الدعاة والخطباء في مواجهة غزو المصطلحات .أ.شريف عبد العزيز
الفريق العلمي
تخوض أمتنا الإسلامية معركة حاسمة في جميع مجالات الحياة، معركة وجودية مع خصومها الذين ليس لهم همّ ولا هدف سوى محو الأمة المحمدية من الوجود، وذلك باستهداف عقيدتها وهويتها وخصوصيتها وثقافتها، حيث تستعمل في هذه المعركة كل أنواع الأسلحة الفتاكة، التي تهدف إلى بلبلة الأفكار، وإشاعة الفوضى والانحلال، والانسلاخ من العقيدة والتراث والتاريخ، والإتيان على بنيان هذه الأمة من القواعد.
ومن أخطر هذه الأسلحة، سلاح المصطلحات والشعارات، الذي طرحه خصوم الأمة وأعداؤها التاريخيون للتداول في عالمنا الإسلامي مع بدء الغزو الفكري، ولم يمضِ كبير وقت، حتى شاعت هذه المصطلحات وذاعت بعد أن رددتها وسائل الإعلام، وعممتها الصحف والمجلات، وأقحمت في صلب المناهج والكتب الدراسية وأصبحت اليوم عملة دارجة، تطالعك بها الأغاني الشعبية، وأحاديث الدهماء، فضلا عن أنصاف المتعلمين والمثقفين، الذين يلهجون بذكرها.
وتأتي خطورة هذه المصطلحات والشعارات، من أن كل مصطلح أو شعار، مرتبط ارتباطا وثيقا بشجرته الفكرية التي يمثلها، ويتغذى منها، ويعيش عليها، وبالتالي فهو حينما يطرح للتداول في مجتمع جديد، لا بد أن يحمل معه رصيده وفلسفته وتاريخه ولا بد أن يلقي بظلاله وإيحاءاته وقيمه في هذا المجتمع المراد غزوه، ومن هنا كانت خطورة حرب المصطلحات على الأمة الإسلامية، إذ غدت حمّالة الدخيل والمستورد في عقول وعلوم المسلمين.
وغزو المصطلحات، ليست جديداً، ولا غريباً عن أذهان البشر، في القديم أو الحديث؛ فقد مارسها أعداء الرسل والدعوات عبر العصور في مقاومة دعوات الأنبياء، وكانت ثمة قواسم مشتركة ومصطلحات رائجة في المواجهة بين الحق والباطل، من أشهرها:
مصطلح أساطير الأولين: ويعني ما كان يسطّره القدماء من خرافات وقصص وهمية، فقلّما أُرسل رسول إلى قومه ولم يجابه بمثل هذا المصطلح لإخماد دعوته بالتهوين من شأنها.
ومنها أيضا مصطلح الفساد، وهو المصطلح الذي واجه به فرعون لعنه الله دعوة موسى -عليه السلام-، قال تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ)[غافر: 26].
أهمية المصطلحات في خصوصية الأمة
يُشكل المصطلح الإسلامي أحد الرموز الثقافية المهمة الدالة على خصوصية الإمة الإسلامية. وهو أحد المكونات الأساسية لهويتها الحضارية، فمعرفة معاني المصطلحات ييسر الوقوف على مراد المتكلم، ويجنب الوقوع في الخلاف والشقاق المتوهم الذي لا حقيقة له، ويختصر لك المسافة الطويلة في الفهم وإدراك المعنى. فالمصطلحات ضرورة علمية، ووسيلة مهمة من وسائل التعليم ونقل المعلومات، وقد أصبحت لضرورتها تمثل جزءاً مهماً في المناهج العلمية، مساعدة على حسن الأداء، ودقة الدلالة، وسرعة الاستحضار، وتقريب المسافة، وتوفير المجهود في الإلمام بالمتون. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان أهمية معرفة المراد بالمصطلح والوقوف عليه: "فإن من قرأ كتب النحو أو الطب أو غيرهما لا بد أن يعرف مراد اصحابها بتلك الأسماء ويعرف مرادهم بالكلام المؤلف وكذلك من قرأ كتب الفقه والكلام والفلسفة وغير ذلك وهذه الحدود معرفتها من الدين في كل لفظ هو في كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله ثم قد تكون معرفتها فرض عين، وقد تكون فرض كفاية، ولهذا ذم الله -تعالى- من لم يعرف هذه الحدود".
وصحيح أن كثيراً من المصطلحات حمّالة أوجه، لذلك العبرة بالمضامين والمقاصد، لكن ذلك لا ينافي أهمية الاصطلاح ولا يقلل من خطره، وأنه ليس في كل حين تصدق قاعدة " لا مشاحة في الاصطلاح "، خاصة إذا كان المراد هو تبديل المسميات الأصيلة من ديننا بأخرى مُغرِضة. ذلك فالمصطلحات والألفاظ ليست بريئة من الخلفيات الحضارية والمذهبية ولا استعمالها بالأمر الهين في أمور الثقافات والعلوم عموما وفي أمور الدين بصفة خاصة.
وتتضح أهمية تحرير المصطلحات من إرشاد الله -تعالى- الصحابة أن يتحروا في خطابهم للرسول ألفاظاً متخيرة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا)[البقرة: 104].
فإن لفظة "راعنا" أصيلة في اللغة العربية من مادة "رعي" بمعنى الحفظ والمراعاة والإمهال، وهو نفس معنى "انْظُرنا" أي أمهلنا، فلماذا نهى الله المؤمنين عن استعماله، ولم يُكتَفَى في السياق بحسن النوايا أو عدم الاختلاف في المسميات؟ "ذلك أن اليهود استخدموه بنية فاسدة، فأحب الله لعباده أن يتمايزوا عن أهل الباطل حتى وإن كان للكلمة معنى صحيح، فالمسلم مميز بعقيدته وبمظهره وبكلامه لأنه من خير أمة أخرجت للناس.
ماذا نعني بغزو المصطلحات؟!
غزو المصطلحات أحد تجليات الغزوة الكبرى في القرن العشرين، ونعني بها الغزو الفكري. وهو داء عضال يفتك بالأمم، ويُذهب شخصيتها، ويزيل معاني الأصالة والقوة فيها، والأمة التي تبتلى به لا تشعر بما أصابها، ولا تدري عنه؛ ولذلك يصبح علاجها أمراً صعباً، وإفهامها سبيل الرشد شيئاً عسيراً. ومن أخطر أنواع الغزو الفكري وأشده فتكاً في مجال الصراع هو قذف الأمة الإسلامية بالمصطلحات الغازية المدمرة مع ما تحمله من المعاني الخطيرة المصحوبة به.
غزو المصطلحات هو أن يَعمد أعداء الله إلى أمر من أمور الإسلام ذات الحقائق المحددة، والمسميات المبينة، والأسماء المنضبطة فيضعون لها اسمًا مزيفاً منفراً، يقلب صورة حقيقتها في الأذهان، ويصيرها مطبوعة بطابع تشمئز منه النفوس، وتنفر لدى سماعه القلوب. أو أن يقصدوا شيئًا من القبائح التي نهى الشارع عنها، ومقتها وبيَّن حكمها، ونَفَّر وحذَّر منها، وأظهر أضرارها ومفاسدها؛ فيخترعون لها مصطلحاً جذاباً متألقاً، يُزيِّنونها به، ويُرغِّبون فيها بواسطته؛ لتدنو منه النفوس بالتدريج، وتستأنس به الأفئدة وتألفه، وتميل نحوه القلوب، وتقل درجة النفرة بينها وبين تلك القبائح شيئاً فشيئاً، حتى تتلاشى، فيسهُل على النفس بعدها اقتحامها والعَبُّ منها دون شعور بالحرج، بل تستطيبها مع الأيام، وتطمئن لها لطول الإلف، وتوثيق الصلة.
هذا النمط الخبيث من الحروب إذا لم ينتبه إليه المسلمون ويحذر منه الدعاة والخطباء والمصلحون ويواجهونه بكل حسم، فإنه سيؤدي حتماً إلى قلب كثير من الحقائق الشرعية في أذهان الناس، ومن ثَم في واقعهم، وسينقلب من ورائه الحق باطلاً والباطل حقّاً، والمنكر معروفاً والمعروف منكراً، والمصلح مفسداً والمفسد مصلحاً، وسيقود إلى فتح أبواب عريضة من الشر المستطير، وكلما استمرت الأيام ازداد شرها، وظهر أثرها، وتضاعف تأثيرها، وعَسُر إغلاقها وعلاجها، إلا بجهد متواصل وعمل دؤوب مضاعف، لا سيما مع تكفُّل وسائل الإعلام المتنوعة ذات الصِّيت العالي بالقيام بهذه المهمة، والتي يقوم كثير منها أو معظمها على حرب الله ورسوله.
قال الشيخ بكر أبو زيد: "فإن من ينابذ أسماء الشريعة ومصطلحاتها، مستبدلاً لها بمصطلحات وافدة من أمم الكفر والعدوان، فهو على خطر عظيم ولا يبرر صنيعه حسن نيته، فليتق الله أقوام خذلوا أمتهم: أمة القرآن، تحت شعارات زائفة من التطور والحضارة، والرقي والتقدم والمرونة ومراعاة روح العصر، ومسايرة الركب، وأن هذه أسماء، والأسماء لا تغير الحقائق، فهي قشور، والمقصود سلامة اللباب، إلى غير ذلك من شعارات التذويب، والتهالك، وما يزالون حتى يخرجون من اللباب كما خرجوا من القشور – على حد قولهم – نسأل الله العافية وحسن العاقبة".
نماذج من غزو المصطلحات
ومن أمثلة غزو المصطلحات كثيرة الرواج في هذه الأيام أن الربا أصبح فوائد وعوائد، والزنا غدا حرية التصرف في الجسد، والتهتُّك والخَلاعة والاختلاط أصبحت تقدماً وحضارة ومواكبة للعصر، والأغاني الماجنة والمسلسلات الفاضحة والمسرحيات الدنيئة المتهتكة القاتلة للغيرة والمحرضة على الفواحش كل هذا من الفن، والقائمون عليه فنانون ونجوم، والملابس الكاسية العارية إنما هي أزياء وموضات، والخمور بأنواعها وأشكالها هي مشروبات روحية أو كحولية. ولقد صدق رسولنا -صلى الله عليه وسلم- إذ قال:" ليشرب أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها"(رواه أحمد وأبو داود).
ومن الأمثلة -أيضا- وصف تطبيق الشريعة بالرجعية والتخلف والتحجر، ووصف الدعوة إلى الإلحاد والطعن في العقائد والثوابت بحرية التعبير والفكر المنفتح، وإفراغ الألفاظ من معانيها ومَسخها، وتفسيرها تفسيراً باطنيّاً مُغرضاً هداماً، لُقِّب بالحداثة. وحرب الإسلام علانية، وتتبُّع أهله المستمسكين به، والتنكيل بهم، وعقْد الاتفاقات لتقويضهم ومطاردتهم، وبذْل الأموال الطائلة بسَخاءٍ لاقتفاء آثارهم، أصبح حرباً للإرهاب والتطرف، وحماية للأوطان من خطرهم، وصوناً لها، وللشعوب من شرهم. وأصبح بيع الأراضي والتفريط في المقدسات والانبطاح التام أمام الأعداء، واللهث الدائم لتلبية رغباتهم، والتنافس في تقديم متطلباتهم، والاستسلام المخزي لهم – كل ذلك صار سلاماً، وأصبح موالاة أعداء الله وخصوم الأمة من الكافرين والمجرمين تطبيعاً وشراكة.
ومن المصطلحات الغازية لساحتنا الثقافية هذه الأيام؛ مصطلح "الآخر". وهو مصطلح وافد غربي المولد والنشأة يراد منه تمييع قضية الولاء والبراء والقضاء على الفوارق بين المسلمين وغيرهم. وهو مصطلح فضفاض مائع كما أراده صانعوه لتمييع المفاهيم، يقول الدكتور عايض الدوسري: "مصطلح الآخر مصطلح وُلِدَ في الغرب، وكان وجوده هناك مسبوقًا بوجود مصطلح "الأنا" لأن الغرب يرى أنه هو "الأنا" وهو مركز الكون والحضارات، وبقية العالم تُسَمَّى "الآخر"، فنشأ ذلك المصطلح كدلالة على الاستعلاء الغربي تجاه الآخرين، وأصبح العالم يُرى من قِبَلِ زاوية "الأنا" الغربية كالآخر!".
ومن أشهر المصطلحات الغازية لمجتمعاتنا المسلمة؛ مصطلح وحدة الأديان والزمالة الإنسانية، وهو يعني: اعتبار الرسالات الثلاثة –اليهودية والنصرانية والإسلام– بمثابة المذاهب الفقهية الأربعة، والتي يجوز أن يتعبد بأيّن منها على السواء، وأنه لا فرق بينهما، مادام أن الجميع مؤمنون بوجود الله. وهي كما يصورها البعض، بأنها مسألة رياضية تحل بأربع طرق والنتيجة واحدة. وقد جُعل لهذه الدعوة الخبيثة، شعارات برّاقة مزخرفة، لتضليل الناس عن الحقائق وخداعهم بها. ومن هذه الشعارات: الإخاء الديني، الصداقة الإسلامية المسيحية، الدين الإبراهيمي، مؤمنون بلا حدود، الديانة العالمية، وحدة الكتب السماوية.
واجب الدعاة والخطباء تجاه غزو المصطلحات
الدعاة والخطباء وأرباب المنابر عليهم واجب كبير في التصدي لهذه المصطلحات الغازية وهذه الحرب الشعواء التي تستهدف مقدسات الأمة وثوابتها وعقائدها وخصوصيتها وهويتها، فهم أكثر الناس اتصالاً بالمجتمعات وتأثيراً فيها، وهم بمثابة الموجه والمعلم والمرشد والمنقذ من الضلال والحامي من الشبهات والمدافع عن الأصول والثوابت، ويتضح دور الدعاة والخطباء من خلال عدة نقاط:
1 -ضرورة المحافظة على المصطلحات الشرعية، والاحتفاظ بمدلولاتها، والعمل على وضوح هذه المدلولات في ذهن الجيل الناشئ، لأن هذه المصطلحات هي نقاط الارتكاز الحضارية والمعالم الفكرية التي تحدد هوية الأمة بما لها من رصيد نفسي ودلالات فكرية، وتطبيقات تاريخية مأمونة، إنها أوعية النقل الثقافي وأقنية التواصل الحضاري، وعدم تحديدها ووضوحها يؤديان إلى لون من التسطيح الخطير في الشخصية المسلمة والتقطيع لصورة تواصلها الحضاري.
2 -تحري استعمال المصطلحات الإسلامية وأن يزن الخطيب كل كلمة بالميزان الشرعي، هذا إذا أردنا إقامة البشرية على المنهج الرباني لا إقامة خليط من هذه المناهج والمفاهيم المتضادة، وأن نعلم أنه لا التقاء بين الحق والباطل ولا بين الهدى والضلال.
3 -كشف وتوضيح المعاني الفاسدة التي تحملها هذه المصطلحات الغازية أما الرأي العام في الصحف والمجلات وعبر وسائل الإعلام المختلفة، والقيام بحملات توعوية للناس عن مدى خطر التساهل في استخدام المصطلحات الغازية ومدى جنايتهم على الشريعة الإسلامية، مع وضع قائمة بأهم المصطلحات الغازية وما تحمله في طياتها من المعاني الفاسدة، ووضع مقابلها المصطلحات الصحيحة الواجب تداولها، ونشرها في جميع أوساط المجتمع.