الدعاء والعشر الأواخر

الدعاء والعشر الأواخر
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَفُوِّ الْغَفَّارِ، الْعَزِيزِ الْجَبَّارِ، الْكَرِيمِ الْوَهَّابِ؛ خَلَقَ عِبَادَهُ وَلَمْ يَكُونُوا شَيْئًا مَذْكُورًا، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ التَّائِبِينَ، وَنَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ رَبٌّ رَحِيمٌ، وَجَوَادٌ كَرِيمٌ، وَإِلَهٌ عَظِيمٌ؛ ؛ فَسُبْحَانَهُ مِنْ رَبٍّ عَظِيمٍ كَرِيمٍ رَحِيمٍ لَوْلَاهُ سُبْحَانَهُ لَمَا كُنَّا، وَلَوْلَاهُ سُبْحَانَهُ مَا صَلَّيْنَا وَلَا صُمْنَا وَلَا قُمْنَا، وَلَوْلَاهُ سُبْحَانَهُ لَمَا عَرَفْنَاهُ، وَلَوْلَاهُ سُبْحَانَهُ لَمَا عَبَدْنَاهُ؛ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِلْإِيمَانِ وَالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ ﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ إِمَامُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَرَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ،صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِي نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ -عِبَادَ اللَّهِ- بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَبِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي الْفَاضِلَةِ؛ فَلْنَأْخُذْ مِنْهَا حَظَّنَا، وَلْنَعْبُدْ فِيهَا رَبَّنَا، وَلْنَقْضِهَا قَائِمِينَ قَانِتِينَ رَاكِعِينَ سَاجِدِينَ قَارِئِينَ دَاعِينَ مُتَضَرِّعِينَ خَاشِعِينَ، مُنْكَسِرِينَ لِلَّهِ تَعَالَى، رَاجِينَ رَحْمَتَهُ، مُحَاذِرِينَ نِقْمَتَهُ، مُحْسِنِينَ الظَّنَّ بِهِ سُبْحَانَهُ، لَا نَظُنُّ إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُعْطِينَا سُؤْلَنَا، وَيَجْزِينَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمِلْنَا؛ لِقُوَّتِهِ سُبْحَانَهُ وَضَعْفِنَا، وَكَرَمِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحَاجَتِنَا؛ وَلِمَا عَوَّدَنَا سُبْحَانَهُ مِنْ كِرِيمِ عَوَائِدِهِ؛ وَلِمَا وَعَدَنَا وَرَبُّنَا لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ؛ فَلْنُرِ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ أَنْفُسِنَا خَيْرًا؛ فَلَا نُبَارِحُ مَسَاجِدَنَا، وَلَا نُفَارِقُ مَصَاحِفَنَا، وَلْنُكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ فِي لَيَالِي الدُّعَاءِ؛ فَإِنَّ رَبَّنَا سُبْحَانَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبٌ ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبَ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾
أيها المؤمنون:إن الدعاء من أجلِّ العبادات؛ بل هو العبادة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذلك لأن فيه من ذلِّ السؤال، وذلِّ الحاجة، والافتقار لله تعالى، والتضرع له، والانكسار بين يديه، ما يظهر حقيقة العبودية لله تعالى؛ ولذلك كان أكرم شيء على الله تعالى كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «ليس شيءٌ أكرم على الله من الدعاء» صححه الحاكم وابن حبان والذهبي
والله تعالى يعطي عبده على قدر ظنه به، فإن ظن أن ربه غني كريم جواد، وأيقن بأنه تعالى لا يخيّب من دعاه ورجاه، مع التزامه بآداب الدعاء أعطاه الله تعالى كلَّ ما سأل وزيادة، ومن ظن بالله غير ذلك فبئس ما ظن، يقول الله تعالى في الحديث القدسي «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني» متفق عليه
ومهما أكثر العبدُ من الدعاء فخزائن الله أكثر، وعطاؤه أكثر، وهو تعالى أكرم، يقول النبي عليه الصلاة والسلام «ما على وجه الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله تعالى إياها أو صرف عنه من السوء مثلها مالم يدع بإثم أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم: فإذن نكثر، قال: الله أكثر» صححه الترمذي والحاكم ، فالله تعالى أكثر إجابة، وأكثر عطاءً
ومع أن الله تعالى خلق عبده ورزقه، وأنعم عليه وهو غني عنه؛ فإنه تعالى يستحيي أن يرده خائباً إذا دعاه، وهذا غاية الكرم، والله تعالى أكرم الأكرمين• روى سلمانُ رضي الله عنه فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله حييٌّ كريم يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خاليتين» حسنه الترمذي وصححه الحاكم وابن حبان
فعليكم عبادالله بالدعاء فإنه والله لا ينفع ولا يضر إلا الله تعالى (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) سقطت كل الآلهة، وتلاشت كل المعبودات وما بقي إلا الله تعالى (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)
لا يسمع دعاء الغريق في لجة البحر إلا الله• ولا يسمع تضرع الساجد في خلوته إلا الله• ولا يسمع نجوى الموتور المظلوم وعبراتُه تتردد في صدره، وصوته يتحشرج في جوفه إلا الله• ولا يرى عبرة الخاشع في زاويته والليل قد أسدل ستاره إلا الله (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى(7) اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى(8))
يغضب إذا لم يُسأل، ويحب كثرة الإلحاح والتضرع، ويجيب دعوة المضطر إذا دعاه، ويكشف كرب المكروب إذا سأله (أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» متفق عليه

الله أكبر، فضلٌ عظيم، وثواب جزيل من رب رحيم، فهل يليق بعد هذا أن يسأل السائلون سواه؟ وأن يلوذ اللائذون بغير حماه؟ وأن يطلب العبادُ حاجاتهم من غيره؟ أيسألون عبيداً مثلهم، ويتركون خالقهم؟! أيلجؤون إلى ضعفاء عاجزين، ويتحولون عن القوي القاهر القادر؟! هذا لا يليق بمن تشرف بالعبودية لله تعالى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تُسدَّ فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل» صححه الترمذي والحاكم
عباد الله : أكثروا من الدعاء في هذه الأيام المباركة، وأخلصوا لله تعالى في دعائكم وأعمالكم (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ(55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ(56))
قال الحسن: « لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم وذلك أن الله يقول (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) وذلك أن الله تعالى ذكر عبداً صالحاً رضي فعله فقال (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) وقال ابن جريج: يكره رفعُ الصوت والنداءُ والصياحُ في الدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة» فادعوا ربكم بتضرع وذل وخشوع ادعوه بما في الكتاب والسنة وإياكم والتكلف والتطريب أو الاعتداء في الدعاء



الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَجِدُّوا وَاجْتَهِدُوا فِي هَذِهِ اللَّيَالِي الْمُبَارَكَةِ الَّتِي فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [الْقَدْرِ: 2 - 5]، «مَنْ قَامَهَا إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» فَالْمُوَفَّقُ مَنْ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي، وَالْمَحْرُومُ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا.
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ».
فَأَرُوا اللَّهَ تَعَالَى مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيْرًا، وَكُونُوا حَيْثُ يُحِبُّ، وَاجْتَنِبُوا مَا يَكْرَهُ، وَاصْطَبِرُوا عَلَى الطَّاعَاتِ، وَتَلَذَّذُوا بِالْقِيَامِ وَبِالْقُرْآنِ، وَأَلِحُّوا فِي الدُّعَاءِ، وَأَحْسِنُوا الظَّنَّ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَلَا تَظُنُّوا بِهِ سُبْحَانَهُ إِلَّا أَنَّهُ يَقْبَلُ مِنْكُمْ، وَيَسْتَجِيبُ دُعَاءَكُمْ، وَيُعْطِيكُمْ سُؤْلَكُمْ؛ فَإِنَّ رَبَّكُمْ جَوَادٌ كَرِيمٌ، وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ، عَظِيمُ الْعَطَاءِ، لَا يَتَعَاظَمُ شَيْئًا أَعْطَاهُ، وَقَدْ خَاطَبَكُمْ سُبْحَانَهُ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ فَقَالَ: «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ».
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...



هذه خطبة جمعتها من بعض خطب الشيخ الموفق إبراهيم الحقيل
المشاهدات 717 | التعليقات 0