الخوف من الله جل جلاله
ضيدان بن عبد الرحمن اليامي
1434/04/25 - 2013/03/07 17:35PM
عباد الله ، في كتابِ الله مواعِظُ لمن اتَّعَظ , وذكرى لمن ادّكر , مواعِظُ وذِكرى توقِظُ القلبَ المستنير , وتأخُذُ بمجامعِ ذي البصيرةِ المنيب , ويقظةُ القلوبِ تحيا بموت الهوى , وغفلةُ النفوسِ تنقشِعُ بحلول الخشية , والكسلُ تطرُدُه سهامُ الحذَر , فلا سكونَ لخائف , ولا قرارَ لعارِف .
عبادَ الله ، إنَّ اللهَ خَلَقَ الخَلْقَ ليعرِفوهُ ويعبُدُوه ويُحبُّوه ويُعظّمُوه , نَصَبَ لهم الأدلةُ الدالةُ على عظمتِهِ وكبريائِهِ ليهابوه ويخافوه , خوفَ إجلالٍ وتقديرٍ ومحبّةٍ وتعظيم . دعا عبادَهُ إلى خشيِتِه وتقواه , والمسارعةِ إلى امتثالِ ما يحبه ويرضاه , والمباعَدَةِ عما ينهَى عنه ويكرهه ويأباه.
فالخوفُ من الله ، علامةُ الاستغناءِ بالله تعالى وحده ، فالقلوبُ لا تحيا إلا بالخوف من الله , فهو الذي إلى الخيرِ يسوقُها , ومن الشرِّ يحذّرُها , وإلى العِلمِ والعمَلِ يدفعُها , بالخوفِ تكفُّ الجوارحُ عن المعاصي , وتستقيمُ على الطاعات , ويَسلَمُ المرءُ من الأهواء والشهوات . بالخوف يحصلُ للقلبِ خشوعٌ وذِلّةٌ واستكانةٌ وانقيادٌ وتواضعٌ لله ربّ العالمين ، يَنشغلُ بالمراقبةِ والمحاسبةِ , ( أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ، الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ).
الخوفُ من الله يثيرُ دَوامَ ذكرِ اللهِ ، وصلاحَ العملِ ، والمسابقةَ إلى الخيرات ، والزهدَ في الدنيا ، والرغبةَ في الآخرة , ويمنعُ الكبرَ والعجبَ والخيلاء . بالخوف ينتفِعُ القلبُ بالنذُرِ والمواعظِ والزواجر ، (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ) [الزمر23]، )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون) [الأنفال 2].
والخوفُ المقصودُ هو اضطرابُ القلبِ وقَلقُهُ وانزعاجُهُ لما يَتَوقَّعُهُ ويَخشاهُ من عقوبةِ اللهِ على فعلِ محرَّم ، أو تركِ واجب ، أو التقصيرِ في جنبِ الله ، والإشفاقِ من عدم القبولِ للعمل .
والخوفُ المحمودُ ما قادَ إلى العملِ الصالح , وحجَزَ عن المحارمِ ظاهرًا وباطنًا , وحَمَلَ على أداءِ الفرائضِ والمسارعةِ إلى الخيرات , فإن زادت شدّتُه بأن أورثت مرضًا أو همًّا لازما بحيث ينقطعُ عن العملِ أو يَدخلُ في دائرةِ اليأسِ والقنوطِ فهو خوفٌ مذمومٌ غيرُ محمود.
والخائفُ من تَركَ ما يقدرُ عليه مما نهى الله عنه خوفا منه سبحانه ، فما أعظم أجره من الله (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) [الرحمن 46]. عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم – قَالَ : «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ : إمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأ في عِبَادَةِ الله - عز وجل - وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمَسَاجِدِ ، وَرَجُلاَنِ تَحَابّا في اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيهِ وتَفَرَّقَا عَلَيهِ ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ حُسْنٍ وَجَمَالٍ ، فَقَالَ : إنِّي أخَافُ الله ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ ، فَأخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
وعلامةُ الخوفِ قِصَرُ الأملِ ، وكثرةُ العمل ، ودوامُ المراقبةِ في السِّرِّ والعلن . الخوفُ ينشأُ من معرفةِ قُبحِ الجنايةِ ، والتصديقِ بالوعيدِ ، والخوفِ من حرمانِ التوبةِ وعدمِ القبول , فالخائفُ مشفقٌ من ذنبه , طالبٌ من ربّه أن يدخلَهُ في رحمتِهِ ويغفرَ ذنبَه .
(أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً ، وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً ) ، (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي ، فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ، لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ ) .
والخائفُ البصيرُ لا يأمنُ من أربعِ خصالِ : أمرٍ مضى لا يدري ما اللهُ صانعٌ فيه , وأمرٍ يأتي لا يدري ما اللهُ قاضٍ فيه , وفضلٍ قد أُعطِيه لعلّه مكرٌ واستدراج , وضلالةٍ قد زُيّنت فيراها صاحبُها هدى . وَلَزيغُ القلبِ أسرعُ من طَرْفَةِ العين , فقد يُسلَبُ العبدُ دينَه وهو لا يشعر . لما حضرت سفيانَ الثوري – رحمه الله - الوفاةُ جَعَلَ يبكي , فقال له رجل : يا أبا عبد الله , أراك كثيرَ الذنوب ؟ فَرَفَعَ شيئًا من الأرض ، وقال : واللهِ لذنوبي أهونُ عندي من هذا , ولكنْ أخافُ أنْ أُسلبَ التوحيدَ قبل الموت .
الخوفُ من الله يجعلُ العبدَ دائمَ اليقظة , جادَّ العزيمة , دائِبَ الفكرِ فيما يُصلِحُ معاشَهُ ومَعَادَه , كثيرَ الوجلِ من سوءِ المصير.
خافَ حقَّ الخوف من لم يأكل حرامًا , ولم يكسب حرامًا , ولم يشهد زورًا , ولم يحلفْ كذبًا , ولم يُخلفْ وعدًا , ولم يخنْ عهدًا , ولم يغشَّ في معاملة , ولم يخنْ في شِرِكَة , ولم يمشِ في نميمة , ولم يتركِ النصيحة , ولم يهجُرْ مساجدَ الله , ولم يتخلّفْ عن صلاةِ الجماعة , ولم يضيّعْ زمانَه في اللهو والغفلة. خَافَ حقَّ الخوفِ من أقامَ الصلاة , وآتى الزكاة , وصامَ فرضَه , وأطاعَ ربّه , ووصَلَ رحمَه , وأمرَ بالمعروف , ونهى عن المنكر, وأعطى كلَّ ذي حقّ حقّه . وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية ، وما فارق الخوف قلباً إلا خرب . وإذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها ، وطرد الدنيا عنها ، وأزعج النفوس للآخرة . قالت فاطمةُ بنتُ عبد الملك امرأةُ عمرَ ابنِ عبد العزيز للمغيرةِ بن حَكيم : « يا مغيرةُ ، إنّه قد يكون في النّاس من هو أكثرُ صلاةً وصيامًا من عمر ، وما رأيت أحدًا قطّ كان أشدَّ فرقًا (أي خوفًا) من ربّه من عمر . كان إذا صلّى العشاءَ قَعَدَ في مسجدِهِ ثمّ رفع يديه ، فلم يزل يبكي حتّى تغلِبَهُ عيناه . ثمّ ينتبه فلا يزال يبكي حتّى تغلبه عيناه » ، دخل عمر بن عبد العزيز – رحمه الله - على فاطمة امرأته فعاتبته على عدم الانفاقِ على نفسِهِ وأهلِهِ وهو خليفةُ المسلمين وبيده خزائنُ الأموال العظيمة ، . فقام وهو يقول بصوت حزين : يا فاطمة ، إنّي أخاف إن عصيتُ ربّي عذاب يوم عظيم . فبكت فاطمة ، وقالت : اللهمّ أعذه من النّار» .
أين الخوفُ من اللهِ اليوم في قلوبنا ؟! أين الخوفُ من الله في أعمالنا ؟! ، أين الخوفُ من الله في ديننا ؟! ، أين الخوفُ من الله في أعراضنا ؟! ، أين الخوفُ من الله في أموالنا ؟! ، أين الخوف من الله في والدينا ؟! ، أين الخوف من الله في أقاربنا وأرحامنا ؟! ، أين الخوفُ من الله في تعاملنا مع إخواننا المسلمين ؟! ، أين الخوف من الله في أداء الصلوات وصلاةِ الفجر خاصة ؟! ، نائمون منعمون ، ساهون لاهون ، (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ ، أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ، أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)[ الأعراف 97 ، 99].
واللهِ لو خفنا من الله ، لأخافَ اللهُ منا المخلوقات ، ويَسَّرَ لنا الأمور ، وذلَّلَ لنا الطاعات ، وَوَفَّرَ لنا الأوقات ، وبارك لنا في أمولنِا وأولادِنا وأعمارِنا ، وباركَ لنا في الكلمة ، وباركَ لنا في كلِّ شيء . وكلُّ أحدٍ إذا خِفتَهُ هربت منه إلا اللهَ عزَّ وجلَّ ، فإنك إذا خفتَهُ فررت إليه . فكم من مغبوطٍ بحالِهِ ، انعكس عليه الحال ، ورجعَ من أحسنِ الأعمالِ إلى أقبحِ الأعمال ، واستُبدلَ بالأنسِ وحشة ، وبالحضورِ غَيبة ، وبالقرب بعداً .
الخوف من الله عز وجل يجبُ أن يتعادلَ مع الرجاء ، ولكنْ يجبُ أن يكون الخوفُ أكثرَ من الرجاء ، ولأن نخافُ اليوم ونعمل ، ونأمنُ يومَ القيامة خيرٌ لنا من أن نأمن اليومَ ونخافُ يوم القيامة . قال الفضيل بن عياض : «الخوفُ أفضلُ من الرّجاء ما كان الرّجلُ صحيحا ، فإذا نزل الموتُ فالرّجاءُ أفضل » .
وعن أنس- رضي الله عنه- قال : دخل النبيُّ -صلّى الله عليه وسلّم - على شابٍ وهو في الموت ، فقال : «كيف تجدك؟» . قال : والله يا رسول الله ، إني أرجو اللهَ وإني أخاف ذنوبي . فقال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- : «لا يجتمعان في قلبِ عبدٍ في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو ، وآمنه مما يخاف» . حسن ، رواه الترمذي واللفظ له ، وابن ماجة .
الخائفون عبادٌ صالحون خاشعون وجلون مخبِتون , )رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) [النور37، 38] ، (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا ، إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ، فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا) [الإنسان 9،11].
من خافَ اللهَ لم يضرَّه أحد , ومن خاف غيرَ اللهِ لم ينفعْه أحد , وإذا سكن الخوفُ القلبَ أحرق مواضعَ الشهوات , والدمعةُ من خشية الله تطفِئ أمثالَ البحور من النار. فاتَّقوا الله عباد الله ، ولا تكونوا ممن قادتهم شهواتُهم , وغلبت عليهم شِقوَتُهم , فلا سِيَرَ الخائفين تحفِزُهم , ولا خَطَرَ سوءِ الخاتمةِ يُزعِجُهم , فسيروا رحمكم الله ، سيروا إلى اللهِ سيرا جميلا , واذكروا الله ذكرا كثيرًا , وسبحوه بكرة وأصيلا, واستغفروه ثم استغفروه , واندموا على تفريطكم ندمًا طويلا . والخوف سائق , والرجاء قائد , والله هو الموصل بمنّه وكرمه.
(فَأَمَّا مَن طَغَى ، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات37،41].
بارك الله .....
الخطبة الثانية :
أما بعد : فإنَّ مَن كان بالله أعرف كان منه أخوف , وملائكةُ الرحمن هم أعرف بربهم , (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[النحل50]. ورسل الله وأنبياؤُه هم سادات الخاشعين, (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) [الأحزاب39]. ثم يأتي أهل العِلم الربانيون, فهم أهل الخشية , (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر 28] .
ألا فاتقوا الله جميعًا واخشوه, فالمؤمنُ يجمعُ إحسانا وخشيةً, والمنافقُ يجمعُ إساءةً وأمنًا .
ويزولُ الخوفُ وسائرُ الآلامِ والأحزانِ في الجنة ، قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ، نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ) [فصلت30 ،32].
والخوف من الله على حسبِ القربِ من الله ، والمنزلةِ عنده ، وكلما كان العبدُ أقربَ إلى الله كان خوفُهُ منه أشد ؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أمَا والله إِنِّي لأخْشَاكُمْ لله وَأتْقَاكُمْ لَهُ » متفق عليه .
والعبدُ إذا عَلِمَ أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى هو مقلبُ القلوب ، وأنه يحولُ بين المرءِ وقلبِهِ ، وأنه يفعلُ ما يشاء ، ويحكمُ ما يريد ، وأنه يهدي من يشاء ، ويضلُ من يشاء ، فما يؤمنُهُ أن يقلبَ اللهُ قلبَه ويحولُ بينه وبينه ، ولولا خوفُ الإزاغةِ لما سأل المؤمنون ربهم بقولهم : (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) [آل عمران 8].
عباد الله ، اعملوا واستعدّوا ؛ فالموتُ مورِد , والساعةُ موعِد , والقيامةُ مَشهَد , فاستقيموا وأحسنوا , فمن أحسن الظنَّ بالله أحسنَ العمل , الإيمانُ ليس بالتحلّي ولا بالتمنّي , ولكن ما وقَر في القَلب وصدَّقه العمَل , ومن سار على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ومنهاجِهِ وإن اقتصَدَ سابِقٌ لمن سار على غَير طريقهِ وإن اجتهد , يمشي الهُوينى ويجيء أولا , )أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الملك 22].
اللهم إنّا نعوذ بك من زيغ القلوب وتبعات الذنوب ومُرديات الأعمال ومضلات الفتن .
عبادَ الله ، إنَّ اللهَ خَلَقَ الخَلْقَ ليعرِفوهُ ويعبُدُوه ويُحبُّوه ويُعظّمُوه , نَصَبَ لهم الأدلةُ الدالةُ على عظمتِهِ وكبريائِهِ ليهابوه ويخافوه , خوفَ إجلالٍ وتقديرٍ ومحبّةٍ وتعظيم . دعا عبادَهُ إلى خشيِتِه وتقواه , والمسارعةِ إلى امتثالِ ما يحبه ويرضاه , والمباعَدَةِ عما ينهَى عنه ويكرهه ويأباه.
فالخوفُ من الله ، علامةُ الاستغناءِ بالله تعالى وحده ، فالقلوبُ لا تحيا إلا بالخوف من الله , فهو الذي إلى الخيرِ يسوقُها , ومن الشرِّ يحذّرُها , وإلى العِلمِ والعمَلِ يدفعُها , بالخوفِ تكفُّ الجوارحُ عن المعاصي , وتستقيمُ على الطاعات , ويَسلَمُ المرءُ من الأهواء والشهوات . بالخوف يحصلُ للقلبِ خشوعٌ وذِلّةٌ واستكانةٌ وانقيادٌ وتواضعٌ لله ربّ العالمين ، يَنشغلُ بالمراقبةِ والمحاسبةِ , ( أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ، الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ).
الخوفُ من الله يثيرُ دَوامَ ذكرِ اللهِ ، وصلاحَ العملِ ، والمسابقةَ إلى الخيرات ، والزهدَ في الدنيا ، والرغبةَ في الآخرة , ويمنعُ الكبرَ والعجبَ والخيلاء . بالخوف ينتفِعُ القلبُ بالنذُرِ والمواعظِ والزواجر ، (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ) [الزمر23]، )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون) [الأنفال 2].
والخوفُ المقصودُ هو اضطرابُ القلبِ وقَلقُهُ وانزعاجُهُ لما يَتَوقَّعُهُ ويَخشاهُ من عقوبةِ اللهِ على فعلِ محرَّم ، أو تركِ واجب ، أو التقصيرِ في جنبِ الله ، والإشفاقِ من عدم القبولِ للعمل .
والخوفُ المحمودُ ما قادَ إلى العملِ الصالح , وحجَزَ عن المحارمِ ظاهرًا وباطنًا , وحَمَلَ على أداءِ الفرائضِ والمسارعةِ إلى الخيرات , فإن زادت شدّتُه بأن أورثت مرضًا أو همًّا لازما بحيث ينقطعُ عن العملِ أو يَدخلُ في دائرةِ اليأسِ والقنوطِ فهو خوفٌ مذمومٌ غيرُ محمود.
والخائفُ من تَركَ ما يقدرُ عليه مما نهى الله عنه خوفا منه سبحانه ، فما أعظم أجره من الله (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) [الرحمن 46]. عن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم – قَالَ : «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ : إمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأ في عِبَادَةِ الله - عز وجل - وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمَسَاجِدِ ، وَرَجُلاَنِ تَحَابّا في اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيهِ وتَفَرَّقَا عَلَيهِ ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ حُسْنٍ وَجَمَالٍ ، فَقَالَ : إنِّي أخَافُ الله ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ ، فَأخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
وعلامةُ الخوفِ قِصَرُ الأملِ ، وكثرةُ العمل ، ودوامُ المراقبةِ في السِّرِّ والعلن . الخوفُ ينشأُ من معرفةِ قُبحِ الجنايةِ ، والتصديقِ بالوعيدِ ، والخوفِ من حرمانِ التوبةِ وعدمِ القبول , فالخائفُ مشفقٌ من ذنبه , طالبٌ من ربّه أن يدخلَهُ في رحمتِهِ ويغفرَ ذنبَه .
(أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً ، وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً ) ، (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي ، فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ، لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ ) .
والخائفُ البصيرُ لا يأمنُ من أربعِ خصالِ : أمرٍ مضى لا يدري ما اللهُ صانعٌ فيه , وأمرٍ يأتي لا يدري ما اللهُ قاضٍ فيه , وفضلٍ قد أُعطِيه لعلّه مكرٌ واستدراج , وضلالةٍ قد زُيّنت فيراها صاحبُها هدى . وَلَزيغُ القلبِ أسرعُ من طَرْفَةِ العين , فقد يُسلَبُ العبدُ دينَه وهو لا يشعر . لما حضرت سفيانَ الثوري – رحمه الله - الوفاةُ جَعَلَ يبكي , فقال له رجل : يا أبا عبد الله , أراك كثيرَ الذنوب ؟ فَرَفَعَ شيئًا من الأرض ، وقال : واللهِ لذنوبي أهونُ عندي من هذا , ولكنْ أخافُ أنْ أُسلبَ التوحيدَ قبل الموت .
الخوفُ من الله يجعلُ العبدَ دائمَ اليقظة , جادَّ العزيمة , دائِبَ الفكرِ فيما يُصلِحُ معاشَهُ ومَعَادَه , كثيرَ الوجلِ من سوءِ المصير.
خافَ حقَّ الخوف من لم يأكل حرامًا , ولم يكسب حرامًا , ولم يشهد زورًا , ولم يحلفْ كذبًا , ولم يُخلفْ وعدًا , ولم يخنْ عهدًا , ولم يغشَّ في معاملة , ولم يخنْ في شِرِكَة , ولم يمشِ في نميمة , ولم يتركِ النصيحة , ولم يهجُرْ مساجدَ الله , ولم يتخلّفْ عن صلاةِ الجماعة , ولم يضيّعْ زمانَه في اللهو والغفلة. خَافَ حقَّ الخوفِ من أقامَ الصلاة , وآتى الزكاة , وصامَ فرضَه , وأطاعَ ربّه , ووصَلَ رحمَه , وأمرَ بالمعروف , ونهى عن المنكر, وأعطى كلَّ ذي حقّ حقّه . وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية ، وما فارق الخوف قلباً إلا خرب . وإذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها ، وطرد الدنيا عنها ، وأزعج النفوس للآخرة . قالت فاطمةُ بنتُ عبد الملك امرأةُ عمرَ ابنِ عبد العزيز للمغيرةِ بن حَكيم : « يا مغيرةُ ، إنّه قد يكون في النّاس من هو أكثرُ صلاةً وصيامًا من عمر ، وما رأيت أحدًا قطّ كان أشدَّ فرقًا (أي خوفًا) من ربّه من عمر . كان إذا صلّى العشاءَ قَعَدَ في مسجدِهِ ثمّ رفع يديه ، فلم يزل يبكي حتّى تغلِبَهُ عيناه . ثمّ ينتبه فلا يزال يبكي حتّى تغلبه عيناه » ، دخل عمر بن عبد العزيز – رحمه الله - على فاطمة امرأته فعاتبته على عدم الانفاقِ على نفسِهِ وأهلِهِ وهو خليفةُ المسلمين وبيده خزائنُ الأموال العظيمة ، . فقام وهو يقول بصوت حزين : يا فاطمة ، إنّي أخاف إن عصيتُ ربّي عذاب يوم عظيم . فبكت فاطمة ، وقالت : اللهمّ أعذه من النّار» .
أين الخوفُ من اللهِ اليوم في قلوبنا ؟! أين الخوفُ من الله في أعمالنا ؟! ، أين الخوفُ من الله في ديننا ؟! ، أين الخوفُ من الله في أعراضنا ؟! ، أين الخوفُ من الله في أموالنا ؟! ، أين الخوف من الله في والدينا ؟! ، أين الخوف من الله في أقاربنا وأرحامنا ؟! ، أين الخوفُ من الله في تعاملنا مع إخواننا المسلمين ؟! ، أين الخوف من الله في أداء الصلوات وصلاةِ الفجر خاصة ؟! ، نائمون منعمون ، ساهون لاهون ، (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ ، أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ، أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)[ الأعراف 97 ، 99].
واللهِ لو خفنا من الله ، لأخافَ اللهُ منا المخلوقات ، ويَسَّرَ لنا الأمور ، وذلَّلَ لنا الطاعات ، وَوَفَّرَ لنا الأوقات ، وبارك لنا في أمولنِا وأولادِنا وأعمارِنا ، وباركَ لنا في الكلمة ، وباركَ لنا في كلِّ شيء . وكلُّ أحدٍ إذا خِفتَهُ هربت منه إلا اللهَ عزَّ وجلَّ ، فإنك إذا خفتَهُ فررت إليه . فكم من مغبوطٍ بحالِهِ ، انعكس عليه الحال ، ورجعَ من أحسنِ الأعمالِ إلى أقبحِ الأعمال ، واستُبدلَ بالأنسِ وحشة ، وبالحضورِ غَيبة ، وبالقرب بعداً .
الخوف من الله عز وجل يجبُ أن يتعادلَ مع الرجاء ، ولكنْ يجبُ أن يكون الخوفُ أكثرَ من الرجاء ، ولأن نخافُ اليوم ونعمل ، ونأمنُ يومَ القيامة خيرٌ لنا من أن نأمن اليومَ ونخافُ يوم القيامة . قال الفضيل بن عياض : «الخوفُ أفضلُ من الرّجاء ما كان الرّجلُ صحيحا ، فإذا نزل الموتُ فالرّجاءُ أفضل » .
وعن أنس- رضي الله عنه- قال : دخل النبيُّ -صلّى الله عليه وسلّم - على شابٍ وهو في الموت ، فقال : «كيف تجدك؟» . قال : والله يا رسول الله ، إني أرجو اللهَ وإني أخاف ذنوبي . فقال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- : «لا يجتمعان في قلبِ عبدٍ في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو ، وآمنه مما يخاف» . حسن ، رواه الترمذي واللفظ له ، وابن ماجة .
الخائفون عبادٌ صالحون خاشعون وجلون مخبِتون , )رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) [النور37، 38] ، (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا ، إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ، فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا) [الإنسان 9،11].
من خافَ اللهَ لم يضرَّه أحد , ومن خاف غيرَ اللهِ لم ينفعْه أحد , وإذا سكن الخوفُ القلبَ أحرق مواضعَ الشهوات , والدمعةُ من خشية الله تطفِئ أمثالَ البحور من النار. فاتَّقوا الله عباد الله ، ولا تكونوا ممن قادتهم شهواتُهم , وغلبت عليهم شِقوَتُهم , فلا سِيَرَ الخائفين تحفِزُهم , ولا خَطَرَ سوءِ الخاتمةِ يُزعِجُهم , فسيروا رحمكم الله ، سيروا إلى اللهِ سيرا جميلا , واذكروا الله ذكرا كثيرًا , وسبحوه بكرة وأصيلا, واستغفروه ثم استغفروه , واندموا على تفريطكم ندمًا طويلا . والخوف سائق , والرجاء قائد , والله هو الموصل بمنّه وكرمه.
(فَأَمَّا مَن طَغَى ، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات37،41].
بارك الله .....
الخطبة الثانية :
أما بعد : فإنَّ مَن كان بالله أعرف كان منه أخوف , وملائكةُ الرحمن هم أعرف بربهم , (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[النحل50]. ورسل الله وأنبياؤُه هم سادات الخاشعين, (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) [الأحزاب39]. ثم يأتي أهل العِلم الربانيون, فهم أهل الخشية , (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر 28] .
ألا فاتقوا الله جميعًا واخشوه, فالمؤمنُ يجمعُ إحسانا وخشيةً, والمنافقُ يجمعُ إساءةً وأمنًا .
ويزولُ الخوفُ وسائرُ الآلامِ والأحزانِ في الجنة ، قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ، نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ) [فصلت30 ،32].
والخوف من الله على حسبِ القربِ من الله ، والمنزلةِ عنده ، وكلما كان العبدُ أقربَ إلى الله كان خوفُهُ منه أشد ؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أمَا والله إِنِّي لأخْشَاكُمْ لله وَأتْقَاكُمْ لَهُ » متفق عليه .
والعبدُ إذا عَلِمَ أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى هو مقلبُ القلوب ، وأنه يحولُ بين المرءِ وقلبِهِ ، وأنه يفعلُ ما يشاء ، ويحكمُ ما يريد ، وأنه يهدي من يشاء ، ويضلُ من يشاء ، فما يؤمنُهُ أن يقلبَ اللهُ قلبَه ويحولُ بينه وبينه ، ولولا خوفُ الإزاغةِ لما سأل المؤمنون ربهم بقولهم : (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) [آل عمران 8].
عباد الله ، اعملوا واستعدّوا ؛ فالموتُ مورِد , والساعةُ موعِد , والقيامةُ مَشهَد , فاستقيموا وأحسنوا , فمن أحسن الظنَّ بالله أحسنَ العمل , الإيمانُ ليس بالتحلّي ولا بالتمنّي , ولكن ما وقَر في القَلب وصدَّقه العمَل , ومن سار على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ومنهاجِهِ وإن اقتصَدَ سابِقٌ لمن سار على غَير طريقهِ وإن اجتهد , يمشي الهُوينى ويجيء أولا , )أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الملك 22].
اللهم إنّا نعوذ بك من زيغ القلوب وتبعات الذنوب ومُرديات الأعمال ومضلات الفتن .