِحونَ﴾ [الحشر: ٩]، تلكم كانت حالة الأنصار الذين آثروا إخوانهم المهاجرين، وأصبح المسلمون يقرؤون هذا المدح في كتاب ربهم إلى يوم يبعثون، كان الأنصار يمتنعون أن يُقسم لهم شيء يخصهم دون إخوانهم المهاجرين.
وقد أخبرهم رسول الله ﷺ بأنهم سيلقون بعده أثرة، وأمرهم - صلوات الله وسلامه عليه - بالصبر حتى يلقوه على الحوض والأثرة: مصناها: الأنانية وحب النفس.
قال الإمام ابن القيم ‘: (تأمل سرّ التقدير، حيث قدر الحكيم الخبير - سبحانه - استئثار الناس على الأنصار بالدنيا، وهم أهل الإيثار ليجازيهم على إيثارهم إخوانهم في الدنيا بالمنازل العالية، في جنات عدن على الناس، فتظهر حينئذ فضيلة إيثارهم، ودرجته ويغبطهم من استأثر عليهم بالدنيا أعظم غبطة:﴿ذلِكَ فَضلُ اللَّهِ يُؤتيهِ مَن يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضلِ العَظيمِ﴾ [الحديد: ٢١]، فإذا رأيت الناس يستأثرون عليك مع كونك من أهل الإيثار فاعلم أنه لخير يراد بك). انتهى كلام ابن القيم من كتابه: (مدارج السالكين).وروى مالك بن أنس ‘ في كتابه الموطأ، أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها سألها مسكين وهي صائمة، وليس في بيتها سوى رغيف واحد، فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه، فقالت:  ليس لك ما تفطرين عليه، فقالت: أعطيه إياه فَفَعَلَتْ، قالت: فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت، أو إنسانٌ ما كان يهدي إلينا: شاة وكَفَنَها، فدعتني عائشة فقالت: كلي من هذا، هذا خير من قرصك) رواه مالك في الموطّأ، وتكفينُ الشاة معناه: تغطية الشاة بالخبز.
وكان أهل المدينة عيالًا على عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: ثلث يقرضهم ماله، وثلث يقضي دينهم، وثلث يصلهم ويعطيهم.
وعلى نهج الرسول ﷺ وأصحابه سار سلف الأمة الصالح، فمثال إيثارهم غيرهم بالماء مع شدة حاجتهم إليه، ما رواه البيهقي عن حذيفة العدوي - رحمه الله تعالى - قال: انطلقت يوم اليرموك اطلب ابن عمّ لي، ومعي شيءٌ من ماء، وأنا أقول: إن كان به رمقٌ سقيته ومسحتُ به وجهه، فإذا أنا به فقلت: أسقيك؟ فأشار إليّ أن نعم، فإذا رجل يقول: آه فأشار ابن عمي أن انطلق به إليه فجئته، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فسمع به آخر. فقال: آه فأشار هشام: انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات -رحمة الله عليهم أجمعين-، ويقول الحسن ‘: (لقد رأيت أقوامًا يمسي أحدهم، ولا يجد عنده إلا قوتًا، فيقول: (لا أجعل هذا كلّه في بطني؛ فيتصدق ببعضه، ولعله أحوجُ إليه ممن يتصدق به عليه). وصور الإيثار ونماذج من يؤثرون على أنفسهم من أسلافنا كثيرة، ولقد أعطاهم الله - تعالى - الأموال والكنوز ولا سيما بعد الفتوحات فلم يتغيروا، ولم يبدلوا ولم يغتروا بكثرة الأموال وامتلاك الدور، بل بقوا على زهدهم في متع الدنيا، وإيثارهم غيرهم على أنفسهم، ومع ذلك فهم لا يريدون ثناء ممن أحسنوا إليهم، أو يتوقعون رد جمليهم فهم لا يريدون جزاءًا ولا شكورًا من الناس، ولكنهم يريدون الثواب من الله عزوجل ويرجون ما عنده: ﴿وَما عِندَ اللَّهِ خَيرٌ وَأَبقى﴾ [الشورى: ٣٦]، كان سلفنا الصالح يعلقون رجاءهم وأملهم بربهم -سبحانه- فساد مجتمعهم الترابطُ، والتراحم، والإيثار.
يقول عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (لقد رأيتنا وما الرجلُ المسلمُ بأحقَّ بديناره ودرهمه من أخيه المسلم)، وإذا تفهمنا واقعهم جيّدًا ثم رأينا ما نحن عليه وجدنا أننا بحاجة إلى وقفات مع أنفسنا ومحاسبة على تقصيرنا فقد كثر انشغالنا بأمور الدنيا.
فالمادية أصدرها الغرب إلينا فتقبلناها، فكانت سببًا في ضعف إيمان بعض المسلمين، وأصبحوا في سباق محموم في مجال العبّ من الدنيا ومتعها وشهواتها، ولو كان ذلك بالطرق المحرمة، ولو نتج عن ذلك حبس حق الله - تعالى - من الزكاة ونحوها حتى أصبحت الدنيا غاية وهدفًا، بعد أن كانت وسيلة توصل بسلام إلى الدار الآخرة.
لقد أصبح بعض المسلمين يعيشون للدنيا حتى قست قلوبُهم، وصار همّهم كيف يجمعون المال؟ وكيف ينافسون غيرهم في تكثيره وإنفاقه؟ فأصبح البعض يجمعه من طرق الله أعلم بها وينفقه إسرافًا وتبذيرًا، حتى غدا بعض المسلمين يلقي من الأطعمة اليومية أكثر مما يأكل، في وقت يحتاج فيه فقراء المسلمين إلى الطعام والكساء؛ بل انتقلت العدوى إلى بعض مستوري الحال، وبعض الفقراء من المسلمين، فصاروا يسألون الناس تكثرًا، يريدون أن يصنعوا ما يصنع الأغنياء، يأكلون ما يأكلون، ويلبسون ما يلبسون، ويسكنون ما يسكنون وكذلك المراكب، لقد غاب عند بعض الناس فقه الأولويات فتراه مثلًا يسأل الناس لكي يذهب إلى مكة للعمرة متنفلًا، ويطلب الزكاة لكي يحج نافلة، بعضهم يسأل ذلك سرًّا، وبعضهم يسأل ذلك علانية؛ حتى آذى بعضهم الناس في مساجدهم، وأسواقهم، وطرقهم، وأصبح الإنسان لا يكاد يفرق بين الصادق والكاذب، والفقير والمحتال، لما يراه من أساليب ماكرة، وحيل خفية ومكشوفة، فانعدم الإيثار بين الناس، وحلّت محلّه الأثَرَة، وغفلت النفوس حتى ابتعدت عن هَديِ سلف الأمة، فأصابتها عدوى الماديين، الذين يجعلون جمع المال غايتهم، ولا مكان للإحسان أو الإيثار في قلوبهم، وإذا ساد ذلك الشعور فلن يزدادَ الناس سوى القطيعة والقسوة.
أما علم هؤلاء المخدوعون المفتونون أن رسول الله ﷺ قال: (إن مما أخاف عليكم ما يفتح الله عليكم من زهرة الدنيا وزينتها) رواه البخاري، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين، حتى قبض رسول الله ﷺ) رواه البخاري، وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: (ألستم في طعام وشراب ما شئتم؟ لقد رأيت نبيّكم ﷺ وما يجد من الدّقل ما يملأ بطنه) رواه مسلم، والدّقل رديء التمر، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (من حدّثكم أنّا كنا نشبع من التمر فقد كَذَبَكم، فلما افتتح رسول الله ﷺ قريظة أصبنا شيئًا من التمر والْوَدَك) رواه ابن حبان.
 
***
 

المرفقات

1729671602_الدنيا متاع.docx

المشاهدات 430 | التعليقات 0