الخوف من الله تعالى

د. محمود بن أحمد الدوسري
1440/05/14 - 2019/01/20 21:46PM
الخوف من الله تعالى
د. محمود بن أحمد الدوسري

14/5/1440هـ

     الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده: من المهمات التي بُعِثَ بها نبيُّ الأمة محمد صلى الله عليه وسلم تزكية النفوس, ومن وسائل تزكية النفس الخوف من الله تعالى. وإذا كان المسلم محتاجاً إلى تزكية نفسه بالخوف من الله تعالى في كل وقت, فإن الحاجة إليه في هذا الزمن شديدة؛ لكثرة المُغرَيات والفِتن.
والخوف من الله تعالى واجب على كل مؤمن ومؤمنة؛ كما قال سبحانه: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175].
     ويُعرَّف الخوف: بأنه تألُّم القلب واحتراقُه بسبب توقُّع مكروهٍ في المستقبل, وهو الذي يكفُّ الجوارحَ عن المعاصي, ويُقيِّدها بالطاعات.
       أمَّا الخوف القاصر: فهو الذي يدعو العبدَ إلى الغفلة, والجُرأة على الذنب.
       وعكس ذلك الإفراط في الخوف: حيث يدعو إلى اليأس والقنوط.
       عباد الله .. هناك فرق بين الخوف والخشية, قال ابن القيم - رحمه الله: (الخوف: هَرَب القلب من حُلول المكروه عند استشعاره. والخشية: أخصُّ من الخوف, فإن الخشية للعلماء بالله, قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28], فالخشية خوفٌ مقرون بمعرفة؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «وَاللهِ إِنِّي لأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ, وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً» متفق عليه)أ.هـ.
      والخوف قسمان: خوف فِطري, وخوف تعبُّدي. 
      فالخوف الفطري: كالخوف من حيوانٍ مُفترس, أو عدوٍّ, أو نارٍ, أو ظالم, ونحوها من الأمور التي فُطِر الإنسانُ من الخوف منها. وهذا الخوف لا يُنافي التوحيد, ولا يقدح في الإيمان؛ بل قد وقع للأنبياء والرسل. كخوف الإنسان من الثعبان؛ كما حصل لموسى - عليه السلام: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67]. وقال تعالى - عن موسى وهارون: {قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 45, 46]. وهذا الخوف؛ إن انعقدتْ أسبابُه - فليس بمذموم, وإنْ كان بلا سبب, أو له سببٌ ضعيف - فهو مذموم, ويُسمَّى جُبْناً, والجُبْن من الأخلاق الرذيلة التي تعوَّذ منها النبي صلى الله عليه وسلم.
       وأمَّا الخوف التعبُّدي: فهو خوف التَّألُّه والتَّقرُّب, وهو حقٌّ خالص لله تعالى, فلا يجوز صرفُه لغير الله, ومَنْ صَرَفَه لغير الله, فقد وقع في الشرك الأكبر المُخرج من الملة؛ كمَنْ يخشى صاحبَ قبرٍ أن يُصيبه بضرر, أو يُوقِع به مكروهاً في نفسه أو أهله أو ماله. قال الله تعالى: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175], وقال سبحانه: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 13], وقال تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56]. فلا بد من الخوف والرجاء في العبادة, ومن هنا يتَّضح ضَلالُ مَنْ زعم أنه لا يعبد اللهَ خوفاً من ناره, ولا طمعاً في جنَّته.
      أيها المسلمون .. والفرق بين الخوف الفطري, والخوف التعبدي.
     أن الخوف الفطري: خوفٌ من الكراهة. والخوف التعبُّدي: خوف مع الحب. فالذي يخاف من الأسد أو العدوِّ يكرهه, ولكن الذي يخاف من الله تعالى يُحبُّه, وكذلك المشرك الذي يخاف من قبرِ وليٍّ, أو صالحٍ يُحبُّه. واقترانُ الخوفِ بالحب هو العبادة بعينها.
    وكلُّ أحدٍ إذا خِفتَه هربتَ منه, إلاَّ الله تعالى, فإنك إذا خِفتَه هربتَ إليه؛ كما في قوله سبحانه: {فَفِرُّوا إِلَى اللهِ} [الذاريات: 50], فالخائف هارب من ربِّه إلى ربِّه.
     وأسباب الخوف من الله تعالى متنوعة: فتارةً تكون لمعرفة الله تعالى, ومعرفةِ أسمائه الحسنى وصفاته العلى؛ كالعزيز, والجبَّار, والمُتكبِّر, والقهَّار, والعظيم, والرَّقيب, والمُحيط, والغالب سبحانه, وأنه لو أهلك العالَمين لم يُبالِ, ولم يمنعه مانع. وتارةً تكون لكثرة الجِناية من العبد بارتكاب المعاصي. وتارةً تكون بهما جميعاً.
      وبَقدْرِ معرفةِ العبدِ بعيوب نفسِه ومعرفتِه بجلال الله تعالى واستغنائه, وأنه لا يُسأل عمَّا يفعل وهم يُسألون؛ تكون قوَّةُ خوفه. فأخوف الناس لربِّه أعرفُهم بنفسِه وبربِّه, ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَاللهِ إِنِّي لأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ, وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً» متفق عليه. وقال سبحانه - عن أهل العلم النافع: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. قال ابن مسعود - رضي الله عنه: (كفى بخشية الله علماً, وكفى بالاغترار جهلاً).
      والخوف له ألفاظ وأساليب متنوعة في القرآن الكريم: فَيُعبَّر عن الخوف في القرآن بالفَزَع, والرَّوع, والرَّهبة, والخِيفَة, والخَشية, قال الله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] أي: إن كنتم راهبين شيئاً فارهبونِ؛ للدلالة على أن المؤمن لا يرهب أحداً, ولا يخاف شيئاً إلاَّ الله سبحانه وتعالى. وهو سبحانه يُخوِّف عبادَه تارة بنفسه, وأُخرى بالترهيب من نار الجحيم, وثالثة بإهلاك الكافرين.
       ومن أقوال السلف في الخوف من الله تعالى: ما قاله أبو حفص: الخوف سوط الله يقوِّم به الشاردين عن بابه. وقال أبو سليمان: ما فارق الخوفُ قلباً إلاَّ خَرِبَ. وقال إبراهيم بن سفيان: إذا سكن الخوفُ القلوبَ؛ أحرق مواضِعَ الشهوات منها, وطرد الدنيا عنها. ولذا قيل: ليس الخائفُ مَنْ يبكي ويمسحُ عينيه, إنما الخائف مَنْ ترك ما اشتهى من الحرام إذا قَدَرَ عليه. وقال بعضُهم: خَفِ اللهَ على قدر قُدرتِه عليك, واستحِ من الله على قدر قُربه منك.
       عبادَ الله .. هناك فرق بين الخوف الصُوري, والخوف الحقيقي: كُلُّ إنسانٍ يدَّعي الخوفَ من الله تعالى, ولكنَّ هذا الخوف؛ إمَّا أن يكون صورةً أو حقيقة.
فمَنْ منَعَه خوفُه - من الله تعالى - من فِعْلِ المحرمَّات, وأدَّى الواجبات؛ فخوفه حقيقة. ومَنْ لم يمنعْه الخوفُ - من الله تعالى - من فِعلِ المحرمَّات, وتمادى بها؛ فإنَّ خوفَه صورةٌ لا حقيقة, وادِّعاءَهُ كاذب.
        ونتيجةً لهذا الخوف الصُّوري رأينا انتشار المعاصي والمنكرات في المجتمعات, فما خاف اللهَ حقيقةً مَنْ تجرَّأ على محارم الله تعالى, وما خاف اللهَ  حقيقةً مَنْ ترك الصلاةَ أو تهاون بها, أو تعامل بالرِّبا, أو ضَيَّعَ تربيةَ أولاده, وما خافت اللهَ حقيقةً مَنْ تبرَّجتْ, وكانت فِتنةً لكلِّ مفتون, وبالجملة؛ فكلُّ مَنْ ضَيَّع أوامرَ اللهِ سبحانه, وارتكب نواهيه, فما خاف الله تعالى, وعِقابُه - إنْ لم يتب - عند الله أليم.

الخطبة الثانية

       الحمد لله ... عباد الله .. إنَّ الخائفَ من الله تعالى له أجر عظيم, ومنزلة رفيعة: قال الله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46], أي: وللعبد الذي يخاف قيامَه بين يدي ربِّه للحساب جنَّتان. قال مجاهد: هو الرجل يَهُمُّ بالذنب فيذكر مقامَ ربِّه, فينزع عنه. وقال القرطبي: إنما كانتا اثنتين لِيُضاعَفَ له السرور بالتَّنقُّل من جهة إلى جهة. وقيل: إحدى الجنتين جزاءً على تركِ المنهيات, والأُخرى على فِعل الطاعات. قال النبي صلى الله عليه وسلم - في صفة هاتين الجنتين: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا, وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا» متفق عليه.
وقال سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40, 41].
       وقال - عليه الصلاة والسلام: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ... - وذكر منهم - وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ» متفق عليه.
      وقال صلى الله عليه وسلم: «ثَلاَثٌ مُنْجِيَاتٌ، وَثَلاَثٌ مُهْلِكَاتٌ، فَأَمَّا الْمُنْجِيَاتُ: فَتَقْوَى اللهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلاَنِيَةِ، وَالْقَوْلُ بِالْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالسُّخْطِ، وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَأَمَّا الْمُهْلِكَاتِ: فَهَوًى مُتَّبِعٌ، وَشُحٌّ مُطَاعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ» حسن - رواه البيهقي والبزار.
     ومن فضائل الخوف من الله تعالى: أنه سبحانه جَمَعَ لأهل الخوف: الهدى والرحمةَ والعلمَ والرِّضوان, فقال تعالى: {هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154]؛ وقال تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8]. وقد أمر الله تعالى بالخوف منه, وجعله شرطاً في صحة الإيمان, فقال: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]. وقال سبحانه - حاكياً عن أهل الجنة: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [أي: خائفين من عصيان الله تعالى مُعتنين بطاعته] * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [فأكرمنا الله بالمغفرة والجنة, وأجارنا ممَّا نخاف منه] * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 25-28]. وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12].
       وعن عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قالت: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]. قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: «لاَ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ, وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ, وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لاَ يُقْبَلَ مِنْهُمْ, أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ» صحيح - رواه الترمذي.
         قال الحسن - رحمه الله: (عَمِلوا - واللهِ - بالطاعات, واجتهدوا فيها, وخافوا أنْ تُردَّ عليهم, إنَّ المؤمن جَمَعَ إحساناً وخشيةً, والمنافق جَمَعَ إساءةً وأمْناً).

 

المرفقات

من-الله-2

من-الله-2

المشاهدات 790 | التعليقات 0