الدار الآخرة

ياسر دحيم
1438/04/15 - 2017/01/13 04:27AM
[align=justify]
الخطبة الأولى

الحمد لله، أحمده سبحانه وأشكره على خيره المِدْرار، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحْدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسوله النبيُّ المختار، صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه المهاجرين والأنصار، والتابعين ومَن تبعهم بإحسان إلى دار القرار.

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281]

واعلموا -أيها المؤمنون- أنَّ الإيمانَ باليوم الآخر مِن أركان الإيمان بالله، اليوم الآخر جعَلَه الله نهايةً للعالم الذي نعيش فيه، فيكون فيه الحساب من الخالق سبحانه ويصير المؤمنون للجنة, بفضْل الله ورحمته، ويَخْلُد الكفار المجرمون في النار بعدله وحكمته.

يوم البعث -أيها المسلمون- يوم مشهود، تعدَّدَت أسماؤه؛ لعظيم أهواله، فهو يوم الحشر والنشور، ويوم الفَصْل والقيامة، ويوم الدِّين والحساب، يوم تَرْجف الراجفة، حين تَحِقُّ الحاقَّة، وتقع الواقعة والقارعة، وتجيء الصَّاخَّة والطامَّة، يوم الآزِفَة ذلك يوم الخروج، يوم تبلى السرائر، وتتَكَشَّف خبيئات الضمائر: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) [المدثر: 8 - 10].

حينئذٍ يكون كلُّ إنسان حَسيبَ نفْسِه، ورهين عمله: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء: 14]. تشهد عليه صحائفه، وتحكم عليه أعماله، وتنطق عليه جوارحه: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يس: 65]. (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) .

أيها الأحِبَّة: لقد حكَم الله بالفناء على أهل هذه الدار، فقال: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) والموت أول منازل الآخرة، وإذا كمل الأجَل الذي قُدِّر لكلِّ عبد واستوفاه، جاءَته رسُلُ ربِّه -عز وجل- يَنقلونه من دار الفناء إلى دار البقاء، (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ( ينعم المؤمن في قبره على حسب أعماله، ويعذَّب الفاجر فيه على حسب أعماله، ويختصُّ كلُّ عضو بعذاب يليق بجناية ذلك العضو.

فتُقْرَض شِفَاه المغتابين بمقاريض من نار. وتُسجر بالنار بطون أكلَةِ أموال اليتامى، ويُلقَم أكلَةُ الرِّبا بالحجارة، ويَسْبَحون في أنهار الدَّم، كما كانوا يَسبحون في الكسب الخبيث في الدنيا. وتُرضُّ رؤوس النائمين عن الصلاة المكتوبة بالحَجَر العظيم، ويُشَقُّ شِدْق الكذَّاب بكلاليب الحديد إلى قَفاه، كما شَقَّت كلمته النواحي. ويعلَّق الزَّواني في التنُّور المُحْمَى عليه، كل ذلك في القبر إلى يوم القيامة.

قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا" ودخل عليه الصلاة والسلام نَخْلًا لِبَنِي النَّجَّارِ، فَسَمِعَ صَوْتًا فَفَزِعَ، فَقَالَ: «مَنْ أَصْحَابُ هَذِهِ الْقُبُورِ؟» قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ: نَاسٌ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ النَّارِ، وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ» قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا".

القَبْرُ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ جَهَنَّمَ, أَوْ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ, حتى يأذن الله تعالى بنهاية العالَم وطي الدنيا، فيأمَر الله إسرافيلَ لينفَخ في الصُّور النفخة الأولى نفخة الصعق والفزع (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ(, هي نفخة هائلة مدمرة مرعبة, وكيف لا يخاف الناس؟! وهم إذا سمع صوت انفجار رعبوا, لكن في ذلك اليوم يحدث مالا يتصوره بشر, الجبال تنسف، والبحار تُسجَّر نارا، والأرض تهتز وتزلزل, والسماء تتشقق وتتمزق، والشمس تُكوَّر وتذهب, والقمر يخسف, والنجوم تنكدر ويذهب ضوؤها، وينفرط عقدها, (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) [الحاقة: 13 - 15], وتسمَّى هذه النفخة بـ (الراجفة) والنفخة الثانية نفخة البعث تأتي بعد الأولى ولذا سميت بـ (الرادفة) (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) [النازعات: 6، 7].

يقول الله عنها: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) [الأنبياء: 104]. فتشقَّقت الأرض عنهم، فإذا هم قيام ينظرون، يقول الكافرون: (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس: 52].

عباد الله: لقد حذرنا ربنا من الغفلة عن اليوم الآخر فقال: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (.
فلا تغرنكم الحياة الدنيا فإن الساعة قريبة جداً, (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) [ص: 67، 68], قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الصُّورِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ، وَحَنَى جَبْهَتَهُ وَأَصْغَى بِسَمْعِهِ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ».

فإذا بعث الناس من قبورهم فإنهم يُساقون إلى المَحْشر حُفاةً عراةً غرلاً بُهمًا، وهم بَين مسرورٍ ومثبورٍ، وضاحكٍ وباكٍ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ) [عبس: 38 - 41]. (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين: 4 - 6].

حتى إذا صاروا جميعًا على أرض المحشر، نزَلت ملائكة السَّماء فأحاطت بملائكة السماء الدُّنْيا، ثم كل سماء كذلك. فبينما هم مجتمعون إذ جاء الله ربُّ العالمين لفَصْل القضاء، (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ( [الزمر: 69], وتميَّز المجرمون مِن المؤمنين، ونُصِب الميزان، وأُحضر الدِّيوان، واستُدعي الشُّهود، وشهدت يومئذٍ الأيدي والألْسُن والأرجل والجلود.

أيها المسلمون: وفي يوم القيامة يَحصل لقاء العبد بربِّه وتقريره لذنوبه: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) [الانشقاق: 6]. في يوم القيامة، يَكون العرض والحساب: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة: 18]. (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 6 - 8]. قال رسول الله: "مَا مِنْكُمْ مِنْ رَجُلٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى شَيْئًا إِلاَّ شَيْئًا قَدَّمَهُ، ثُمَّ يَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى شَيْئًا إِلاَّ شَيْئًا قَدَّمَهُ، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَقِيَ وَجْهَهُ حَرَّ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ".

أيها المؤمنون: ثم بعد ذلك يُوضع الكتاب: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49]. وتشهد الأعضاء والجوارح: (حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [فصلت: 20 - 21].

وتُنشَر صحائف الأعمال، فآخِذٌ لها باليمين، وآخذ لها بالشمال: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا) [الانشقاق: 7 - 12], ثم تُوزَن الأعمال: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47]. فياسعادة أهل التقوى والصلاح والعبادة, وسحقاً سحقاً لأهل الشقاء والتعاسة, ممن أعرض عن الله وطاعته في الدنيا, ياخسارة من سفك دماً أو أكل مالا حراماً, أو أخذ حق غيره ظلما (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ( [طه: 111]

ويُضرب الصراط، وهو دَحْض مَزَلَّة مُظْلِم، وجهنم تحته, ويمر الناس على الصراط، ويَختلف مرورهم عليه بحسب اختلاف استقامتهم على الصراط المستقيم في الدنيا؛ فمارٌّ كالبرق، وكالريح، وكالطير، وكالخيل، وساعٍ، وماشٍ، وزاحفٍ، وحابٍ حبْوًا. ويُنصب على جَنبيه كلاليب تَعُوق مَن علقت به عن العبور على حسب ما كانت تعوقه الدنيا والشهوات عن طاعة الله؛ فناجٍ مُسَلَّم، وناجٍ مخدوشٍ، ومكدوس في النار.

فإذا استقرَّ أهل الجنة في الجنة، وأهلُ النار في النار، أُتي بالموت في صورة كبْش أملح، فيُوقَف بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة، فيطَّلِعون وَجِلِين، ثم يُقال: يا أهل النار، فيطَّلِعون مُستبشِرين، فيقال: هل تعرفون هذا؟! فيقولون: نعم، وكلُّهم قد عرَفَه، فيقال: هذا الموت، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة: خُلود ولا موت، ويا أهل النار، خلود ولا موت.

فنسأل الله العظيم أن يجعلنا مِن أهل اليمين، ومن عباده المقربين، وحِزْبه المفْلِحين وأستغفر الله لي ولكم ولوادي ولسائر المسلمين والمسلمات.



الخطبة الثانية:

الحمد لله ذي العزة والكبرياء، تفرد -جل جلاله- بالدوام والبقاء, وكتب على من سواه الفناء, والصلاة والسلام على حبيبه المصطفى, وآله وصحبه ومن سار على نهجهم إلى يوم الحشر واللقاء.

أيها الناس: ورَبِّ السماء والأرض، لتُخرَجُنَّ من قبوركم، ولتُحشرنَّ إلى ربكم، ولتُحاسَبُنَّ على أعمالكم، ولتُجزَوُنَّ بما كنتم تعملون، ستحاسبون على القليل والكثير، والنَّقير والقِطْمير.

فاتقوا الله واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله, في موقف يُذِيب هولُه الأكبادَ، يَجمع الله الأوَّلين والآخِرين في صَعيد واحد، يَجمع الله بين كلِّ عامل وعمَلِه، وبين كلِّ نبي وأمَّته، وبين كل مظلوم ومظْلِمته: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [غافر: 17].

في ذلك اليوم الأبصار شاخصة، والشمس من الرُّؤوس دانية، قد علا أهلَ الموقف العرَقُ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، يفرُّ فيه المرء من أخيه، وأمِّه وأبيه، وصاحبته وبَنِيه، لكلِّ امرئٍ منهم يومئذٍ شأن يُغنيه، أهوالٌ شِداد، وأحوالٌ عِظام, تقول الرُّسُلُ يَوْمئِذ: "اللهمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ".

في ذلك اليوم يُحشر المتَّقون إلى الرَّحمن مكرمين وفدًا، ويُساق المجرمون إلى جهنم وِرْدًا، ظَمْأى عطْشَى, فاختر لنفسك المصير الذي تريد!.

فيا مَن سارت بالمعاصي أخبارُهم، يا مَن قد قبُح إعلانهم وإسرارُهم، يا مَن قد ساءت أفعالهم وأقوالُهم: تذكَّروا القبرَ المحفور، والنفخَ في الصور، تذكَّروا البعثَ والنشور، والكتابَ المسطور، تذكَّروا السماءَ يومَ تَمُور، والنجومَ وهي تغُور، والصراطَ وقد مُدُّ للعبور (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا( [مريم: 71، 72].

فأينَ الباكي على معاصيه وما جَنى؟! أين المستغفِر قبل الموت والفَنا؟! أين التائب ممَّا مضى؟! إن التَّوبُ قبل الموت مقبول، وعفْوُ الله مأمول، "إنَّ الله -عز وجل- يبسط يدَه بالليل؛ ليتوب مُسِيءُ النهار، ويبسط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيء الليل، حتى تطلعَ الشمس من مغربها". فيا فوزَ مَن تاب، ويا سعادةَ من آب، والله يقول: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ) [طه: 82].

ألا صلوا وسلموا على الحبيب المصطفى؛ حيث أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
[/align]
المشاهدات 1115 | التعليقات 0