الدعاء من أعظم الأمور التي يستنزل بها المطر
فهد الجمعة
الحمد لله، مغيثِ المستغيثين، ومجيبِ دعوة المضطرين، وكاشفِ الكرب عن المكروبين، ورافعِ البلاء عن المستغفرين، وقابلِ توب التائبين، ومسبغِ النعم على العباد أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خشعت له الجبال الراسيات، والصخور القاسيات، وأحيا الأرض بالمطر بعد الممات، وأشهد أن نبينا محمدا خاتمُ الأنبياء وإمامُ المرسلين، وسيدُ ولدِ آدمَ أجمعين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الغر الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، فإن من اتقى الله حفظه ووقاه، ومن سأله منحه وأعطاه، ومن توكّل عليه كفاه وآواه. فأهل التقوى خير الناس {إن أكرمكم عن الله أتقاكم}
أيها المسلمون: هنالك نعمة من نعم الله، وآية من آياته جل في علاه، لا غنى للناس عنها، هي مادة حياتهم، وعنصر نمائهم، وسبب بقائهم، منها يشربون ويسقون، ويحرثون ويزرعون، ويرتوون ويأكلون، تلكم هي نعمة المطر والماء ، وآية الغيث والسقاء.
الماء أصل النماء، الفائق على الهواء والغذاء والكساء والدواء، هو عنصر الحياة وسبب البقاء، {أَفَرَءيْتُمُ ٱلْمَاء ٱلَّذِى تَشْرَبُونَ * أَءنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـٰهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} ، {وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} ، إنه لا يقدر هذه النعمة قدرها إلا من حُرمها، ولا يعرف لها حقها إلا من مُنعها.
ومن حكمته تبارك وتعالى أن لا يديم عبادهُ على حالة واحدة، بل يبتليهم بالسراء والضراء، ويتعاهدهم بالشدة والرخاء، ويمتحنهم خيراً وشراً، نعماً ونقماً، محناً ومنحا، {وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون) ومن ابتلاء الله لعباده حبسُ القطر عنهم، أو تأخيره عليهم، أو نزع بركته منهم، مع ما للمطر من المنافع العظيمة للناس والبهائم والزروع والثمار، وما في تأخيره من كثير من المضار.
إن للغيث أسباباً جالبة وأخرى مانعة، فهل سألنا أنفسنا ونحن في مواسم الغيث: هل أخذنا بأسباب نزوله، أم قد نكون نحن بأفعالنا سبباً في منعه؟
فيا عباد الله، لنحاسب أنفسنا، ألم نقصِّر في تحقيق الإيمان والتقوى؟! هل راقبنا الله في السر والنجوى؟، لقد اندرست كثير من معالم الخيرات، وقلت منا الأعمال الصالحات، وظهرت في نادينا المنكرات، وعمت في المجتمع المحرمات، ، فلم يتمعَّر منها وجه، ولم يشمئزّ منها قلب إلا من عصم الله.
عباد الله: إن ذنوبنا جسيمة، ومعاصينا عظيمة، وإن شؤم المعاصي وعواقبها وخيمة، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله : "وهل في الدنيا شرٌ وبلاء، إلا سببه الذنوب والمعاصي؟!". الذنوب يا عباد الله ما حلت في ديار إلا أهلكتها، ولا في مجتمعات إلا دمرتها، ولا في نفوس إلا أفسدتها، ولا في قلوب إلا أعمتها، ولا في أجساد إلا عذبتها، ولا في أمة إلا أذلتها، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن ما عند الله لا يستنزل إلا بالتوبة النصوح.
أيها المسلمون: لقد شكوتم إلى ربكم جدْب دياركم، وتأخر المطر عن بلادكم ، فما أحرى ذلك أن يدفعكم إلى محاسبة أنفسكم، ومراجعة أعمالكم، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} وما ابتلي المسلمون اليوم بقلة الأمطار، وغور المياه والآبار، وانتشار الجفاف والجدْب، وغلبة المجاعة والقحط، إلا بسبب الذنوب والمعاصي.
إن تشخيص الداء يحمل في طياته معرفة الدواء، فإن من الأدواء: الإعراض عن التوبة والتسويف فيها، وغفلة العباد، وقسوة قلوبهم، وضعف إيمانهم، وانتشار المعاصي بينهم، لا سيما منع الزكاة، ونقص المكاييل والموازين، يقول r: ((لم ينقُص قومٌ المكيالَ والميزانَ إلا أُخِذوا بالسنين وشدّة المؤونة وجورِ السلطانِ عليهم، ولم يمنَعوا زكاةَ أموالهم إلا مُنِعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يمطَروا)) خرَّجه البيهقي والحاكم وصحّحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما
كذلك التقصير في الدعاء والضراعة، في حين أن الاجتهاد في الدعاء من أعظم الأمور التي يستنزل بها المطر، يقول سبحانه: {أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوء}
ومثله إغفال الاستغفار الذي هو السبب العظيم في استنزال المطر من السماء، يقول تعالى عن نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ ٱلسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوٰلٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـٰتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} [قال سبحانه عن هود عليه السلام: {وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ}، واستسقى عمر رضي الله عنه فلم يزد على الاستغفار، فقيل له في ذلك، قال : (لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر) فالاستغفار ـ يا عباد الله ـ هو الدواء الناجع في حصول الغيث النافع، ولا بد في الاستغفار أن يكون صادقاً، لئلا يصدق علينا قول بعض السلف: "استغفارنا يحتاج إلى استغفار"
فلنتق الله عباد الله، وما أنزل الله بأهلِ الأرض من شدّةٍ وعناء، ولا أصَابهم من محنةٍ وبلاء إلا ليعلَم الله الذين صدَقوا ويعلمَ الكاذبين، ولينظرَ سبحانه من يُحدِث منهم توبة. وإنَّ من حكمتِه جلّ وعلا أن لا يديمَ عبادَه على حالةٍ واحدة، بل يتعهَّدهم بالشدّة والرخاء، ويبتليهم بالسرّاء والضرّاء، نعَمًا ونِقما، مِنَحا ومحَنًا، {وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}. وإنما يُخوّفنا الله بالجفاف والقحط والجدب ومنعِ القطر وشدّة المؤونة في الأرزاق لئلا نستمر في ذنوبنا ونصر على غفلتنا، فطلب الغيث ليس بمجرد القلوب الغافلة، والعقول اللاهية، وإنما يطلب الغيث بتجديد العهد مع الله، وصدق العمل بشريعة الله، وفتح صفحة جديدة من حياة الاستقامة، شعارها طاعتك اللهم ما دامت لنا في هذه الدنيا إقامة. يضافُ إلى حسنِ ظنٍ بالله شاسع، ورجاءٍ لرحمتهِ وفضلهِ واسع، فما ضاق أمرٌ إلا جعل الله منه مخرجا، وما عظم خطب إلا جعل الله معه فرجا، فمنه يكون الخوف وفيه يكون الرجا، وإن مواهب ربنا لجليلة، وعطاياه لجزيلة، بابه للسائلين مفتوح، وعطاؤه للمقبلين ممنوح، وفضله للراغبين يغدو ويروح، فاشكروه على ما أعطى، وارجعوا عن المعاصي والأخطا، وجددوا التوبة من ذنوبكم، وأصلحوا يا عباد الله ذات بينكم.
واشكروه جلّ وعلا على ما بِكم من النّعم الكثار، وأقلعوا عن الذنوب والأوزار، والجؤوا إليه بغاية الذلِّ والافتقار، فبيدِه وحدَه إنزالُ الغيث وتقدير الأرزاق على من أراد واختار، وحقِّقوا التوبةَ من ذنوبِكم بشروطِها المعروفة؛ بالنّدم على ما كان من الذنوب وسلف، والإقلاع عنها ولإتباعها بصالح الخلف، والعزم على عدم العَود إليها ففي ذلك العطب والتلف. ورُدّوا المظالم إلى أهلِها، وجدِّدوا التوبةَ إلى الرحمنِ قبلَ فواتها، جرّدوا القلوبَ من الحَسد والبغضاء، وصونوا ألسنتَكم عن الفحش والغثاء، واحذَروا الولوغَ في مساخط ملك الأرض والسماء، فارفعوا قلوبكم وأيديكم إلى ربكم ومولاكم، والهجوا بالثناء عليه سبحانه، طالبين الغيث منه، راجين لفضله، مؤمِّلين لكرمه، ملحِّين عليه بإغاثة القلوب والأرواح، وسقي البلاد والعباد، فمتى علم الله إخلاصكم وصدقكم وتضرعكم، أغاث قلوبكم بالتوبة إليه، وبلدكم بإنزال المطر عليه.
أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه. فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان غفارا.
عباد الله: يسنّ في مثل هذا الموطن أن تقلبوا أرديتكم اقتداءً بفعل نبيكم، فقد حوَّل إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة يدعو ثم حول رداءه تفاؤلاً بتحويل الحال عما هي عليه من الشدة إلى الرخاء ونزول الغيث، وادعوا ربكم وأنتم موقنون بالإجابة.
وصلوا وسلموا على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً،
فأرسل السماء علينا مدراراً، وأمددنا بأموال وبنين، واجعل لنا جنات واجعل لنا أنهاراً. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.