الداَّءُ القديمُ المُتَجَدِّدُ
عبدالمحسن بن محمد العامر
1442/07/13 - 2021/02/25 08:29AM
الحمدُ للهِ المُنْعِمِ المفْضالِ، الكبيرِ المُتعالِ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، تباركَ ذو العظمَةِ والجلالِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبِه ومَنْ تبعهم بإيمانٍ وامتثالٍ إلى يومِ المرجعِ والمآلِ.. أما بعد: فيا عبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ تعالى، فالتقوى، تجلو القلوبَ، وتصفِّي النُّفوسَ، وتزكي الأرواحَ "وتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى واتقونِ يا أولي الألبابِ"
معاشرَ المؤمنين: جاءَ الإسلامُ فأرادَ لَنَا أنْ نكونَ مجتمعاً متحابَّاً مُتَوادَّاً، تسودُهُ الأُلفَة، وتُرَفْرِفُ عليه الأُخُوَّةُ، وَشائجُهُ قَويَّةٌ، وتواصلُه متينٌ، وتعاضُدُه شديدٌ، ونهانا عن كلِّ مايُقوِّضُ هذا ويُضعِفُه، أو يَهْدِمُه. ومِنْ أعظَمِ هَوَادِمِ الأُخوَّةِ، وقَوَاطِعِ المودّةِ؛ التي تفكّكُ المجتمعاتِ، وتُوْهِنُ الصِّلاةِ، وتَجْلِبُ العداواتِ؛ سلوكُ البَغْضَاءِ؛ وتَبَادُلُ التباغضِ بينَ المسلمين، نعم: فالبغضاءُ هدفٌ يسعى الشيطانُ لإيقاعِه بينَ المسلمينَ، لما يعرفُ مِنْ ضرَرِه لهم، وفتْكِه فيْهم، وما ينتجُ عنه مِنْ مكاسبَ شيطانيَّةٍ عظيمَةٍ، قال تعالى: "إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَـــنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَٰوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِى ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ" قال الطبري) :يقولُ تعالى ذكرُه : إنّما يُريْدُ لكم الشيطانُ شُرَبَ الخَمْرِ والمُيَاسَرَةَ بالقداحِ، ويُحَسِّنُ ذلك لَكُمْ؛ إرادةً منه أنْ يُوْقَعَ بَيْنَكُمُ العداوةَ والبَغْضَاءَ في شُربِكمُ الخَمرَ ومُيَاسَرَتِكُمْ بالقداحِ، ليعاديَ بعضُكم بعضًا، ويبغِّضَ بعضُكُمْ إلى بعضٍ، فَيُشتَّتَ أمرَكم بَعْدَ تأليفِ اللهِ بينكم بالإيمانِ، وجَمْعِهِ بينكم بأُخوةِ الإسلامِ، ويَصُدَّكم عن ذكرِ الله( انتهى كلامُه رحمه الله.
والبغضاءُ داءٌ قديمٌ فَتَكَ بالأممِ السابِقَةِ، وفرَّقهَا وجعلَ مجتمعاتِها مُمَزَّقَةً مفكَّكةً متناحرةً؛ عن الزُّبيرِ بنِ العوَّامِ رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"دبَّ إليكم داءُ الأممِ قبلَكُم: الحسدُ والبَغْضَاءُ، هي الحالقةُ، لا أقولُ تحلقُ الشِّعرَ، ولكنْ تَحْلِقُ الدِّيْنَ، والذي نفسي بيدِه لا تدخلوا الجنَّةَ حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أفلا أُنبِّئكم بما يُثْبِتُ ذلك لكم؟ أفشوا السَّلام بينكم" رواه الترمذيُّ والبزَّارُ وحسَّنه الألباني. قال الطِّيـبيُّ: البَغْضاءُ تَذْهَبُ بالدِّين كالموسى تَذْهَب بالشَّعر.
وقدْ نهانا عنها النبيُّ صلى الله عليه وسلم نهياً صريحاً في جُمْلةِ سلوكيَّات سيِّئةٍ؛ فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إيَّاكم والظَّنَّ؛ فإنَّ الظَّنَّ أكذبُ الحديثِ، ولا تحسَّسَوا، ولا تجسَّسَوا، ولا تحاسَدوا، ولا تباغضُوا، ولا تدابروا، وكونوا عبادَ اللهِ إخوانًا" متفق عليه.
وما أسوءَ البغضاءَ إذا كانتْ بينَ الأقاربِ وذوي الأرحامِ، وبينَ الأهلِ والإخوان؛ فهذه واللهِ قاصمةُ ظَهرِ المودَّةِ، وهي داءُ القطيعةِ الساري بينهم، الذي يَصْعُبُ علاجُه، وتفنى الأجيالُ قبلَ صلاحِه، وما أشدَّ إثمَ مَنْ سعى بينَ قرابتِه وذوي أرحامِه؛ ناشراً للبغضاء، موغراً للصدور، مؤجِّجَاً نارَ العداوةِ والقطيعةِ، وما أعْظَمَ ذَنْبَ مَنْ ربَّى أولادَه على بُغْضِ أقاربِهم وذوي أرحامِهم، ونشّأَهم على ذلك، فأصبحتْ البغضاءُ فيهم متوارثةً، والكراهيةُ متأصِّلةً، فَكَمْ مِنْ الأوزارِ سيحملونَ، وَكَمْ مِنَ الآثامِ سيجمعون؟
سنَّ الضَّغائنَ آباءٌ لنا سلفوا ** فلن تبيدَ وللآباءِ أبناءُ
وَكَمْ مِنْ مُتَبَجِّحٍ بالبغضاءِ، مالئٍ فاهُ بها، رافعٍ صوتَه بها في المجالسِ والمجامِعِ، يرى أنَّه مِحْوَرُ الكونِ، ومِيْزَانُ المجتَمَعِ، وما هي إلاَّ الشياطينُ تتكلمُ على لسانِه، والنفسُ الأمَّارةُ بالسوء تَدفعُه لشرِّ مآله، والقلبُ المريضُ يتشفَّى بالدّاءِ الذي يحْسِبُهُ الدواءَ.
عبادَ اللهِ: لا تجوزُ البغضاءُ بينَ المسلمينَ بغير حقٍّ أو سببٍ شرعيٍّ، قالَ الإمامُ ابنُ بازٍ رحمه اللهُ: (الوجبُ على المسلمِ أنْ يُحبَّ أخاهُ المسلمَ في اللهِ، ولا يُبغِضْه إلا إذا كان يتعاطى مُنكراتٍ؛ أبغضَه على قَدْرِها .. إلى آخر كلامِه رحمه الله) والمنهجُ الشرعيُّ في البغضِ؛ أنْ لا نبغضَ إلا في اللهِ، أو مَنْ أبغضَهُ اللهُ أو أَمَرَنَا ببغضِه، فمعَ النهي الشديدِ مِنْ الشارعِ الحكيمِ عن البغضاءِ؛ إلا إنه جَعَلَها مِنْ أوثقِ عُرى الإيمانِ إذا كانتْ في اللهِ وللهِ، قال صلى الله عليه وسلم:"أوْثَقُ عُرَى الإيمانِ، الحَبُّ في اللهِ، والبغضُ في اللهِ" حسَّنَه الألباني، و جَعَلَ مَنْ حَقَّقَ ذلك مستكملاً للإيمانِ قال صلى الله عليه وسلم: "مَن أحبَّ للَّهِ وأبغضَ للَّهِ ، وأعطى للَّهِ ومنعَ للَّهِ فقدِ استَكْملَ الإيمانَ" حسَّنَه الألباني.
ثُمَّ إنَّ هناكَ أُموراً ينبغي لنا أنْ نتعاملَ معها بواقعيةٍ، وأنْ نُقدِّرَها بقدرِها، لا أنْ نُعَظِّمَها في نفوسِنا، ونُكَبِّرَها في قلوبِنا فتسبِّبَ لنا البغضَاءَ، وتوقِعنَا فيها؛ فالخلافاتُ بمختلفِ أسبَابِها الشرْعيَّة، واختلافُ وُجُهاتِ النظرِ، والنزاعاتُ الماديُّةُ، والمطالبةُ بالحقوقِ، والردُّ على المُخالِفِ، وتَصْحيحُ خطأُ المخطئِ، وكذلك ما يكونُ مِنْ المديرِ مع موظفيهِ، والمدرسُ مع طلابِه، مادامَ في دائرةِ المصلحةِ، ولم يَكنْ خطأً متعَمَّداً، ولا ظُلماً صريحاً، فهذه الأمورُ وما شابهَهَا من تعامُلاتِنا، اليوميةِ، وسلوكياتِنا الحياتيةِ، لو استسلمْنَا لدوافعِ البغضاءِ فيها لصرنا مُجتمَعاً متباغضَاً على أمورٍ دنيويةٍ، ومِنْ ثَمَّ وقَعَتْ فينا نتائجُ البغضاءِ، وعادتْ علينا ويلاتُها وشرورُها، وهل البغضاءُ إلا شرٌّ وعقوبَةٌ عَاقَبَ بها اللهُ أُمَمَاً سلفتْ، قال تعالى: "وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ" باركَ اللهُ لي ولكم بالكتابِ والسنةِ، ونفعنَا بما
صرفَ فيهما من الآياتِ والحكمةِ. أقولُ قولي هذا وأستغفر اللهَ لي ولكم فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله على نعمة الإيمانِ وأكرمْ بها نعمَةً، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، اتصفَ بالمحبَّةِ والرحمةِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه علَّم الكتابَ والحِكْمَةَ، صلى الله وسلم عليه، وعلى آلِه وأصحابِه، ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يوم العذابِ والنِّقمَةِ. أمّا بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: اتقوا الله "وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ"
معاشر المؤمنين: الأسبابُ التي تؤدي إلى البغضاءِ وتوقعُ فيها كثيرةٌ وعديدةٌ، فالغيبةُ والنَّمِيمَةُ مِنْ أعْظَمِ أسبابِ الكَرَاهِيةِ والبَغْضَاءِ والتشاحنِ، قالَ بعضُ الحكماء: (النَّمِيمَةُ تُهْدِي إلى القلوبِ البَغْضَاءَ، ومَنْ وَاجَهَكَ فقد شتمَك، ومَن نَقَلَ إليكَ فقد نقلَ عنك، والسَّاعي بالنَّمِيمَةِ كاذبٌ لمنْ يسعى إليه، وخائنٌ لمن يسعى به) وكذلك الكذب واستغفالُ الآخرينَ والغِشُّ، وكذلك قسوةُ القلبِ، والغِلظَةُ والفَظَاظَةُ؛ فهذِه الأخلاقُ تنفِّرُ بينَ القلوبِ، وتُشيعُ الكَرَاهِيةَ والبَغْضَاءَ، وكذلك الغَيْرَةُ : قال ابنُ القيِّم: (إنَّ الغَيْرَةَ تتضمَّنُ البُغْضَ والكَرَاهَةَ) وكذلك تعمُّدُ الظُّلْمَ وتجنُّبُ العدلَ، والتعدي على حقوقِ الآخرينَ بأيِّ نوعٍ مِنْ أنواعِ التعدي.
أمّا الأسبابُ التي تعينُ على تجنُّبِ البغضاءِ فمِنْ أعظمِها الدُّعاءُ فقدْ كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء العظيمِ: "ربِّ أعنِّي ولا تُعِنْ عليَّ، وانصرني ولا تنصرْ عليَّ، وامكرْ لي ولا تمكرْ عليَّ، واهدني ويسرِ الهدي لي، وانصرني على من بَغى عليَّ، ربِّ اجعلني لك شاكرًا، لك ذاكرًا، لك راهبًا، لك مُطْوَاعًا، إليك مُخبتًا أو مُنيبًا، تقبَّلْ توبتي، واغسلْ حوبتي، وأجبْ دعوتي، وثبِّتْ حُجتي، واهد قلبي، وسدِّدْ لساني، واسلُلْ سَخِيْمَةَ قلبي" رواه أبو داود والترمذيُّ وقال حسنٌ صحيحٌ وصححه الألباني، والسخيمة هي الحقْدُ في النفسِ، ومِنْ أعْظَمِها أيضاً: الإحسانُ إلى المسيءِ، والعفوُ عن المخطئِ، قالَ تعالى: "وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" ومنها: الإنصاف؛ فبالإنصاف تُنْـتَزَع صفاتُ الحقدِ والكَرَاهِيةِ، لتحلَّ محلَّها صفاتُ الاحترامِ والحبِّ والتَّنافسِ في الخيراتِ، ومنها: المعاتبةُ دونَ إكثارٍ؛ فالمعاتبةُ تنقِّي النُّفوسَ مِنْ الشَّرِّ والكَرَاهِيةِ، وتزيدُ المحبَّةَ والألفةَ، إذا كانتْ برفقٍ ولينٍ، دونَ جدالٍ، مع حسنِ انتقاءِ الألفاظِ، وبُعْدٍ عَنْ اللَّومِ الشَّديدِ والتَّجْرِيْحِ.
هذا وصلوا وسلموا على رسول الله...