الدروس المستفادة من قصة ابني آدم

بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الله تعالى ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ﴾ إِنَّ أوَّلَ جَرِيمَةِ قَتْلٍ وَقَعَتْ فِي التَّارِيخِ بَيْن ابْنَي آدمَ لِصُلْبِه؛ إذْ قَتَلَ قابِيلُ هابِيلَ، فكان قابِيلُ هو أوَّل مَنْ سَنَّ القَتْلَ. ودافِعُ هذه الجَرِيمةِ هو الحِقْدُ والحَسَدُ، وقِلَّةُ الدِّين. وجزاءُ هذا المُجْرِمِ القاتِلِ النَّدَمُ والخُسْرانُ والنار. وقد أخْبَرَنا اللهُ تعالى عن هذه القضية، لأَخْذِ العِبْرَة والعِظَة.

﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ﴾ قُصَّ على الناس، وأَخْبِرْهُمْ بالقضية التي جَرَتْ على ابْنَي آدمَ بالحَقِّ، تِلاوَةً يَعْتَبِر بها المُعْتَبِرون ﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا﴾ في حَالِ تَقْرِيبِهِما لِلقُرْبان، فقد أَخْرَجَ كُلٌّ مِنْهُما شَيْئًا مِنْ مَالِه؛ لِقَصْدِ التَّقَرُّبِ إلى الله ﴿فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ﴾ بَأْنْ عَلِمَ ذَلِكَ بِخَبَرٍ مِنَ السَّماءِ، أو بِالعَادَةِ السَّابِقَةِ في الأُمَمِ: أَنَّ عَلامَةَ تَقَبُّلِ اللهِ لِقُرْبانٍ؛ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّماءِ فَتَحْرِقُه.

قال الابْنُ الذي لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْهُ لِلآخَرِ -حَسَدًا وبَغْيًا ﴿لأقْتُلَنَّكَ﴾ فقال له الآخَرُ -مُتَرَفِّقًا لَهُ في ذلك ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾، فَأَيُّ ذَنْبٍ لِي، وجِنَايَةٍ، تُوْجِبُ لَكَ أَنْ تَقْتُلَنِي؟ إِلاَّ أَنِّي اتَّقَيْتُ اللهَ تعالى، الذي تَقْوَاهُ وَاجِبَةٌ عَلَيَّ وعَلَيكَ، وعَلَى كُلِّ أَحَدٍ.

ثُمَّ قال له -مُخْبِرًا أنَّه لا يُرِيدُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِقَتْلِه، لا ابْتِدَاءً ولا مُدَافَعَةً ﴿ لَئِن بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ﴾ ولَيْسَ ذلك جُبْنًا مِنِّي، ولا عَجْزًا. وإنِّما لِأَنِّي ﴿أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ والذي يَخافُ اللهَ وَيَتَّقِيهِ لا يُقْدِمُ على الذُّنوب، خُصُوصًا الذُّنوبَ الكِبار. وفي هذا تَخْوِيفٌ لِمَنْ يُرِيدُ القَتْلَ؛ لِأَنَّ آثَارَهُ سَيِّئَة.

﴿إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ﴾ تَرْجِعُ ﴿بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ﴾ فإذا دَارَ الأَمْرُ بين: أَنْ أَكُونَ قَاتِلاً أو تَقْتُلَنِي؛ فَإِنِّي أُوثِرُ أَنْ تَقْتُلَنِي، فَتَبُوءَ بِالوِزْرَين ﴿فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾ فَدَلَّ هذا: على أَنَّ القَتْلَ مِنْ كَبائِرِ الذُّنوبِ، وأنَّه مُوجِبٌ لِدُخولِ النَّار. فَلَمْ يَرْتَدِعْ ذلك الجَانِي ولَمْ يَنْزَجِرْ، ولَمْ يَزَلْ يَعْزِمُ نَفْسَه ويَجْزِمُها، حتَّى طَوَّعَتْ له وزَيَّنَتْ قَتْلَ أَخِيه - الذي يَقْتَضِي الشَّرْعُ والطَّبْعُ احْتِرامَه.

﴿فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ فقد خَسِرَ أخاه عندما سَفَكَ دَمَه، وخَسِرَ والِدَيه وأهلَه حيثُ غَضِبوا عليه لِجَرِيمَتِه، وخَسِرَ مَعانِي الأُخُوَّة التي كانت تَرْبِطُه بأخيه، وخَسِرَ كُلَّ معاني الإنسانية الخَيِّرة؛ مِثْلَ الرَّحمةِ والمَوَدَّة والتَّسامُح، وخَسِرَ راحةَ نَفْسِه، واطمئنانَه وسعادتَه، وخَسِرَ حياتَه حيثُ حوَّلَها من حَياةٍ خَيِّرةٍ نافِعَةٍ إلى حياةٍ شِرِّيرةٍ ظالِمَةٍ مُعْتَدِيَة ﴿خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾.

وأَصْبَحَ أوَّلَ مَنْ سَنَّ هذه السُّنَّةَ السَّيِّئَةَ لِكُلِّ قَاتِلٍ. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا، إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ» وقال عليه الصلاة والسلام: (مَنْ سَنَّ سُنَّةَ خَيْرٍ، فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا؛ فَلَهُ أَجْرُهُ، وَمِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ، غَيْرَ مَنْقُوصٍ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا. وَمَنْ سَنَّ سُنَّةَ شَرٍّ، فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا؛ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهُ، وَمِثْلُ أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا).

فَلَمَّا قَتَلَ أخاه لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يَصْنَعُ بِه؛ لأنَّه أَوَّلُ مَيِّتٍ مَاتَ مِنْ بَنِي آدَمَ ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ﴾ يُثِيرُهَا؛ لِيَدْفِنَ غُرابًا آخَرَ مَيِّتًا ﴿لِيُرِيَهُ﴾ بِذَلِكَ ﴿كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ﴾ أي: بَدَنَهُ؛ لأنَّ بَدَنَ المَيِّتِ يَكُونُ عَوْرَةً ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾ وهكذا عَاقِبَةُ المَعاصِي؛ النَّدامَةُ والخَسَارَة.

أيها المسلمون.. قِصَّةُ ابْنَي آدمَ فيها عِظَاتٌ وعِبَر، فمن ذلك: عِظَمُ جَرِيمَةِ الحَسَدِ وما يترتب عليها من الآثار السَّيِّئة. والحَسَدُ هو داءُ الأُمَمِ، ويَدْفَعُ صاحِبَه إلى سُوءِ الظَّنِّ، والتَّجَسُّسِ، والغِيبَةِ والنَّمِيمَةِ، والتَّباغُضِ والتَّدابُر، وقد حَذَّرَنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الحَسَدِ والبَغْضَاء، فقال: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمُ: الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، هِيَ الْحَالِقَةُ، لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ» وكذلك يَدْفَعُ الحَسَدُ صاحِبَه إلى البَغْيِ والقَتْلِ؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «سَيُصِيبُ أُمَّتِي دَاءُ الْأُمَمِ» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا دَاءُ الْأُمَمِ؟ قَالَ: «الْأَشَرُ وَالْبَطَرُ، وَالتَّكَاثُرُ وَالتَّنَاجُشُ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ حَتَّى يَكُونَ الْبَغْيُ). 

ومن عِظَاتِ القِصَّة وعِبَرِها: تعظيمُ حُرْمَةِ الدِّماء، فقد كانت في الشرائِعِ السَّالِفَة عَظِيمة، وازدادتْ في هذا الدِّين حُرْمَةً، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم – في أعْظَمِ اجتماعٍ شَهِدَتْهُ البشرية: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» فالواجب على مَنْ يرجو اللهَ واليومَ الآخِرَ ألاَّ يَسْتَبَيحَ دَمَ أخيه المسلم لأدنى شُبْهَة، وأنْ يَفِرَّ بِدِينه من الفِتنِ إذا خَشِيَ أنْ يُلَوِّثَ نفسَه بدمٍ حرام. قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (يَأْتِي الْمَقْتُولُ مُتَعَلِّقًا رَأْسُهُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ، مُتَلَبِّبًا قَاتِلَهُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى، تَشْخُبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا، حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ الْعَرْشَ، فَيَقُولُ الْمَقْتُولُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ: هَذَا قَتَلَنِي، فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْقَاتِلِ: تَعِسْتَ، وُيَذْهَبُ بِهِ إِلَى النَّارِ).

وفي قولِ المَجْنِيِّ عليه مِنْ وَلَدَي آدم ﴿لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ أَدَبٌ حَسَنٌ للمؤمن عند الفتنة، أرشدَ إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ عندما سأله سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ بَيْتِي، وَبَسَطَ يَدَهُ لِيَقْتُلَنِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (كُنْ كَخَيْرِ كَابْنَيْ آدَمَ) وَتَلَا هذه الآيةَ.

أسأل الله أن يحفظنا وجميع المسلمين من كل مكروه.

 

 

الحمد لله...

معاشر المؤمنين .. إنَّ الاعتداءَ على أموالِ النَّاسِ وأعراضِهِم ودِمائِهِم من أعْظَمِ الظُّلْمِ والبَغْي، قال اللهُ تعالى ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ والبَغْيُ مَصْرَعَةٌ يَصْرَعُ أهلَه في الدُّنيا والآخِرة ﴿إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ؛ مِثْلُ الْبَغْيِ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ).

ومن العِبَرِ المُسْتَفَادَة: بيانُ ثَمَرَةِ التَّقوى، وكيف أنها سَبَبٌ لِقَبول الأعمال التي بها نَجاةُ العبد في الدنيا والآخرة؛ فإنَّ المُعَوَّلَ على القَبُول، وشَرْطُ القَبُولِ تقوى الله سبحانه، قال ابنُ عمر رضي الله عنهما: لو عَلِمْتُ أنَّ اللهَ يَقْبَلُ مِنِّي سَجْدَةً واحِدَةً، وصَدَقَةَ دِرْهَمٍ؛ لَمْ يَكُنْ غائِبٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ المَوْتِ، ثم تَلاَ ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾.

ومن العِبَرِ المُسْتَفَادَة أيضًا: عِظَمُ الابتداعِ في دِينِ اللهِ تعالى، وأنَّ مَن ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلالَةً تَحَمَّلَ وِزْرَها ووِزْرَ مَنْ عَمِلَ بها مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ، كما أنَّ مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ. والوَيلُ كُلُّ الوَيلِ لِأئِمَّةِ الشَّرِّ والفَسادِ والابْتِداعِ في دِينِ رَبِّ العباد؛ فإنَّهم يَحْمِلون أوزارَهم كامِلَةً، وأَوْزارَ مَنْ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ (أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ).

صلى الله على نبينا محمد

 

المرفقات

1693555264_قصة ابني آدم.pdf

1693555291_قصة ابني آدم.docx

المشاهدات 419 | التعليقات 0