الدِّفَاعُ عَنْ حِجَابِ الْمَرْأَةِ 27 صَفَر 1436هـ
محمد بن مبارك الشرافي
1436/02/25 - 2014/12/17 07:20AM
الدِّفَاعُ عَنْ حِجَابِ الْمَرْأَةِ 27 صَفَر 1436هـ
الحمد لله الّذي أعَزّ من أطاعه واتّقاه ، والحمد لله الّذي أذلّ من خالف أمره فعصاه ، النّاصر لدينه وأوليائه ، القائل في مُحكَم آياته (وَلْتًكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُوْنَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُوْنَ بِالْمَعْرُفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُوْنَ) ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيءٍ قدير ، وأشهد أن نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله وخليله ومصطفاه ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدّين .
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ حِجَابَ الْمَرْأَةِ مِنَ الْقَضَايَا الْكُبْرَى التِي جَاءَتْ بِهَا شَرِيعَتُنَا , وَأَكَّدَ عَلَيْهَا دِينُنَا , وَتَظَافَرَتْ عَلَيْهاَ النُّصُوصُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَمَعَ هَذَا فَلا يَزَالُ أَعْدَاءُ الإِسْلامِ فِي الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ وَأَصْحَابُ الأَغْرَاضِ الدَّنِيَّةِ وَالْمَقَاصِدِ الْخَفِيَّةِ يُدَنْدِنُونَ حَوْلَ الْحِجَابِ , تَارَةً بِالتَّشْكِيكِ فِي شَرْعِيَّتِهِ , وَتَارَةً بِالسُّخْرِيَةِ وَالذَّمِّ لِمُرْتَدِيَتِهِ , وَتَارَةً بِالتَّبَاكِي عَلَى لابِسَتِهِ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : إِنَّ حِجَابَ الْمَرْأَةِ سِتْرٌ لَهَا وَصِيَانَةٌ , وَعَفَافٌ وَحِفْظٌ لَهَا بِإِذْنِ اللهِ وَأَمَانَةٌ , وَعَلامَةٌ عَلَى الصَّلاحِ وَالدِّيَانَةِ .
إِنَّ الْحِجَابَ أَيُّهَا الإِخْوَةُ هُوَ اللِّبَاسُ الذِي يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِ الْمَرْأَةِ مِنَ رَأْسِهَا إِلَى أَخْمُصِ قَدَمَيْهَا , بِشَرْطِ أَنْ لا يَكُونَ فِتْنَةً فِي نَفْسِهِ , وَلا يَكُونُ لِبَدَنِهَا وَصَّافَاً وَلا يَكُونَ ضَيِّقَاً وَلا شَفَّافَاً .
وَلَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ الْمُبَارَكَةِ بِلادِ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ وَالْحَيَاءِ وَالْحِشْمَةِ كَانُوا عَلَى طَرِيقِ الاسْتِقَامَةِ فِي ذَلِكَ , فَكَانَتِ النِّسَاءُ يَخْرُجْنَ مُتَحَجِّبَاتٍ بِالْعَبَاءَةِ أَوْ نَحْوِهَا بَعِيدَاتٍ عَنْ مُخَالَطَةِ الرِّجَالِ الأَجَانِبِ ، وَلا تَزَالُ الْحَالُ كَذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ بُلْدَانِ الْمَمْلَكَةِ وَللهِ الْحَمْدِ .
لَكِنْ لَمَّا حَصَلَ مَا حَصَلَ مِنَ الْكَلَامِ حَوْلَ الْحِجَابِ , وَرُؤْيَةِ مَنْ لا يَفْعَلُونَهُ وَلا يَرَوْنَ بَأْسَاً بِالسُّفُورِ , صَارَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ شَكٌّ فِي الْحِجَابِ وَتَغْطِيَةِ الْوَجْهِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؟ أَوْ شَيْءٌ يَتْبَعُ الْعَادَاتِ وَالتَّقَالِيدَ وَلا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِوُجُوبٍ وَلا اسْتِحْبَابٍ ؟
وَلِإِزَالَةِ هَذَا الشَّكِّ وَجَلاءِ حَقِيقَةِ الأَمْرِ , فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ لا الْحَصْرِ , رَاجِيَاً مِنَ اللهِ تَعَالَى أَنْ يَتَّضِحَ بِهَا الْحَقُّ ، وَأَنْ يَجَعَلَنَا مِنَ الْهُدَاةِ الْمُهْتَدِينَ الذِينَ رَأَوُا الْحَقَّ حَقَّاً وَاتَّبَعُوهُ , وَرَأَوُا الْبَاطِلَ بَاطِلاً فَاجْتَنَبُوهُ .
فَمِنْ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) وَالْخِمَارُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ هُوَ مَا تُخَمِّرُ بِهِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا , أي : تُغَطِّيهِ . فَإِذَا كَانَتْ مَأْمُورَةً بِأَنْ تَضْرِبَ بِالْخِمَارِ عَلَى جَيْبِهَا كَانَتْ مَأْمُورَةً بِسَتْرِ وَجْهِهَا بِطَبِيْعَةِ الحَال , وَتَوْضِيحُ ذَلِكَ : أَنَّ الْخِمَارَ يَنْزِلُ مِنَ الرَّأْسِ إِلَى الْجَيْبِ وَهُوَ الصَّدْرُ وَالنَّحْرُ فَيَلْزَمُ مِنْهُ تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ .
ثُمَّ نَقُولُ : إِذَا وَجَبَ سَتْرُ النَّحْرِ وَالصَّدْرِ كَانَ وُجُوبُ سَتْرِ الْوَجْهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ مَوْضِعُ الْجَمَالِ وَالْفِتْنَةِ . فَإِنَّ النَّاسَ الذِينَ يَتَطَلَّبُونَ جَمَالَ الصُّورَةِ لا يَسْأَلُونَ إِلَّا عَنِ الْوَجْهِ ، فَإِذَا كَانَ جَمِيلاً لَمْ يَنْظُرُوا إِلَى مَا سِوَاهُ نَظَرَاً ذَا أَهَمِّيَةٍ . وَلِذَلِكَ إِذَا قَالُوا : إِنَّ فُلانَةً جَمِيلَةٌ , لَمْ يُفْهَمْ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إِلَّا جَمَالُ الْوَجْهِ , فَتَبَيَّنَ إِذَنْ أَنَّ الْوَجْهَ هُوَ مَوْضِعُ الْجَمَالِ ، فَكَيْفَ يُفْهَمُ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الْحَكِيمَةَ تَأْمُرُ بِسَتْرِ الصَّدْرِ وَالنَّحْرِ ثُمَّ تُرَخِّصُ فِي كَشْفِ الْوَجْهِ ؟!
وَمِنْ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ : قَوْلُهُ تَعَالَى (وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ) يَعْنِي : لا تَضْرِبُ الْمَرْأَةُ بِرِجْلِهَا فَيُعْلَمَ مَا تُخْفِيهِ مِنَ الْخَلاخِيلِ وَنَحْوِهَا مِمَّا تَتَحَلَّى بِهِ فِي القَدَم .
فَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَنْهِيَّةً عَنِ الضَّرْبِ بِالأَرْجُلِ خَوْفَاً مِنِ افْتِتَانِ الرَّجُلِ بِمَا يَسْمَعُ مِنْ صَوْتِ خِلْخَالِهَا وَنَحْوِهِ , فَكَيْفَ بِكَشْفِ الْوَجْهِ ؟ فَأَيُّهُمَا أَعْظَمُ فِتْنَةً أَنْ يَسْمَعَ الرَّجُلُ خَلْخَالاً بِقَدَمِ امْرَأَةٍ لا يَدْرِي مَا هِيَ وَمَا جَمَالُهَا ؟ ! لا يَدْرِي أَشَابَّةٌ هِيَ أَمْ عَجُوزٌ ؟ ! وَلا يَدْرِي أَشَوْهَاءُ هِيَ أَمْ حَسَنَاءُ ؟ ! أَيُّهُمَا أَعْظَمُ فِتْنَةً هَذَا ؟ أَوْ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى وَجْهٍ سَافِرٍ جَمِيلٍ مُمْتَلِئٍ شَبَابَاً وَجَمَالاً وَتَجْمِيلاً بِمَا يَجْلِبُ الْفِتْنَةَ وَيَدْعُو إِلَى النَّظَرِ إِلَيْهَا ؟ ! إِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ عَاقِلٍ لَيَعْلَمُ أَيُّ الْفِتْنَتَيْنِ أَعْظَمُ وَأَحَقُّ بِالسَّتْرِ وَالإِخْفَاءِ.
وَمِنْ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ : قَوْلُهُ تَعَالَى (يأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : أَمَرَ اللهُ نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا خَرَجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ فِي حَاجَةٍ أَنْ يُغَطِّينَ وُجُوهَهُنَّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِنَّ بِالْجَلابِيبِ وَيُبْدِينَ عَيْنَاً وَاحِدَةً . وَتَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ ، وَقَولُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ [وَيُبْدِينَ عَيْنَاً وَاحِدَةً] إِنَّمَا رَخَّصَ فِي ذَلِكَ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ إِلَى نَظَرِ الطَّريِقِ , فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ فَلا مُوجِبَ لِكَشْفِ الْعَيْنِ .
وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ خَرَجَ نِسَاءُ الأَنْصَارِ كَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِهِنَّ الْغِرْبَانُ مِنَ السَّكِينَةِ , وَعَلَيْهِنَّ أَكْسِيَةٌ سُودٌ يَلْبَسْنَهَا .
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : هَذِهِ ثَلاثَةُ أَدِلَّةٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ تُفِيدُ وُجُوبَ احْتِجَابِ الْمَرْأَةِ عَنِ الرِّجَالِ الأَجَانِبِ .
وَأَمَّا أَدِلَّةُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فَمِنْهَا : عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ , فَإِنْ اِسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا , فَلْيَفْعَلْ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ وَحَسَّنَهُ الأَلْبَانِيُّ .
فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَى الْجُنَاحَ - وَهُوَ الإِثْمَ - عَنِ الْخَاطِبِ خَاصَّةً إِذَا نَظَرَ إِلِى مَخْطُوبَتِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ لِلْخِطْبَةِ ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْخَاطِبَ آثِمٌ بِالنَّظَرِ إِلى الأَجْنَبِيَّةِ بِكُلِّ حَالٍ ، وَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْخَاطِبَ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى الْوَجْهِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ لِمُرِيدِ الْجَمَالِ بِلَا رَيْبٍ , وَمَا سِوَاهُ تَبَعٌ لا يُقْصَدُ غَالِبَاً .
وَمِنْ أَدِلَّةِ السُّنَّةِ : حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمُا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ) فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا : فَكَيْفَ تَصْنَعُ النِّسَاءُ بذُيُولِهِنَّ ؟ قَالَ (يُرْخِينَ شِبْراً) قَالَتْ : إِذَاً تَنْكَشِفُ أقْدَامُهُنَّ ! قَالَ (فَيُرخِينَهُ ذِرَاعاً لاَ يَزِدْنَ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ , وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ .
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ قَدَمِ الْمَرْأَةِ , وَأَنَّهُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مُتَقَرِّرٌ عِنْدَ نِسَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ، وَالْقَدَمُ أَقَلُّ فِتْنَةً مِنَ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ بِلا رَيْبٍ . فَالتَّنْبِيهُ بِالأَدْنَى تَنْبِيهٌ عَلَى مَا فَوْقَهُ وَمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْحُكْمِ ، وَحِكْمَةُ الشَّرْعِ تَأْبَى أَنْ يَجِبَ سَتْرُ مَا هُوَ أَقَلُّ فِتْنَةً وَيُرَخِّصُ فِي كَشْفِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فِتْنَةً ، فَإِنَّ هَذَا مِنَ التَّنَاقُضِ الْمُسْتَحِيلِ عَلَى حِكْمَةِ اللهِ وَشَرْعِهِ .
فَفِي هَذِهِ الأَدِلَّةِ بَيَانٌ وَاضِحٌ لِمَنْ يُرِيدُ الْحَقَّ وَيَخَافُ مِنْ رَبِّهِ وَيُرِيدُ سَتْرَ أَهْلِهِ , أَسْأَلُ اللهُ أَنْ يَحْفَظَ أَعْرَاضَنَا وَأَهَالِينَا وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ وَاللهُ الْمُوَفِّقُ وَالْهَادِي وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ .
أَمَّا بَعْدُ : فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ , وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مَغْزُوُّونَ مِنْ أَعْدَاءِ الإِسْلامِ مِنَ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ , وَهُمْ كَانُوا وَلا زَالُوا يَسْتَخْدِمُونَ جَانِبَ الْمَرْأَةِ لِبَثِّ الرَّذِيلَةِ وَقَمْعِ الْفَضِيلَةِ , وَإِنَّ مَسْأَلَةَ الْحِجَابِ مِنَ الْمَسَائِلِ التِي شَوَّشُوا بِهَا عَلَى نِسَائِنَا , بَلْ وَعَلَى بَعْضِ رِجَالِنَا , فَأَطَاعَهُمْ مَنْ أَطَاعَهُمْ وَتَبِعَهُمُ الْجُهَّالُ وَالسُّفَهَاءُ , حَتَّى ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ بَعْضَ بَنَاتِنَا مِمَّنَ ذَهَبَ لِبَلادِ الْغَرْبِ وَالشَّرْقِ فِي بَعَثَاتٍ دِرَاسِيَّةٍ فَعَلْنَ مَا يَفْعَلُ نِسَاءُ النَّصَارَى مِنَ التَّبَرُّجِ التَّامِ وَلُبْسِ الْعَارِي وَالاخْتِلاطِ بِالرِّجَالِ , وَمِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ : هَذِهِ الْحَمَلاتُ الْمُتَوَالِيَةُ عَلَى الْحِجَابِ , وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : اسْتَمِعُوا مَا قَالَهُ أَحَدُ الْعُلَمَاءِ الأَفْذَاذِ وَهُوَ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سِعْدِي رَحِمَهُ اللهُ , عَلَّامَةُ الْقَصِيمِ , حَيْثُ يَقُولُ : وَلَمْ تَنْزِلْ آيَةُ الْحِجَابِ إِلَّا فِي الْمَدِينَةِ ... فَاحْتَجَبَ نِسَاءُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَعَنْهُنَّ وَالتَّابِعِينَ , وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ عَمَلُ الْقُرُونِ الْمُفَضَّلَةِ , فَكَانَ كَالإِجْمَاعِ عِنْدَهُمْ , حَتَّى شَذَّ بَعْضُ الفُقَهَاءِ فَقَالَ بِعَدَمِ وُجُوبِهِ , فَنَمَا هَذَا الأَمْرُ إِلَى أَنَّ عُدَّ هَذَا الْقَوْلُ الْبَاطِلُ خِلافَاً فِي هَذَا الزَّمَانِ , وَأَخَذَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ لِلْعِلْمِ ... فَأَخَذُوا يَنْشُرُونَ عَلَى صَفَحَاتِ الْمَجَلَّاتِ وَالْجَرَائِدِ الِإسْلَامِيَّةِ إِبَاحَةَ السُّفُورِ لِلنِّسَاءِ , وَالْحَالُ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ , لا يُعَدُّ خِلافَاً فِي الْمَسْأَلَةِ , لِأَنَّهُ خَارِقٌ لِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَسَائِرُ الْقُرُونِ الْمُفَضَّلَةِ . انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللهُ .
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ , أَيُّهَا الأَبُ , أَيُّهَا الزَّوْجُ , أَيُّهَا الأَخُ , وَيَامَن وَلَّاهُ اللهُ امْرَأَةً : اتِّقِ اللهَ وَلا يَكُنْ أَهْلُكَ لُعْبَةً فِي أَيْدِي السُّفَهَاءِ , وَلا لُقْمَةً سَائِغَةً لِلأَشْقِيَاءِ , وَانْتَبِهْ لِمَا يُرَادُ مِنْ أَهْلِكَ مِنْ أَعْدَاءِ الإِسْلامِ , وَمِنْ دُعَاةِ الرَّذِيلَةِ وَمِنْ مُحَارِبِي الْفَضِيلَةِ , وَخَاصَّةً فِي وَسَائِلِ الإِعْلَامِ !
أَسْأَلُ اللهَ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْنا دِينَنَا وَدُنْيَانَا , وَأَنْ يَحْفَظَ أَعْرَاضَنَا وَنَسَاءَنَا , اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا عَالِمَ السِّرِّ وَالْعَلَنِ , يَا قَدِيرُ , اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَ نَسَاءَنَا بِسُوءٍ فَأَشْغَلَهُ بِنَفْسِهِ وَاجْعَلْ كَيْدَهُ فِي نَحْرِهِ وَاجْعَلْ تَدْبِيرَهُ تَدْمِيرَهُ , اللَّهُمَّ أَبْطِلْ خُطَطَهُمْ وَأَفْشِلْ جُهُودَهُمْ , اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَمْرَهُمْ فِي خَبَالٍ وَسَعْيَهُمْ فِي ضَلالٍ .
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ وُلاةَ أُمُورِنَا وَأَصْلِحْ بِطَانَتَهُم وأَعْوَانَهُم يَارَبَّ العَالَمِينَ , اللَّهُمَّ أَصْلِحْ أَحْوَال َالمُسْلِمِينَ في كُلِّ مَكَانٍ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ , وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ عَلَى نبيِّنَا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ , والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ .
الحمد لله الّذي أعَزّ من أطاعه واتّقاه ، والحمد لله الّذي أذلّ من خالف أمره فعصاه ، النّاصر لدينه وأوليائه ، القائل في مُحكَم آياته (وَلْتًكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُوْنَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُوْنَ بِالْمَعْرُفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُوْنَ) ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيءٍ قدير ، وأشهد أن نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله وخليله ومصطفاه ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدّين .
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ حِجَابَ الْمَرْأَةِ مِنَ الْقَضَايَا الْكُبْرَى التِي جَاءَتْ بِهَا شَرِيعَتُنَا , وَأَكَّدَ عَلَيْهَا دِينُنَا , وَتَظَافَرَتْ عَلَيْهاَ النُّصُوصُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَمَعَ هَذَا فَلا يَزَالُ أَعْدَاءُ الإِسْلامِ فِي الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ وَأَصْحَابُ الأَغْرَاضِ الدَّنِيَّةِ وَالْمَقَاصِدِ الْخَفِيَّةِ يُدَنْدِنُونَ حَوْلَ الْحِجَابِ , تَارَةً بِالتَّشْكِيكِ فِي شَرْعِيَّتِهِ , وَتَارَةً بِالسُّخْرِيَةِ وَالذَّمِّ لِمُرْتَدِيَتِهِ , وَتَارَةً بِالتَّبَاكِي عَلَى لابِسَتِهِ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : إِنَّ حِجَابَ الْمَرْأَةِ سِتْرٌ لَهَا وَصِيَانَةٌ , وَعَفَافٌ وَحِفْظٌ لَهَا بِإِذْنِ اللهِ وَأَمَانَةٌ , وَعَلامَةٌ عَلَى الصَّلاحِ وَالدِّيَانَةِ .
إِنَّ الْحِجَابَ أَيُّهَا الإِخْوَةُ هُوَ اللِّبَاسُ الذِي يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِ الْمَرْأَةِ مِنَ رَأْسِهَا إِلَى أَخْمُصِ قَدَمَيْهَا , بِشَرْطِ أَنْ لا يَكُونَ فِتْنَةً فِي نَفْسِهِ , وَلا يَكُونُ لِبَدَنِهَا وَصَّافَاً وَلا يَكُونَ ضَيِّقَاً وَلا شَفَّافَاً .
وَلَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ الْمُبَارَكَةِ بِلادِ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ وَالْحَيَاءِ وَالْحِشْمَةِ كَانُوا عَلَى طَرِيقِ الاسْتِقَامَةِ فِي ذَلِكَ , فَكَانَتِ النِّسَاءُ يَخْرُجْنَ مُتَحَجِّبَاتٍ بِالْعَبَاءَةِ أَوْ نَحْوِهَا بَعِيدَاتٍ عَنْ مُخَالَطَةِ الرِّجَالِ الأَجَانِبِ ، وَلا تَزَالُ الْحَالُ كَذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ بُلْدَانِ الْمَمْلَكَةِ وَللهِ الْحَمْدِ .
لَكِنْ لَمَّا حَصَلَ مَا حَصَلَ مِنَ الْكَلَامِ حَوْلَ الْحِجَابِ , وَرُؤْيَةِ مَنْ لا يَفْعَلُونَهُ وَلا يَرَوْنَ بَأْسَاً بِالسُّفُورِ , صَارَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ شَكٌّ فِي الْحِجَابِ وَتَغْطِيَةِ الْوَجْهِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؟ أَوْ شَيْءٌ يَتْبَعُ الْعَادَاتِ وَالتَّقَالِيدَ وَلا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِوُجُوبٍ وَلا اسْتِحْبَابٍ ؟
وَلِإِزَالَةِ هَذَا الشَّكِّ وَجَلاءِ حَقِيقَةِ الأَمْرِ , فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ لا الْحَصْرِ , رَاجِيَاً مِنَ اللهِ تَعَالَى أَنْ يَتَّضِحَ بِهَا الْحَقُّ ، وَأَنْ يَجَعَلَنَا مِنَ الْهُدَاةِ الْمُهْتَدِينَ الذِينَ رَأَوُا الْحَقَّ حَقَّاً وَاتَّبَعُوهُ , وَرَأَوُا الْبَاطِلَ بَاطِلاً فَاجْتَنَبُوهُ .
فَمِنْ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) وَالْخِمَارُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ هُوَ مَا تُخَمِّرُ بِهِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا , أي : تُغَطِّيهِ . فَإِذَا كَانَتْ مَأْمُورَةً بِأَنْ تَضْرِبَ بِالْخِمَارِ عَلَى جَيْبِهَا كَانَتْ مَأْمُورَةً بِسَتْرِ وَجْهِهَا بِطَبِيْعَةِ الحَال , وَتَوْضِيحُ ذَلِكَ : أَنَّ الْخِمَارَ يَنْزِلُ مِنَ الرَّأْسِ إِلَى الْجَيْبِ وَهُوَ الصَّدْرُ وَالنَّحْرُ فَيَلْزَمُ مِنْهُ تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ .
ثُمَّ نَقُولُ : إِذَا وَجَبَ سَتْرُ النَّحْرِ وَالصَّدْرِ كَانَ وُجُوبُ سَتْرِ الْوَجْهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ مَوْضِعُ الْجَمَالِ وَالْفِتْنَةِ . فَإِنَّ النَّاسَ الذِينَ يَتَطَلَّبُونَ جَمَالَ الصُّورَةِ لا يَسْأَلُونَ إِلَّا عَنِ الْوَجْهِ ، فَإِذَا كَانَ جَمِيلاً لَمْ يَنْظُرُوا إِلَى مَا سِوَاهُ نَظَرَاً ذَا أَهَمِّيَةٍ . وَلِذَلِكَ إِذَا قَالُوا : إِنَّ فُلانَةً جَمِيلَةٌ , لَمْ يُفْهَمْ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إِلَّا جَمَالُ الْوَجْهِ , فَتَبَيَّنَ إِذَنْ أَنَّ الْوَجْهَ هُوَ مَوْضِعُ الْجَمَالِ ، فَكَيْفَ يُفْهَمُ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الْحَكِيمَةَ تَأْمُرُ بِسَتْرِ الصَّدْرِ وَالنَّحْرِ ثُمَّ تُرَخِّصُ فِي كَشْفِ الْوَجْهِ ؟!
وَمِنْ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ : قَوْلُهُ تَعَالَى (وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ) يَعْنِي : لا تَضْرِبُ الْمَرْأَةُ بِرِجْلِهَا فَيُعْلَمَ مَا تُخْفِيهِ مِنَ الْخَلاخِيلِ وَنَحْوِهَا مِمَّا تَتَحَلَّى بِهِ فِي القَدَم .
فَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَنْهِيَّةً عَنِ الضَّرْبِ بِالأَرْجُلِ خَوْفَاً مِنِ افْتِتَانِ الرَّجُلِ بِمَا يَسْمَعُ مِنْ صَوْتِ خِلْخَالِهَا وَنَحْوِهِ , فَكَيْفَ بِكَشْفِ الْوَجْهِ ؟ فَأَيُّهُمَا أَعْظَمُ فِتْنَةً أَنْ يَسْمَعَ الرَّجُلُ خَلْخَالاً بِقَدَمِ امْرَأَةٍ لا يَدْرِي مَا هِيَ وَمَا جَمَالُهَا ؟ ! لا يَدْرِي أَشَابَّةٌ هِيَ أَمْ عَجُوزٌ ؟ ! وَلا يَدْرِي أَشَوْهَاءُ هِيَ أَمْ حَسَنَاءُ ؟ ! أَيُّهُمَا أَعْظَمُ فِتْنَةً هَذَا ؟ أَوْ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى وَجْهٍ سَافِرٍ جَمِيلٍ مُمْتَلِئٍ شَبَابَاً وَجَمَالاً وَتَجْمِيلاً بِمَا يَجْلِبُ الْفِتْنَةَ وَيَدْعُو إِلَى النَّظَرِ إِلَيْهَا ؟ ! إِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ عَاقِلٍ لَيَعْلَمُ أَيُّ الْفِتْنَتَيْنِ أَعْظَمُ وَأَحَقُّ بِالسَّتْرِ وَالإِخْفَاءِ.
وَمِنْ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ : قَوْلُهُ تَعَالَى (يأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : أَمَرَ اللهُ نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا خَرَجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ فِي حَاجَةٍ أَنْ يُغَطِّينَ وُجُوهَهُنَّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِنَّ بِالْجَلابِيبِ وَيُبْدِينَ عَيْنَاً وَاحِدَةً . وَتَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ ، وَقَولُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ [وَيُبْدِينَ عَيْنَاً وَاحِدَةً] إِنَّمَا رَخَّصَ فِي ذَلِكَ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ إِلَى نَظَرِ الطَّريِقِ , فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ فَلا مُوجِبَ لِكَشْفِ الْعَيْنِ .
وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ خَرَجَ نِسَاءُ الأَنْصَارِ كَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِهِنَّ الْغِرْبَانُ مِنَ السَّكِينَةِ , وَعَلَيْهِنَّ أَكْسِيَةٌ سُودٌ يَلْبَسْنَهَا .
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : هَذِهِ ثَلاثَةُ أَدِلَّةٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ تُفِيدُ وُجُوبَ احْتِجَابِ الْمَرْأَةِ عَنِ الرِّجَالِ الأَجَانِبِ .
وَأَمَّا أَدِلَّةُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فَمِنْهَا : عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ , فَإِنْ اِسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا , فَلْيَفْعَلْ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ وَحَسَّنَهُ الأَلْبَانِيُّ .
فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَى الْجُنَاحَ - وَهُوَ الإِثْمَ - عَنِ الْخَاطِبِ خَاصَّةً إِذَا نَظَرَ إِلِى مَخْطُوبَتِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ لِلْخِطْبَةِ ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْخَاطِبَ آثِمٌ بِالنَّظَرِ إِلى الأَجْنَبِيَّةِ بِكُلِّ حَالٍ ، وَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْخَاطِبَ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى الْوَجْهِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ لِمُرِيدِ الْجَمَالِ بِلَا رَيْبٍ , وَمَا سِوَاهُ تَبَعٌ لا يُقْصَدُ غَالِبَاً .
وَمِنْ أَدِلَّةِ السُّنَّةِ : حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمُا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ) فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا : فَكَيْفَ تَصْنَعُ النِّسَاءُ بذُيُولِهِنَّ ؟ قَالَ (يُرْخِينَ شِبْراً) قَالَتْ : إِذَاً تَنْكَشِفُ أقْدَامُهُنَّ ! قَالَ (فَيُرخِينَهُ ذِرَاعاً لاَ يَزِدْنَ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ , وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ .
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ قَدَمِ الْمَرْأَةِ , وَأَنَّهُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مُتَقَرِّرٌ عِنْدَ نِسَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ، وَالْقَدَمُ أَقَلُّ فِتْنَةً مِنَ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ بِلا رَيْبٍ . فَالتَّنْبِيهُ بِالأَدْنَى تَنْبِيهٌ عَلَى مَا فَوْقَهُ وَمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْحُكْمِ ، وَحِكْمَةُ الشَّرْعِ تَأْبَى أَنْ يَجِبَ سَتْرُ مَا هُوَ أَقَلُّ فِتْنَةً وَيُرَخِّصُ فِي كَشْفِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فِتْنَةً ، فَإِنَّ هَذَا مِنَ التَّنَاقُضِ الْمُسْتَحِيلِ عَلَى حِكْمَةِ اللهِ وَشَرْعِهِ .
فَفِي هَذِهِ الأَدِلَّةِ بَيَانٌ وَاضِحٌ لِمَنْ يُرِيدُ الْحَقَّ وَيَخَافُ مِنْ رَبِّهِ وَيُرِيدُ سَتْرَ أَهْلِهِ , أَسْأَلُ اللهُ أَنْ يَحْفَظَ أَعْرَاضَنَا وَأَهَالِينَا وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ وَاللهُ الْمُوَفِّقُ وَالْهَادِي وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ .
أَمَّا بَعْدُ : فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ , وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مَغْزُوُّونَ مِنْ أَعْدَاءِ الإِسْلامِ مِنَ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ , وَهُمْ كَانُوا وَلا زَالُوا يَسْتَخْدِمُونَ جَانِبَ الْمَرْأَةِ لِبَثِّ الرَّذِيلَةِ وَقَمْعِ الْفَضِيلَةِ , وَإِنَّ مَسْأَلَةَ الْحِجَابِ مِنَ الْمَسَائِلِ التِي شَوَّشُوا بِهَا عَلَى نِسَائِنَا , بَلْ وَعَلَى بَعْضِ رِجَالِنَا , فَأَطَاعَهُمْ مَنْ أَطَاعَهُمْ وَتَبِعَهُمُ الْجُهَّالُ وَالسُّفَهَاءُ , حَتَّى ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ بَعْضَ بَنَاتِنَا مِمَّنَ ذَهَبَ لِبَلادِ الْغَرْبِ وَالشَّرْقِ فِي بَعَثَاتٍ دِرَاسِيَّةٍ فَعَلْنَ مَا يَفْعَلُ نِسَاءُ النَّصَارَى مِنَ التَّبَرُّجِ التَّامِ وَلُبْسِ الْعَارِي وَالاخْتِلاطِ بِالرِّجَالِ , وَمِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ : هَذِهِ الْحَمَلاتُ الْمُتَوَالِيَةُ عَلَى الْحِجَابِ , وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : اسْتَمِعُوا مَا قَالَهُ أَحَدُ الْعُلَمَاءِ الأَفْذَاذِ وَهُوَ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سِعْدِي رَحِمَهُ اللهُ , عَلَّامَةُ الْقَصِيمِ , حَيْثُ يَقُولُ : وَلَمْ تَنْزِلْ آيَةُ الْحِجَابِ إِلَّا فِي الْمَدِينَةِ ... فَاحْتَجَبَ نِسَاءُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَعَنْهُنَّ وَالتَّابِعِينَ , وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ عَمَلُ الْقُرُونِ الْمُفَضَّلَةِ , فَكَانَ كَالإِجْمَاعِ عِنْدَهُمْ , حَتَّى شَذَّ بَعْضُ الفُقَهَاءِ فَقَالَ بِعَدَمِ وُجُوبِهِ , فَنَمَا هَذَا الأَمْرُ إِلَى أَنَّ عُدَّ هَذَا الْقَوْلُ الْبَاطِلُ خِلافَاً فِي هَذَا الزَّمَانِ , وَأَخَذَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ لِلْعِلْمِ ... فَأَخَذُوا يَنْشُرُونَ عَلَى صَفَحَاتِ الْمَجَلَّاتِ وَالْجَرَائِدِ الِإسْلَامِيَّةِ إِبَاحَةَ السُّفُورِ لِلنِّسَاءِ , وَالْحَالُ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ , لا يُعَدُّ خِلافَاً فِي الْمَسْأَلَةِ , لِأَنَّهُ خَارِقٌ لِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَسَائِرُ الْقُرُونِ الْمُفَضَّلَةِ . انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللهُ .
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ , أَيُّهَا الأَبُ , أَيُّهَا الزَّوْجُ , أَيُّهَا الأَخُ , وَيَامَن وَلَّاهُ اللهُ امْرَأَةً : اتِّقِ اللهَ وَلا يَكُنْ أَهْلُكَ لُعْبَةً فِي أَيْدِي السُّفَهَاءِ , وَلا لُقْمَةً سَائِغَةً لِلأَشْقِيَاءِ , وَانْتَبِهْ لِمَا يُرَادُ مِنْ أَهْلِكَ مِنْ أَعْدَاءِ الإِسْلامِ , وَمِنْ دُعَاةِ الرَّذِيلَةِ وَمِنْ مُحَارِبِي الْفَضِيلَةِ , وَخَاصَّةً فِي وَسَائِلِ الإِعْلَامِ !
أَسْأَلُ اللهَ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْنا دِينَنَا وَدُنْيَانَا , وَأَنْ يَحْفَظَ أَعْرَاضَنَا وَنَسَاءَنَا , اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا عَالِمَ السِّرِّ وَالْعَلَنِ , يَا قَدِيرُ , اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَ نَسَاءَنَا بِسُوءٍ فَأَشْغَلَهُ بِنَفْسِهِ وَاجْعَلْ كَيْدَهُ فِي نَحْرِهِ وَاجْعَلْ تَدْبِيرَهُ تَدْمِيرَهُ , اللَّهُمَّ أَبْطِلْ خُطَطَهُمْ وَأَفْشِلْ جُهُودَهُمْ , اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَمْرَهُمْ فِي خَبَالٍ وَسَعْيَهُمْ فِي ضَلالٍ .
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ وُلاةَ أُمُورِنَا وَأَصْلِحْ بِطَانَتَهُم وأَعْوَانَهُم يَارَبَّ العَالَمِينَ , اللَّهُمَّ أَصْلِحْ أَحْوَال َالمُسْلِمِينَ في كُلِّ مَكَانٍ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ , وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ عَلَى نبيِّنَا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ , والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ .
المرفقات
الدِّفَاعُ عَنْ حِجَابِ الْمَرْأَةِ 27 صَفَر 1436هـ.doc
الدِّفَاعُ عَنْ حِجَابِ الْمَرْأَةِ 27 صَفَر 1436هـ.doc
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا ونفع بعلمك
تعديل التعليق