الدعاء وأثره في كشف البلاء

د. منصور الصقعوب
1441/10/22 - 2020/06/14 17:31PM

الخطبة الأولى                    

الحمد لله العالم بالبواطن والجليات, المطّلع على مكنون الصدور والخفيات, يعلم السرّ وأخفى ويكشف الضر والبلوى, الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهدت له بالربوبية جميع الموجودات, وأذعن له بالألوهية خلاصة المخلوقات, واتصف سبحانه بأكمل الصفات.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل الرسل وسيد البريات, اللهم صل وسلم عليه وعلى أصحابه أهل السرائر الصافيات, وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

حينما تتأزم الأمور وتنغلق الأبواب وتتعذر الأحوال وتنقطع السبل فلا ملجأ للعبد, ولا مفرّ للمرء, ولا ملاذ للمؤمن إلا إلى الله وبالله, ومَن غير الله؟

مَنْ غيرُ الله يفرّج الكربات ويكشف البليات؟

من غير الله يجيب الدعوات ويغيث اللهفات؟

مَن رأى تقليبَ اللهِ الأمورَ, وتصريف الخلائق, عرف وأيقن أنه لا عزيز حقٌ إلا الله, ولا قادرَ إلا هو, ولا رب إلا هو, وأنه بقدر ذُلِّك لله وقربك منه وانطراحك بين يديه بقدر ما ترتفع وتعلو, ولا فرق أمام الذلّ لله بين أمير ومأمور, وغني وفقير, فالجميع ولو مَلَكْ, محتاج للرب الخالق الملِك.

سعى رجلٌ بحاجته إلى وزير فأحاله على الأمير, فاعتذر الأمير بأن مطلبه لا يقدر عليه إلا السلطان, وما زال بالحيل حتى وصل بلاط السلطان, وحين وصل إلى حضرته رآه ماداً يديه إلى الله يدعو, فلام الرجل نفسه وقال أين أنا من الذي يسأله الملك وهو إلي قريب لا يحتاج إلى الوسيط.

نعم إنه بابٌ لا يحتاج إلى وساطات, بل هو مفتوح لكل من سأل, كم من عبد أَضناه الهم وأقعده المرض وحار الطب في علاجه وعجز البشر عن رفع بلاءه, فرفع يديه إلى الكريم, وتوجه إلى الذي يقول للشيء كن فيكون فجاء الشفاء وارتفع البلاء.

أيوب ; مسه الضر, وذهب عنه الصحة والمال والولد, ولما طال البلاء رفع يديه إلى رب السماء, ولم يصرح بالسؤال, بل عرّض وقال (أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين) وإذا بالشفاء من الله يأتيه, بعدما ظن أن الموت أقرب إليه.

سلوا ذلك الذي ضاقت عليه الأرض بما رحبت, ولم يبق له إلا باب السماء, سيبنبيكم أن البلاء كُشِف, والخيرَ نزل, عبر بوابة الدعاء, حين توجه ودعى من لا يخيّب من رجى.

ومن ينسى نبي الله يونس, حين كان في ظلمة الليل وبطن الحوت وأعماق البحر يعاني الشدائد, فرُفِعت الدعوات وتوجهت الكلمات إلى الذي يسمع خفي الأصوات (وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه....)

إنه الدعاء روح العبادة ومرضاة الرحمن وملاذ الإنسان ولبّ الدين, ومن يستغني عن الله طرفة عين, من الذي يستغني عن الغني, ومن الذي لا يحتاج إلى من بيده قضاء الحوائج؟

يا من تعلقت بالمخلوق إن المخلوق لو سألت وكررت لملّ وضجر وغضب وردّ, والله يغضب إن تركت سؤاله, ولا تغلق أبوابه دون مسألة وحاجة.

إن المخلوق لو سألته لاستحييت, والله يستحي إذا رفع العبد إليه يديه أن يردها صفراً.

إن المخلوق لو أعطاك فربما منّ بعطاءه, والله يعطي بلا مِنَّة.

إن المخلوق لو سألته فإنما تسأل فقيراً مثلك, محتاجاً لربه, ويوشك ما عنده أن ينفد, وما عند الله باقٍ لا ينفد, فهل يليق بعبدٍ أن يطرق كل باب وينسى الباب الذي لا يوصد؟!

ما بالنا نتوجه إلى المخلوق الذي يفتح بابه يوماً ويغلق دهراً, وننسى الخالق الذي خزائنه لا تنفد, وعطاءُه لا يحدّ وبابُه لا يغلق, ويطلب من عبده أن يسأله, فما بال القلوب غفلت عن علام الغيوب؟!

دخل هشام بن عبد الملك الحرم يوماً فإذا هو بسالم بن عبد الله فقال له الخليفة سلني يا سالم, فقال إني لأستحي من الله أن أسأل في بيته غيره, ولما خرجا من الحرم قال: الآن فسلني, فقال سالم: مِن حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ فقال بل من حوائج الدنيا, فقال: والله ما سألت الدنيا من يملكها فكيف اسألها من لا يملكها.

ومن كرم الله أن الأجر موكل بالدعاء, فهو عبادةٌ به تزداد الحسنات وإن لم تجب الدعوات, وفي الحديث "ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها مالم يدع بإثم أو قطيعة رحم فقال رجل من القوم إذا نكثر, فقال الله أكثر" فإن أُجِبت فذاك غاية المرام, وإن لم تُجَب فهو مدخر عندي ذي الجلال والإكرام, فارفع إلى ربك اليدين, فما خاب من دعا الله, وهنيئاً لمن فُتِح له بابُ الدعاء, وتلذذ بمناجاة رب السماء, وعرف الله في الرخاء فعرفه في البلاء.

اللهم صل على محمد

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:

أيها المبارك: وإذا أردت الدعاء فتحر أوقات الإجابة وتأدب في دعائك وأحضر فيه قلبك وتخلص من مظالمك وأطب قبل ذلك مطعمك, وأحسن الظن والرجاء بربك, وألح في مسألتك, فمن تحرى كل هذا فما أقرب الإجابة منه.

ولا تستعجل الإجابة فَرُبَّ تأخيرٍ من الله لحاجتك فيه خيرك وصلاحك, في دينك ودنياك, فكِل الأمور إلى من بيده مقاليد الأمور, وفي الصحيح« يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ فَيَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ رَبِّى فَلَمْ يَسْتَجِبْ لِى " وقد أجاب الله دعوة موسى وهارون بهلال فرعون بعد سنين من قوله ( قد أجيبت دعوتكما)

وإن لم تر الإجابة بعد ذلك فاذكر أن الله لا تعجزه إجابتك ولكنه ربما كان في إجابة مسألتك ضررٌ عليك, فصرف الله ذلك عنك, وفي الأثر " وإن عبدي ليطلب باباً من أبواب العبادة فأصرفه عنه من أجل أن ذلك يفسده" فإذا كان هذا في أبواب العبادة فما الشأن بمن يطلب أمراً دنيوياً قد يكون في علم الله أنه لو أعطاه ذلك لكان فيه عطبه فرحمه الله به أن لا يجيب مسألته

ولعل الله أراد بك خيراً حين أخرّ إجابتك فيزداد دعائك, وتستمر ضراعتك, وتُرَدُّ عن شرٍّ وترعوي عن إثم.

يا مسلمون: ونحن اليوم نعيش جائحة وقف الطب أمامها حائراً, فأين نحن من باب الدعاء, أين نحن من التضرع له أن يكشف البلاء, هل دعونا بصدقٍ وإلحاح, ها نحن تحرزنا فهلا يا كرام تضرعنا ولربنا دعونا ومن ذنوبنا تخلصنا.

واللهِ لن يكشف البلاء إلا الله, وكلُ الأسباب المادية والتحرزات مهمة, ولكن أساس ذلك ولبّه الدعاء والعودة لله, والبلاء قد يأتي من الله يريد منا أن نتضرع, فغبنٌ والله أن نغفل عن ذلك, وفي التنزيل (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعنا).

وبعد أيها المسلمون: فإن المحروم من حرم الدعاء, وإن السماء على ارتفاع سقفها لا تمنع وصول الدعاء ولو خفي موطنه وخفت صوته, وقد قيل للإمام أحمد: كم بيننا وبين السماء؟ فقال: دعوة صادقة, فيا طالب الحاجات ابدأ من باب الدعاء, واذكر قول رب الأرض والسماء ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء )

 

المشاهدات 2054 | التعليقات 0