الدعوة والعودة إلى القرآن الكريم
سعيد المفضلي
1438/05/13 - 2017/02/10 05:40AM
الدعوة والعودة إلى القرآن الكريم
معاشر المسلمين:
لقد أحدث القران الكريم في العالم تحوُّلاً وتجديدًا لم يشهد لهما التاريخ مثيلاً من قبل، تحولاً في التفكير، تحولاً في الأخلاق، وتجديدًا في الحضارة والمدنية، تحولاً إصلاحيًّا شاملاً لكل مرافق الحياة الإنسانية، في كل بقعة من بقاع الأرض التي استظلَّتْ بظل الإسلام، كما قدم للإنسانية نموذجًا رائعًا للإنسان المتكامل في عقيدته وسلوكه وأخلاقه، فأقبل عليه الناسُ من جميع البقاع، ومن كل الأجناس، وربط القرآن بينهم برباط العقيدة، وألَّف بين قلوبهم حتى أصبحوا بنعمة الله إخوانًا متحابِّين، وكانوا بذلك خيرَ أمة أخرجتْ للناس، قادَتِ العالمَ وعلَّمت البشريةَ قرونًا طويلة.
وهو الكتاب الوحيد الذي يستطيع أن ينقذ العالمَ من الحيرة والضلال، والتخبط والاضطراب.
ولن يعود للمسلمين عزُّهم ومجدهم، إلا إذا عادوا من جديد إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم، عند ذلك - فقط - يتحقق لهم ما ينشدونه من التقدم والحضارة والرقي، والأمن والسلام، ومن هنا كانت الحاجة ماسة إلى القرآن، ففيه وحده الشفاء من كل الأدواء التي تعاني منها الإنسانية اليوم.
وتعلُّم القرآن الكريم من أجلِّ القربات، وأفضل الطاعات، وأهم المهمات، وحَمَلَةُ القرآن هم أرفع الناس قَدرًا، وأشرفهم عِلمًا، وأقومهم طريقًا.
وقد حثَّ رسول الله أمَّتَه على حفظ القرآن الكريم ومدارسته، وتعلمه وتعليمه، وبيَّن فضل أهله وحَمَلته، والأحاديث في هذا الباب معلومة مشهورة.
وقد عُني المسلمون بكتاب ربهم عناية فائقة، تميَّزوا بها على مَن سبقهم من الأمم؛ حيث تنافسوا في قراءته وحفظه، وتسابقوا إلى دراسته والعمل به.
وقد ظل هذا الكتاب الكريم على مرِّ القرون - منذ نزوله إلى يومنا هذا - محفوظًا في الصدور، كما هو مكتوب في المصاحف، يأخذه اللاحق عن السابق، فالحمد لله على منَّته وفضله.
والله سبحانه وتعالى لفت النظر لأهمية تعليم القرآن وتعلمه؛ فقال - سبحانه -: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ ﴾ [الرحمن: 1 - 4].
قال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: يقول - تعالى ذِكره -: الرحمن - أيها الناس - برحمته إياكم علَّمكم القرآن، فأنعم بذلك عليكم، إذ بصَّركم به ما فيه رضا ربكم، وعرَّفكم ما فيه سخطه؛ لتطيعوه باتِّباعكم ما يرضيه عنكم، وعملكم بما أمركم به، وبتجنُّبكم ما يسخطه عليكم، فتستوجبوا بذلك جزيل ثوابه، وتنجوا من أليم عقابه.
ولنا أن نتساءل: لماذا قدَّم الله - سبحانه - تعليم القرآن على خلْق الإنسان، مع أن المشهود أن الإنسان يُخلق أولاً؟ أليست هذه إشارة إلى أن الإنسان لا يكون إنسانًا حقيقيًّا إلا إذا تعلَّم القرآن؟ "إن السلوك السويَّ للفرد لا يمكن أن يغرس وينمو في شخص لم يخالط عقلَه وقلبه القرآنُ الكريم؛ ذلك لأن القرآن يجمع عليه أمرَه في الاعتقاد، ويرسخ فيه مَلَكةَ الرقابة الذاتية في السلوك، وفي ذلك يقول البيضاوي عند تفسيره لهذه الآية: "لما كانت السورة مقصورة على تعداد النعم الدنيوية والأخروية، صدرها بـ ﴿ الرَّحْمَنُ ﴾ ، وقدَّم ما هو أصل النعم الدينية وأجلّها، وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه؛ فإنه أساس الدين، ومنشأ الشرع، وأعظم الوعظ، وأعز الكتب؛ إذ هو بإعجازه واشتماله على خلاصتها مصدِّق لنفسه، ومصداق لها، ثم أتبعه قوله: ﴿ خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ ﴾؛ إيماء بأن خلق البشر، وما يميز به عن سائر الحيوان من البيان، وهو التعبير عما في الضمير، وإفهام الغير لما أدركه؛ لتلقي الوحي، وتعرُّف الحق، وتعلُّم الشرع.
ومن هنا، فتعلُّم القرآن خيرُ ما يتعلَّمه المسلم؛ : ((خيركم مَن تعلَّم القرآن وعلَّمه)).
ومن تعلم القرآن ثم علمه لغيره، فهو خير الناس؛ فهو قد جمع بين تكميل نفسه بتعلُّم القرآن، وتكميل غيره بتعليمه القرآن، هذا ومِن لازِم تعلُّم القرآن وتعليمه للغير، حفظُه وفهمه والعمل به، فمَن حفِظَه وفهمه ولم يعمل به، فهو حُجة عليه.
ولأهمية هذا الكتاب وحاجة الأمة إليه؛ فقد أكرمنا الله به فأنزله علينا، وتكفل لنا بحفظه فقال: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].
نظرة في الواقع:
وبالنظر في الواقع المعيش للطلاب الذين ينتسبون إلى حلقات تحفيظ القرآن الكريم، نجد أن الآثار الإيجابية للقرآن تظهر بصورة أكبر على الطفل؛ لأن الطفل يسهل تشكيله وتعليمه، وكما قالوا قديمًا: "التعليم في الصغر كالنقش على الحجر". فالطفل الذي تلقَّى القرآن منذ الطفولة يمتاز في كل أحواله عن الطفل الفاقد لهذا الخير، فالقرآن يعطي قوة نفسية، ومتانة في الأخلاق، تظهر في المحن والابتلاءات.
والقرآن ينشئ العقلية العلمية الموضوعية، التي لا تقبل نتائجَ بغير مقدمات، ولا تخضع إلا للحجة والبرهان، وهو مدرسة لتعلم الفضائل السلوكية، وتجنب القبيح، وكذلك يعلِّم المرء الدراسة والتخطيط، والاهتمام بالنظر، والتفكر، والتأمل.
وفي تعلُّم القرآن للطفل فائدةٌ من جميع النواحي؛ ففي حفظه له استقامةٌ للسانه، وحفظٌ له من التلفظ بالسوء، كما يرزقه الله به فهمًا يتفرد به بين أقرانه ومَن في سنِّه، وتقوى عنده أيضًا ملَكةُ الحفظ، ويتعذر اختراق عقله بأوهام الدنيا، فيشبّ مشغولَ الذهن بالقرآن وآياته ومعانيه، وأخلاق أهله ومجالسه.
وحفظُ القرآن يساعد صاحبَه على التفوق في دراسته، ويعوِّده على نطق الألفاظ والتحدث باللغة العربية، حتى في لعبه وترويحه مع أقرانه.
والاشتغال بالقرآن الكريم يُحدِث أثرًا إيمانيًّا بالغًا لدى المعلم والمتعلم، أما عن أثره على المعلم، فالاشتغال به يؤثِّر في استقامة شخصيته، وزيادة الوازع الإيماني، فيَصِل لديه إلى الذروة الإيمانية، التي تنعكس على أدائه في العبادات، ونمطه في السلوك، وقد سبق أن وضَّحتْ كتبُ التراجم والسِّير أن البيئة لها أثرها على السلوك والتصرف في كل أمور الحياة.
أما أثره على الطالب، فنجد أن انتظامه في حلق التحفيظ يميِّزه عن غيره من أقرانه، سواء كان ذلك في دراسته، أم في بقية أحواله المعيشية، فارتباطُ الطالب بحلق التحفيظ يُحدِث لديه سلوكًا حسنًا، وسمتًا طيبًا، وكذلك يميزه في هيئته وسلوكه وأخلاقه ومعاشرته مع الآخرين، وقبل ذلك كله يحقِّق له الأثر الواضح في السلوك التعبُّدي والإيماني، الذي يستفيد منه ويتأثر به كلُّ من يتعاملون معه.
وتقول والدة عن ابنها - الذي يدرس بالصف الثاني الثانوي -: "يحفظ نجلي القرآن كاملاً، وهو يحترم إخوته الكبار، ويعاملني ووالدَه معاملةً حسنة، وقد تأثَّر بالقرآن الكريم، فهو هادئ الطبع، حَسَن الخلق، في لسانه فصاحة، وهو متفوق في دراسته، فقد أورثه القرآن حسنًا في أخلاقه، وقوةً في لغته العربية، وإتقانًا لعبادته، وحبًّا للطاعة".
وعن نظرة الأبناء في ذلك، يؤكِّد بعض الطلاب أن حفظ القرآن جعله من الأوائل في مادة اللغة العربية، وكذلك ساعَدَه على سرعة استيعاب المواد الدراسية؛ لأنه أصبح يستوعب بسهولة ويسر، وللقرآن أثر كبير في حياته؛ فبه يعامل أهله وإخوته وأصدقاءه، ثم يقول: وبه اكتسبت احترام الجميع.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه...
أما بعد فبرغم الآثار الإيجابية، والأمثلة الطيبة للقرآن في تنشئة الأطفال، فإن الكثير من الآباء والأمهات - للأسف - لا يوجِّهون أبناءهم لحفظ القرآن، ولا يستثمرون عقول أبنائهم ولا أوقاتهم في ذلك؛ بل يتركون أبناءهم يبدِّدون الأوقات هنا وهناك في اللهو والمرح، وأمام أدوات اللهو الحديثة.
ومما لا شك فيه أن أعداء الإسلام لجؤوا إلى صرف المسلمين عن دينهم، عن طريق صرفهم عن القرآن، حتى أصبحتْ صورة حامل القرآن في نظر كثير مِن الذين لا يدركون قيمته - صورةً لا يرجوها الآباء لأبنائهم! ففطن مِن المسلمين مَن فطن إلى ذلك الأمر، واتَّجه غيرهم إلى الأندية والملاعب، كوسيلة لتسلية الأبناء، وهؤلاء يَحرِمون أبناءهم وأنفسهم فوائدَ القرآن، وبركته، والتنشئة عليه، فيكون أبناؤهم - بعد ذلك - وبالاً عليهم؛ لأنهم تربَّوا بلا رادع رباني، أو مقوم إلهي.
ويجب أن يعي الآباء أن كل العلوم لا فائدة من النبوغ فيها، إلا إذا ربطها صاحبُها بالقرآن الكريم، كذلك لا بد أن يتذكَّر الآباء والأمهات قولَ الرسول : ((إذا مات الإنسان، انقطع عنه عمله إلا من ثلاث))، ومن هذه الثلاث: ((أو لد صالح يدعو له)).
وهذا شرف عظيم يناله مَن حَمَل ابنُه القرآنَ، ولا بد من أن يعي ذلك المحفِّظون والمعلمون.
ودور الأم كذلك مهم في توجيه أطفالها لحفظ القرآن؛ فعلى الأم تشجيعُ ابنها على حفظ القرآن، والذهاب للمسجد، وتحبيبه في كتاب الله وتلاوته بالأحكام، وأن ترغبه في حفظه بهدايا وجوائزَ نافعةٍ، وبكافة وسائل الترغيب.
وكثير من النساء ظهر لهن دور بارز في توجيه أبنائهن نحو الاهتمام بالقرآن الكريم وتعلُّم علومه، ولم يغفل التاريخ دورَ والدة الإمام الشافعي في هذا المجال، وتوجيهها له، وحثه على الترحال والتنقل؛ طلبًا لإتقان حفظ القرآن وتلقي علومه، وما أقسام النساء في جمعيات تحفيظ القرآن الكريم، التي تنتشر في كل مكان في هذا البلد الطيب - المملكة العربية السعودية - ببعيد عن الأذهان، وما مكاتب التحفيظ الخاصة بالنساء في البلاد العربية والإسلامية، ببعيد عنا.
عباد الله: وحاجتنا إلى القرآن دائمًا ضرورية وملحَّة، وتتأكد تلك الحاجة في هذا العصر الذي ضعُف فيه الوازع الإيماني عند كثير من الناس، فلهثوا وراء المترفات حلالها وحرامها، ومن هنا نحتاج إلى ما يقوي هذا الوازعَ ويجدِّده، وأفضلُ منبع مستمر ومتجدد للإيمان هو القرآن؛ يقول تعالى: ﴿ إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2].
فالقرآن له تأثيرات عجيبة على استثارة المشاعر، والسيطرة عليها، وتوجيهها لله - عز وجل - وليس ذلك فحسب؛ بل إن للقرآن خاصيةً عجيبة لا توجد في غيره، وهي قدرته على جعل مَن يتعامل معه بطريقة صحيحة في حالة دائمة من الهمَّة والنشاط، والتوقد والإيجابية، وذلك من خلال توليده المستمر للطاقة داخل نفس صاحبه كلما قرأ وتجاوب معه، وتأثرت به مشاعره، هذه الطاقة ستدفعه ليصرفها في أعمال البر المختلفة.
وتتأكَّد حاجتنا إلى القرآن الكريم، حينما ندرك يقينًا أن القرآن له دور كبير في علاج أمراض القلوب، وعلى رأسها مرض العُجب، وما يُحدِثه هذا المرض في نفس الإنسان مِن تعاظم واستعظام على الآخرين؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 57].
ويعرفنا القرآن كذلك بطبيعة النفس، وبأنها أمَّارة بالسوء، لديها قابليةُ للفجور والطغيان، تحب الاستئثار بكل خير، ولا تنظر للعواقب.
وعليه؛ فضروري أن يعود المسلم إلى القيمة الحقيقية للقرآن ﴿ إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9].
هذا هو دور القرآن الحقيقي، وما قراءتُه أو حفظه إلا وسائلُ لتيسير الانتفاع بمعجزته، ومعنى ذلك أنه ينبغي على جيلنا الحالي - إذا كان يريد نصرًا وتمكينًا - أن يُقبِل على القرآن بكيانه، وأن يفرِّغ له أكبر وقت لديه، وينشغل به، ومما يعينه على ذلك أن يخصص له وقتًا كل يوم، وأن يقرأه في مكان هادئ بعيدًا عن الضوضاء؛ لتحسن استفادته منه، والتعبير عن مشاعره تجاه الآيات بالبكاء والدعاء، وعليه كذلك أن يهيئ قلبه وفكره للتلاوة بتذكر الموت والآخرة؛ فقد قال تعالى: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45].
وقد أدرك سلفُ الأمة هذا الدورَ للقرآن والحاجة إليه، فكانوا يتعاهدون القرآن الكريم علمًا، وتعلُّمًا، وتعليمًا، وكانت لهم في ذلك عناية ورعاية خاصة، ومما يدل على ذلك ما ورد عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن كل مؤدب يحب أن يُؤتى أدبه، وإن أدب الله تبارك وتعالى القرآن.
وعن الأعمش قال: مرَّ أعرابي بعبدالله بن مسعود رضي الله عنه وهو يُقرئ قومًا القرآنَ، أو قال: وعنده قوم يتعلَّمون القرآن، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ فقال ابن مسعود: يقتسمون ميراث محمد .
وورد أيضًا عن عمرو بن قيس السكوتي، قال: سمعت عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يقول: عليكم بالقرآن، فتعلَّموه وعلِّموه أبناءكم؛ فإنكم عنه تسألون، وبه تجزون، وكفى به واعظًا لمن عقَل.
ويقولُ كعب الأحبار: عليكم بالقرآن؛ فإنه فهم العقل، ونور الحكمة، وينابيع العلم، وأحدثُ الكتبِ بالرحمن عهدًا، وقال في التوراة: يا محمد، إني منزل عليك توراة حديثة، تفتح بها أعينًا عميًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلفًا.
معاشر المسلمين:
لقد أحدث القران الكريم في العالم تحوُّلاً وتجديدًا لم يشهد لهما التاريخ مثيلاً من قبل، تحولاً في التفكير، تحولاً في الأخلاق، وتجديدًا في الحضارة والمدنية، تحولاً إصلاحيًّا شاملاً لكل مرافق الحياة الإنسانية، في كل بقعة من بقاع الأرض التي استظلَّتْ بظل الإسلام، كما قدم للإنسانية نموذجًا رائعًا للإنسان المتكامل في عقيدته وسلوكه وأخلاقه، فأقبل عليه الناسُ من جميع البقاع، ومن كل الأجناس، وربط القرآن بينهم برباط العقيدة، وألَّف بين قلوبهم حتى أصبحوا بنعمة الله إخوانًا متحابِّين، وكانوا بذلك خيرَ أمة أخرجتْ للناس، قادَتِ العالمَ وعلَّمت البشريةَ قرونًا طويلة.
وهو الكتاب الوحيد الذي يستطيع أن ينقذ العالمَ من الحيرة والضلال، والتخبط والاضطراب.
ولن يعود للمسلمين عزُّهم ومجدهم، إلا إذا عادوا من جديد إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم، عند ذلك - فقط - يتحقق لهم ما ينشدونه من التقدم والحضارة والرقي، والأمن والسلام، ومن هنا كانت الحاجة ماسة إلى القرآن، ففيه وحده الشفاء من كل الأدواء التي تعاني منها الإنسانية اليوم.
وتعلُّم القرآن الكريم من أجلِّ القربات، وأفضل الطاعات، وأهم المهمات، وحَمَلَةُ القرآن هم أرفع الناس قَدرًا، وأشرفهم عِلمًا، وأقومهم طريقًا.
وقد حثَّ رسول الله أمَّتَه على حفظ القرآن الكريم ومدارسته، وتعلمه وتعليمه، وبيَّن فضل أهله وحَمَلته، والأحاديث في هذا الباب معلومة مشهورة.
وقد عُني المسلمون بكتاب ربهم عناية فائقة، تميَّزوا بها على مَن سبقهم من الأمم؛ حيث تنافسوا في قراءته وحفظه، وتسابقوا إلى دراسته والعمل به.
وقد ظل هذا الكتاب الكريم على مرِّ القرون - منذ نزوله إلى يومنا هذا - محفوظًا في الصدور، كما هو مكتوب في المصاحف، يأخذه اللاحق عن السابق، فالحمد لله على منَّته وفضله.
والله سبحانه وتعالى لفت النظر لأهمية تعليم القرآن وتعلمه؛ فقال - سبحانه -: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ ﴾ [الرحمن: 1 - 4].
قال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: يقول - تعالى ذِكره -: الرحمن - أيها الناس - برحمته إياكم علَّمكم القرآن، فأنعم بذلك عليكم، إذ بصَّركم به ما فيه رضا ربكم، وعرَّفكم ما فيه سخطه؛ لتطيعوه باتِّباعكم ما يرضيه عنكم، وعملكم بما أمركم به، وبتجنُّبكم ما يسخطه عليكم، فتستوجبوا بذلك جزيل ثوابه، وتنجوا من أليم عقابه.
ولنا أن نتساءل: لماذا قدَّم الله - سبحانه - تعليم القرآن على خلْق الإنسان، مع أن المشهود أن الإنسان يُخلق أولاً؟ أليست هذه إشارة إلى أن الإنسان لا يكون إنسانًا حقيقيًّا إلا إذا تعلَّم القرآن؟ "إن السلوك السويَّ للفرد لا يمكن أن يغرس وينمو في شخص لم يخالط عقلَه وقلبه القرآنُ الكريم؛ ذلك لأن القرآن يجمع عليه أمرَه في الاعتقاد، ويرسخ فيه مَلَكةَ الرقابة الذاتية في السلوك، وفي ذلك يقول البيضاوي عند تفسيره لهذه الآية: "لما كانت السورة مقصورة على تعداد النعم الدنيوية والأخروية، صدرها بـ ﴿ الرَّحْمَنُ ﴾ ، وقدَّم ما هو أصل النعم الدينية وأجلّها، وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه؛ فإنه أساس الدين، ومنشأ الشرع، وأعظم الوعظ، وأعز الكتب؛ إذ هو بإعجازه واشتماله على خلاصتها مصدِّق لنفسه، ومصداق لها، ثم أتبعه قوله: ﴿ خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ ﴾؛ إيماء بأن خلق البشر، وما يميز به عن سائر الحيوان من البيان، وهو التعبير عما في الضمير، وإفهام الغير لما أدركه؛ لتلقي الوحي، وتعرُّف الحق، وتعلُّم الشرع.
ومن هنا، فتعلُّم القرآن خيرُ ما يتعلَّمه المسلم؛ : ((خيركم مَن تعلَّم القرآن وعلَّمه)).
ومن تعلم القرآن ثم علمه لغيره، فهو خير الناس؛ فهو قد جمع بين تكميل نفسه بتعلُّم القرآن، وتكميل غيره بتعليمه القرآن، هذا ومِن لازِم تعلُّم القرآن وتعليمه للغير، حفظُه وفهمه والعمل به، فمَن حفِظَه وفهمه ولم يعمل به، فهو حُجة عليه.
ولأهمية هذا الكتاب وحاجة الأمة إليه؛ فقد أكرمنا الله به فأنزله علينا، وتكفل لنا بحفظه فقال: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].
نظرة في الواقع:
وبالنظر في الواقع المعيش للطلاب الذين ينتسبون إلى حلقات تحفيظ القرآن الكريم، نجد أن الآثار الإيجابية للقرآن تظهر بصورة أكبر على الطفل؛ لأن الطفل يسهل تشكيله وتعليمه، وكما قالوا قديمًا: "التعليم في الصغر كالنقش على الحجر". فالطفل الذي تلقَّى القرآن منذ الطفولة يمتاز في كل أحواله عن الطفل الفاقد لهذا الخير، فالقرآن يعطي قوة نفسية، ومتانة في الأخلاق، تظهر في المحن والابتلاءات.
والقرآن ينشئ العقلية العلمية الموضوعية، التي لا تقبل نتائجَ بغير مقدمات، ولا تخضع إلا للحجة والبرهان، وهو مدرسة لتعلم الفضائل السلوكية، وتجنب القبيح، وكذلك يعلِّم المرء الدراسة والتخطيط، والاهتمام بالنظر، والتفكر، والتأمل.
وفي تعلُّم القرآن للطفل فائدةٌ من جميع النواحي؛ ففي حفظه له استقامةٌ للسانه، وحفظٌ له من التلفظ بالسوء، كما يرزقه الله به فهمًا يتفرد به بين أقرانه ومَن في سنِّه، وتقوى عنده أيضًا ملَكةُ الحفظ، ويتعذر اختراق عقله بأوهام الدنيا، فيشبّ مشغولَ الذهن بالقرآن وآياته ومعانيه، وأخلاق أهله ومجالسه.
وحفظُ القرآن يساعد صاحبَه على التفوق في دراسته، ويعوِّده على نطق الألفاظ والتحدث باللغة العربية، حتى في لعبه وترويحه مع أقرانه.
والاشتغال بالقرآن الكريم يُحدِث أثرًا إيمانيًّا بالغًا لدى المعلم والمتعلم، أما عن أثره على المعلم، فالاشتغال به يؤثِّر في استقامة شخصيته، وزيادة الوازع الإيماني، فيَصِل لديه إلى الذروة الإيمانية، التي تنعكس على أدائه في العبادات، ونمطه في السلوك، وقد سبق أن وضَّحتْ كتبُ التراجم والسِّير أن البيئة لها أثرها على السلوك والتصرف في كل أمور الحياة.
أما أثره على الطالب، فنجد أن انتظامه في حلق التحفيظ يميِّزه عن غيره من أقرانه، سواء كان ذلك في دراسته، أم في بقية أحواله المعيشية، فارتباطُ الطالب بحلق التحفيظ يُحدِث لديه سلوكًا حسنًا، وسمتًا طيبًا، وكذلك يميزه في هيئته وسلوكه وأخلاقه ومعاشرته مع الآخرين، وقبل ذلك كله يحقِّق له الأثر الواضح في السلوك التعبُّدي والإيماني، الذي يستفيد منه ويتأثر به كلُّ من يتعاملون معه.
وتقول والدة عن ابنها - الذي يدرس بالصف الثاني الثانوي -: "يحفظ نجلي القرآن كاملاً، وهو يحترم إخوته الكبار، ويعاملني ووالدَه معاملةً حسنة، وقد تأثَّر بالقرآن الكريم، فهو هادئ الطبع، حَسَن الخلق، في لسانه فصاحة، وهو متفوق في دراسته، فقد أورثه القرآن حسنًا في أخلاقه، وقوةً في لغته العربية، وإتقانًا لعبادته، وحبًّا للطاعة".
وعن نظرة الأبناء في ذلك، يؤكِّد بعض الطلاب أن حفظ القرآن جعله من الأوائل في مادة اللغة العربية، وكذلك ساعَدَه على سرعة استيعاب المواد الدراسية؛ لأنه أصبح يستوعب بسهولة ويسر، وللقرآن أثر كبير في حياته؛ فبه يعامل أهله وإخوته وأصدقاءه، ثم يقول: وبه اكتسبت احترام الجميع.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه...
أما بعد فبرغم الآثار الإيجابية، والأمثلة الطيبة للقرآن في تنشئة الأطفال، فإن الكثير من الآباء والأمهات - للأسف - لا يوجِّهون أبناءهم لحفظ القرآن، ولا يستثمرون عقول أبنائهم ولا أوقاتهم في ذلك؛ بل يتركون أبناءهم يبدِّدون الأوقات هنا وهناك في اللهو والمرح، وأمام أدوات اللهو الحديثة.
ومما لا شك فيه أن أعداء الإسلام لجؤوا إلى صرف المسلمين عن دينهم، عن طريق صرفهم عن القرآن، حتى أصبحتْ صورة حامل القرآن في نظر كثير مِن الذين لا يدركون قيمته - صورةً لا يرجوها الآباء لأبنائهم! ففطن مِن المسلمين مَن فطن إلى ذلك الأمر، واتَّجه غيرهم إلى الأندية والملاعب، كوسيلة لتسلية الأبناء، وهؤلاء يَحرِمون أبناءهم وأنفسهم فوائدَ القرآن، وبركته، والتنشئة عليه، فيكون أبناؤهم - بعد ذلك - وبالاً عليهم؛ لأنهم تربَّوا بلا رادع رباني، أو مقوم إلهي.
ويجب أن يعي الآباء أن كل العلوم لا فائدة من النبوغ فيها، إلا إذا ربطها صاحبُها بالقرآن الكريم، كذلك لا بد أن يتذكَّر الآباء والأمهات قولَ الرسول : ((إذا مات الإنسان، انقطع عنه عمله إلا من ثلاث))، ومن هذه الثلاث: ((أو لد صالح يدعو له)).
وهذا شرف عظيم يناله مَن حَمَل ابنُه القرآنَ، ولا بد من أن يعي ذلك المحفِّظون والمعلمون.
ودور الأم كذلك مهم في توجيه أطفالها لحفظ القرآن؛ فعلى الأم تشجيعُ ابنها على حفظ القرآن، والذهاب للمسجد، وتحبيبه في كتاب الله وتلاوته بالأحكام، وأن ترغبه في حفظه بهدايا وجوائزَ نافعةٍ، وبكافة وسائل الترغيب.
وكثير من النساء ظهر لهن دور بارز في توجيه أبنائهن نحو الاهتمام بالقرآن الكريم وتعلُّم علومه، ولم يغفل التاريخ دورَ والدة الإمام الشافعي في هذا المجال، وتوجيهها له، وحثه على الترحال والتنقل؛ طلبًا لإتقان حفظ القرآن وتلقي علومه، وما أقسام النساء في جمعيات تحفيظ القرآن الكريم، التي تنتشر في كل مكان في هذا البلد الطيب - المملكة العربية السعودية - ببعيد عن الأذهان، وما مكاتب التحفيظ الخاصة بالنساء في البلاد العربية والإسلامية، ببعيد عنا.
عباد الله: وحاجتنا إلى القرآن دائمًا ضرورية وملحَّة، وتتأكد تلك الحاجة في هذا العصر الذي ضعُف فيه الوازع الإيماني عند كثير من الناس، فلهثوا وراء المترفات حلالها وحرامها، ومن هنا نحتاج إلى ما يقوي هذا الوازعَ ويجدِّده، وأفضلُ منبع مستمر ومتجدد للإيمان هو القرآن؛ يقول تعالى: ﴿ إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2].
فالقرآن له تأثيرات عجيبة على استثارة المشاعر، والسيطرة عليها، وتوجيهها لله - عز وجل - وليس ذلك فحسب؛ بل إن للقرآن خاصيةً عجيبة لا توجد في غيره، وهي قدرته على جعل مَن يتعامل معه بطريقة صحيحة في حالة دائمة من الهمَّة والنشاط، والتوقد والإيجابية، وذلك من خلال توليده المستمر للطاقة داخل نفس صاحبه كلما قرأ وتجاوب معه، وتأثرت به مشاعره، هذه الطاقة ستدفعه ليصرفها في أعمال البر المختلفة.
وتتأكَّد حاجتنا إلى القرآن الكريم، حينما ندرك يقينًا أن القرآن له دور كبير في علاج أمراض القلوب، وعلى رأسها مرض العُجب، وما يُحدِثه هذا المرض في نفس الإنسان مِن تعاظم واستعظام على الآخرين؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 57].
ويعرفنا القرآن كذلك بطبيعة النفس، وبأنها أمَّارة بالسوء، لديها قابليةُ للفجور والطغيان، تحب الاستئثار بكل خير، ولا تنظر للعواقب.
وعليه؛ فضروري أن يعود المسلم إلى القيمة الحقيقية للقرآن ﴿ إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9].
هذا هو دور القرآن الحقيقي، وما قراءتُه أو حفظه إلا وسائلُ لتيسير الانتفاع بمعجزته، ومعنى ذلك أنه ينبغي على جيلنا الحالي - إذا كان يريد نصرًا وتمكينًا - أن يُقبِل على القرآن بكيانه، وأن يفرِّغ له أكبر وقت لديه، وينشغل به، ومما يعينه على ذلك أن يخصص له وقتًا كل يوم، وأن يقرأه في مكان هادئ بعيدًا عن الضوضاء؛ لتحسن استفادته منه، والتعبير عن مشاعره تجاه الآيات بالبكاء والدعاء، وعليه كذلك أن يهيئ قلبه وفكره للتلاوة بتذكر الموت والآخرة؛ فقد قال تعالى: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45].
وقد أدرك سلفُ الأمة هذا الدورَ للقرآن والحاجة إليه، فكانوا يتعاهدون القرآن الكريم علمًا، وتعلُّمًا، وتعليمًا، وكانت لهم في ذلك عناية ورعاية خاصة، ومما يدل على ذلك ما ورد عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن كل مؤدب يحب أن يُؤتى أدبه، وإن أدب الله تبارك وتعالى القرآن.
وعن الأعمش قال: مرَّ أعرابي بعبدالله بن مسعود رضي الله عنه وهو يُقرئ قومًا القرآنَ، أو قال: وعنده قوم يتعلَّمون القرآن، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ فقال ابن مسعود: يقتسمون ميراث محمد .
وورد أيضًا عن عمرو بن قيس السكوتي، قال: سمعت عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يقول: عليكم بالقرآن، فتعلَّموه وعلِّموه أبناءكم؛ فإنكم عنه تسألون، وبه تجزون، وكفى به واعظًا لمن عقَل.
ويقولُ كعب الأحبار: عليكم بالقرآن؛ فإنه فهم العقل، ونور الحكمة، وينابيع العلم، وأحدثُ الكتبِ بالرحمن عهدًا، وقال في التوراة: يا محمد، إني منزل عليك توراة حديثة، تفتح بها أعينًا عميًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلفًا.